مقدمة
الإهداء
إهداء البدائع
دمعة على رئيس الحزب الوطني
الحياة الحرة
قبل الطعام والشراب
مسجد جديد
رفات شاعر
عبادة الجمال
العمر الضائع1
الإحسان إلى العقول
أرواح الكتاب
كيف يحكمون؟
وفي أنفسكم أفلا تبصرون
لا تسبوا الدهر!
شكوى عليل
غضبة الأسد
أصول الأخلاق
ذكرى الشيخ محمد عبده
مناقشة لغوية
فيه قولان!
بعثة البنات
غريب اللغة
ملك يرصد الكواكب
الجرائد المصرية
أين المصلحون؟
إشراك العقول
اكتشاف مؤامرة
باسم الآباء يرزقون
كتاب الجرائد الأدبية
جرائد الحزب الوطني
إنما ينافق الضعفاء
الأزهر الشريف
اتقوا الله في الجنس اللطيف
الجنون فنون!
بين الهدى والضلال
في سبيل الحب!
مومس تستبق الخيرات
نساؤنا ونساؤهم
مرض النوم!
حديث الحب
إطلاق المدافع؟!
بلاغة طالب
كلمة
علماء الأزهر الشريف
العفو يا هانم!
جناية الكتاب والشعراء
عاقبة اللجاجة
اخرجوا من عزلتكم وانظروا في أي عصر تعيشون
حب ابن أبي ربيعة وشعره
ذكرى صديق
ليلة وليلة
الليلة الثانية
تعلة الكريم
دواعي الشعر
في عالم السياسة
الحديث ذو شجون
الأدب الجديد
حديث القط
طفلة الحسناء
مقاصد الشعراء
في سبيل الوفاء
الأزهر الشريف
أمراضنا الاجتماعية
ليالي الاعتقال
حرقة ولوعة
ظلم العواطف
الأمل الضائع
في يوم العيد
الشباب والمشيب
أفي الإنجليز مسلمون؟
ليالي سنتريس
في السياسة المصرية
أين صفو الشباب؟
في موقف التوديع
بعض الناس
الفزع إلى الحكمة
مقدمة
الإهداء
إهداء البدائع
دمعة على رئيس الحزب الوطني
الحياة الحرة
قبل الطعام والشراب
مسجد جديد
رفات شاعر
عبادة الجمال
العمر الضائع1
الإحسان إلى العقول
أرواح الكتاب
كيف يحكمون؟
وفي أنفسكم أفلا تبصرون
لا تسبوا الدهر!
شكوى عليل
غضبة الأسد
أصول الأخلاق
ذكرى الشيخ محمد عبده
مناقشة لغوية
فيه قولان!
بعثة البنات
غريب اللغة
ملك يرصد الكواكب
الجرائد المصرية
أين المصلحون؟
إشراك العقول
اكتشاف مؤامرة
باسم الآباء يرزقون
كتاب الجرائد الأدبية
جرائد الحزب الوطني
إنما ينافق الضعفاء
الأزهر الشريف
اتقوا الله في الجنس اللطيف
الجنون فنون!
بين الهدى والضلال
في سبيل الحب!
مومس تستبق الخيرات
نساؤنا ونساؤهم
مرض النوم!
حديث الحب
إطلاق المدافع؟!
بلاغة طالب
كلمة
علماء الأزهر الشريف
العفو يا هانم!
جناية الكتاب والشعراء
عاقبة اللجاجة
اخرجوا من عزلتكم وانظروا في أي عصر تعيشون
حب ابن أبي ربيعة وشعره
ذكرى صديق
ليلة وليلة
الليلة الثانية
تعلة الكريم
دواعي الشعر
في عالم السياسة
الحديث ذو شجون
الأدب الجديد
حديث القط
طفلة الحسناء
مقاصد الشعراء
في سبيل الوفاء
الأزهر الشريف
أمراضنا الاجتماعية
ليالي الاعتقال
حرقة ولوعة
ظلم العواطف
الأمل الضائع
في يوم العيد
الشباب والمشيب
أفي الإنجليز مسلمون؟
ليالي سنتريس
في السياسة المصرية
أين صفو الشباب؟
في موقف التوديع
بعض الناس
الفزع إلى الحكمة
البدائع
البدائع
تأليف
زكي مبارك
مقدمة
ما بال فريق من الناس، يؤمنون بما خلقت له أيديهم وأرجلهم، وعيونهم وآذانهم، ثم يرتابون فيما خلقت له عقولهم؟ فلا - وربك - لا يؤمنون حتى يعرفوا أن المؤمن عن نعمة العقل مسئول. وما كنت لأعق العقل، وقد حكمه الله يوم هداني إلى الإيمان، فمن كان يريد أن يرى غضبتي للحق، وعبادتي للجمال؛ فليقرأ هذا الكتاب، ومن كان يريد أن يرى صورة مكررة لمن سلف من الكتاب والشعراء، فليعلم أن الخمول أحب إلي من أن أكون صدى لأحد من القدماء أو المحدثين، بل ما أهون التضحية في سبيل الإبداع إذا انحصرت في الخمول!
المؤلف
الإهداء
إلى الوالد الكريم الشيخ عبد السلام مبارك
ما زلت أمرح في نعمى وعافية
من نيلك الجزل أو من رأيك الحسن
وأسهر الليل في علم وفي أدب
أبغي رضاءك عن قصدي وعن سنني
وأستقل لأجل الفضل ما سمحت
به الليالي لأهل الفضل من محن
حتى بلغت بجدي بعض ما طمحت
إليه نفسي كما يرجوه لي وطني
فاليوم أهديك ما أبدعت من أثر
أبقى على الزمن الباقي من الزمن
ولدكم
زكي مبارك
إهداء البدائع
إلى حضرة النطاسي البارع الدكتور محمد عبد الحي
صديقي العزيز
أهديت لسيدي الوالد أول كتاب أخرجته للناس، ثم بدا لي أن أهدي هذا الكتاب إلى من يشبه حضرة الوالد في بره، وعطفه، وإحسانه، وهأنذا أهديه إليك، جزاء بما قدمت إلي من معروف، وإن جلت أياديك عن الجزاء والسلام.
زكي مبارك
ليسانسيه في الآداب
قسم العلوم الفلسفية والأدبية
القاهرة، في أول أبريل سنة 1923
دمعة على رئيس الحزب الوطني
المغفور له محمد بك فريد
سلوا برلين عمن حل فيها
يفتت كبده المرض العنيد
مضى يستوهب الأيام عمرا
تتم به المساعي والجهود
فلم يذهب بعلته طبيب
ولم يكتب له عمر جديد
وخر على السرير وحب مصر
على تبريح علته يزيد
فما ضمن البقاء له صديق
ينادي لا عدمتك يا فريد •••
فيا لهفي عليك وأنت كهل
غريب عن أحبته بعيد
تموت فلا ترى مثواك أم
ولا أخت ولا زوج ودود
ولا يروي ثراك أخ شقيق
بدمعته ولا طفل وليد •••
فلا يشمت بمنعاك الأعادي
ولا يفرح ببلواك الحسود
فتلك بلية لم ينج منها
على إشراق عزته الرشيد
ومن يك مثلنا حسبا ومجدا
تشجعه الصواعق والرعود
فإن يك سرهم منعى فريد
فكل غضنفر منا فريد
الحياة الحرة
يذكرون أن السيد جمال الدين الأفغاني رفض مساعدة المصريين له وهم يودعونه إلى منفاه، فلما ألحوا عليه أقنعهم بهذه الكلمة «أينما توجه الليث وجد فريسته»، وقد كان السيد جمال الدين الأفغاني يستطيع مكاثرة «قارون» لو كان للمال عنده قيمة، ولكنه كان رجلا يستقل الموت في سبيل الشرف، فلم يكن عجبا أن يستقل في سبيله العدم والإقلال!
واليوم نسجل ما نقل عن المستر لويد جورج من الرغبة الشديدة في الحياة الحرة؛ لأن في ذلك عبرة لأولي الأبصار، فقد جاهر الرجل الذي دوخ العالم بضع سنين بأنه مضطر إلى طلب الرزق، وصرح بأنه فقير، ولا عار عليه في فقره إن عمل لسد حاجته من طريق شريف.
سقط لويد جورج ثم تأمل فإذا هو خالي الوفاض، ثم نظر حواليه نظرة الليث الجائع، فإذا كل ما في الأرض من طعام وشراب، قد لوثه الذباب، ففزع إلى قلمه يستصرخه، فأمطره شآبيب الرزق الحلال.
اتفقت جريدة النيويورك تيمس والشيكاغو تريبون مع المستر لويد جورج على أن يقدم لهما كتابه «ذكريات الحرب»، ليختصا بنشره في مقابل أربعين ألفا من الجنيهات يأخذها دفعة واحدة حين يسلمها الكتاب.
ثم اتفقت معه بعد ذلك جمعية النشر الأمريكية على أن يكتب لهما مقالات أسبوعية تنشر في صحفها التي تزيد على ثلاثين صحيفة، في مقابل سبعة آلاف وخمسمائة من الجنيهات، ولكن مراسل النيويورك تيمس والشيكاغو تريبون خاطب هاتين الجريدتين حين علم بهذا الاتفاق وسألهما: أيدخل في مزايدة ويتفق مع المستر لويد جورج على 8500؛ أي بزيادة ألف جنيه عن المبلغ الذي قبله من جمعية النشر؟ وهل له أن يزيد المبلغ إلى تسعة آلاف جنيه؟ فجاءه الرد بأن يحتج على هذا الاتفاق؛ لأن اشتغال لويد جورج بهذه المقالات يؤخر وضع كتابه، ولأن ظهور هذه المقالات أسبوعيا قد يصرف الناس عن ترقبه، فلما رفع المراسل إليه الاحتجاج كتب من فوره إلى الجريدتين خطابا طويلا جاء فيه:
ما ظننت لحظة أن العقد الذي وقعته يمنعني من نشر المقالات السياسية، ولو رأيت فيه مادة من هذا القبيل لفرضته، فقد عولت بعد أن استقلت على الاشتغال بالكتابة في الصحف بغض النظر عن كتاب «ذكريات الحرب»، ولقد خدمت الحكومة سبعة عشر عاما ثم خرجت وأنا فقير، فلم يكن بد من أن أكتسب بقلمي بعد ما وقفت ما سآخذه منكم على الصدقات.
هذا لويد جورج بطل إنجلترا يودع رئاسة الوزارة ويودع معها الجاه والمال، ليستقبل الحياة الحرة، وليفتح بقلمه ممالك عجزت عن فتحها الجيوش والأساطيل! وهكذا يشغل العظماء عن أنفسهم حين يتولون المناصب الرفيعة، فإذا تخلوا عنها أصبحوا فقراء كأنما يطرقون باب العالم من جديد. أما صغار النفوس فلهم من مصالحهم الشخصية شاغل عن مصالح الجماهير، والمناصب فرصة لهؤلاء يدخرون فيها الدراهم البيض لليالي السود. افتحوا أعينكم أيها الناس وتأملوا كيف عجز لويد جورج - وقد ملك المشرقين - عن أن يدخر لنفسه «بدرة من الذهب» ينفقها حين يخونه الحظ ويسلمه التوفيق!
لا يخجل لويد جورج ولا يتحرج من أن يقول إنه فقير؛ لأن الغنى لم يمنع آلاف الناس في إنجلترا من أن يودوا بجدع الأنف - لو أصبحوا فقراء - على أن يكون لهم ما لهذا الفقير من مجد شامخ يعز على من رامه ويطول. ولكن بعض الناس في مصر وفي غير مصر يخفي فقره ويسامي الأغنياء، فيكون مثله كمثل الضفدعة التي راقها جسم الثور فأخذت تنتفخ عساها تصبح في ضخامته حتى بقرها الانتفاخ.
ولئن حمدنا للمستر لويد جورج وقفته هذه في وجه الحياة يطلب ما خلق له من السيطرة على الناس بآرائه الأدبية والسياسية بعد هيمنته عليهم هيمنة فعلية حين كان رئيسا لأقوى حكومة في العالم الحديث؛ فإنا لنحمد للأمة الإنجليزية والشعوب الأمريكية هذه الشهوة الحادة، شهوة الاطلاع التي جعلت رسائل هذا الوزير مما يتنافس فيه المتنافسون، حتى لتصبح شغلا لثلاثين جريدة لهن ما لهن من الدوي الشديد في آذان الملايين من أحرار العقول!
لقد غلا كل شيء في الغرب حتى المداد، ورخص كل شيء في الشرق حتى الدماء! وإن قطرات من الحبر يسود بها لويد جورج وجه القرطاس لأعز منالا من الدم القاني يسفح في سهول الشرق، وإن بكت له الأرض والسماء.
وبيدكم - أيها الشرقيون - كشف هذه الغمة، ومحو هذا الظلام، فلو شئتم أعززتم نفوسكم وأغليتم دماءكم، ولن يكلفكم ذلك أن تكونوا نارا تلتهم القابسين والمستصبحين، بل يكفي أن تكونوا نبتة مرة المذاق ينفر منها أولئك الذين إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون.
اعملوا في شبابكم بعض ما يعمل لويد جورج في مشيبه، واعلموا أن الأمم لا تحيا بالقيل والقال وكثرة السؤال، وإنما تحيا بالأعمال العظيمة يقوم بها جبابرة المفكرين من حيث لا يبتغون الجزاء.
المعاهد والعهود
ألفت النوح بعدك والسهودا
وودعت التصبر والهجودا
وأضمرت الأسى لما تولى
زمان كان لو دمتم حميدا
وقد رقت دموع العين حتى
لتحسبها لرقتها خدودا
بليت من الغرام بكم ولكن
أرى كلف الفؤاد بكم جديدا
وما طمع المعذب أن يراكم
وقد ضن الخيال بأن يعودا
إذا ما قلت أجلى الوجد عني
تذكرت المعاهد والعهودا
قبل الطعام والشراب
أين عهد الهمجية؟
أين عهد الانحطاط؟
أين عهد الخمول؟
رحم الله تلك العهود: فقد حدثونا أن الحكومة المصرية كانت تأخذ الأطفال قهرا من أيدي آبائهم، وحجور أمهاتهم، بين البكاء والعويل لتعمر بهم دور العلم التي أنشأتها لرحمة الأمة من بلايا الهمجية والانحطاط والخمول! وقد حدثونا أن الحكومة المصرية كانت تخرج الشبان من ديارهم لتبعثهم إلى العواصم الأوروبية، بالرغم من التمائم التي كان الآباء يعوذون بها أبناءهم من «التغرب في بلاد بره!» وقد حدثونا أن الآباء والأمهات كانوا «يقيمون الولائم لأهل الله والأولياء، ويوزعون الصدقات على المساكين والفقراء، ويقرءون الفاتحة والصمدية والمعوذتين ثلاثمائة مرة عند الشروق وعند الغروب.»
كل ذلك ليرحم الله أولادهم من دخول المدارس، ويقيهم شر السفر إلى لندره أو باريس أو برلي! فما كان الله - وهو أرحم الراحمين - ينظر إلى زفراتهم المحرقة، وعبراتهم المغرقة، بل كان يعين الحكومة عليهم فيصبح أبناؤهم - بالرغم منهم - تلاميذ في المدارس أو أعضاء في البعثات العلمية.
فيا رب - وأنت الحكم العدل - إليك نشكو «وجودنا» في عهد المدنية والرقي والنهوض! لقد كان آباؤنا يساقون إلى المدارس سوقا، فيتعلمون وهم راغمون، كما يؤجر المؤمن رغما عن أنفه! وها نحن أولاء نقاسي ألوان العذاب، كلما اشتعلت في صدورنا نيران الشوق إلى العلوم والفنون.
يا رحمة الله لهذا القلب الحزين! لقد قضيت بضع سنين وأنا ظامئ أترقب؛ لعل طيف «الزمن الماضي» يطيف بي فجأة، فأصبح وقد وجدت من مناهل العلم ما يطفئ تلك النار التي تتأجج في صدري فلا تجد غير الرجاء من وقود! وهأنذا أتلفت ذات اليمين وذات الشمال، فلا أجد غير أنداد في التعاسة، وأشباه في الشقاء.
أيها الآباء والأجداد.
لقد كانت الحكومة في عهدكم محسنة كريمة، ولكنكم عددتم كرمها بخلا، وإحسانها إساءة.
وها أنتم أولاء تنظرون كيف انتقم الله للحكومة منكم، فأغلق في وجوه أبنائكم أبواب المدارس، وحرمهم من البعثات العلمية والفنية! فاقرءوا إن شئتم «الفاتحة والصمدية والمعوذتين» على أرواح أولادكم، التي أماتها الجهل، وقبرها الخمول! لقد كنتم تبكون كلما ألزمتكم الحكومة بإرسال الأطفال إلى المدارس! وكنتم تعولون كلما سمعتم أن الحكومة ستبعث فريقا منكم إلى الحواضر الأجنبية! فابكوا الآن حتى تنزفوا دموعكم كلما ضاقت عن أبنائكم المعاهد، ويئستم من أن يروا - ولو في النوم - منابع العلم في برلين وباريس.
فيا رب - وأنت الحكم العدل - لقد قضيت أن لا تزر وازرة وزر أخرى، ونحن أبناء هذا الجيل لم «نعص أوامر الحكومة، ولم نهرب من المدارس، ولم نفزع من الإرساليات»، فكيف نؤخذ بذنوب آبائنا الذين أنكرنا عليهم ما تورطوا فيه إذ ذاك من كراهة التهذيب؟
فإن لم يكن بد من أن يؤخذ الأبناء بما جنى الآباء، فأنى أستطيع أن أثبت أن جدي رحمه الله أدخل أبي المدرسة وهو طائع؟ وفي مقدور كثير ممن ضاقت في وجوههم سبل العلم أن يبرئوا آباءهم وأجدادهم من «تلك الجناية» التي يحاسب عليها الأبناء والأحفاد! فهل تتفضل الحكومة فتفسح المجال لهذا الفريق «البريء» عسانا ننجو من بلية الجهل ونكبة الجمود؟
نريد أن نتعلم، لا تكفينا السلامة من العري، والظمأ، والجوع، لا نشكو ظاهر المرض، ولكنا نتألم من الداء الدخيل! ارحمونا من الداء العياء! أغيثونا فكلنا ملهوف
وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم ، ونحن أيتام العلوم والآداب، فليرحمنا القائمون بالعلم في هذه البلاد، ليرحم الله أبناءهم من بعدهم، فلا يجدون ما نجد من اللوعة والغليل!
يرحم الله هذه الأمة؛ فلقد كانت وكل همها أن تظفر بكفايتها من الطعام والشراب، فأصبحت وليس لها غير هم واحد، ولكنه هم مقعد مقيم؛ وهو أن تجد كفايتها من المدارس الابتدائية والثانوية والعالية، وهي بعد ذلك ترحب بالفاقة، إن صح هذا الحلم الجميل.
أما البعثات العلمية ... ويلاه، ماذا أقول! اللهم لا تمتني قبل أن أرى بعيني كيف يدرس العلم في الممالك التي أصبح أهلها سادة الأمم، وأساتذة الشعوب.
شوك الورد
أنت ورد فهب محبك شوكا
أترى الورد عاش من غير شوك؟
مسجد جديد
نقلت جريدة «توحيد أفكار» عن جريدة «الخليل» الهندية، أنه بدئ بإنشاء جامع إسلامي في حي «هايلاند بارك» بمدينة مشيشفان بأمريكا، وأن النفقات قدرت بمبلغ ثمانين ألفا من الجنيهات الإنجليزية، وتقول «توحيد أفكار»: إن هذا المسجد الجامع هو أول مسجد إسلامي في تلك الربوع التي يوجد فيها نحو مليون من المسلمين.
فهل من ذلك عبرة لعلماء الدين الذين يرون أن الساعة آتية بعد قليل، وأن الإسلام يضعف ضعفا طبيعيا كما يهرم الجسم ويهيج النبات؟
وهل لمشيخة الأزهر الجليلة أن تبحث في صحة هذا النبأ لتؤدي واجبها في مساعدة هؤلاء المسلمين، ولو ببعثة علمية توضح لهم أصول الإسلام، وتفصل لهم تاريخه الجليل؟
هذا أمل بعيد! وهل درس التاريخ الإسلامي مفصلا في الأزهر نفسه حتى يتطوع علماؤنا لنشره في أمريكا الجنوبية والشمالية؟ ولنفرض أن كل شيء في الأزهر جرى وفقا للمصريين ومن يفقه العربية من الشرقيين، أفتظن المشيخة الموقرة أعدت العدة لبث الإسلام أو الدفاع عنه في غير الممالك العربية؟ وهل في العلماء من يجيد لغة حية كالفرنسية أو الإنجليزية أو الألمانية؟ وهل فيهم من يعرف اللغة الفارسية؛ وهي لغة شرقية تسود في كثير من الشعوب الآسيوية ويعرفها كثير من سكان القارة الأوروبية والأمريكية، وهي فضلا عن ذلك مصدر من مصادر الأدب العربي في عهد الدولة العباسية؟ وهل فيهم من اطلع على ما كتبه علماء الأتراك بلغتهم عن أصول الدين الحنيف؟
لنترك الغرب وعلومه والشرق وفنونه، ثم لنسأل عن المعهد الذي لا يعرفون غيره وهو الأزهر الشريف، ألا يزال محروما من النظافة والنور؟ ألا تزال مصابيحه قذى في العيون؟ وكتبه عمى في القلوب؟
أرى طوفان هذا الغرب يطغى
وأهل الشرق سادته نيام
فإن لم يأتنا نوح بفلك
على الإسلام والشرق السلام
رفات شاعر
جاء في أنباء الشرق، أن حكومة العراق أجابت دعوة الأدباء هناك، وبنت قبة بديعة نقل إليها رفات الشاعر الخالد أبي تمام الطائي.
وأبو تمام أجدر الناس بأن يحتفل به بعد ألف سنة من وفاته! ولكنه احتفال بدفنه، لا بنشره، وابتهاج بموته لا بحياته.
وإذ كان هذا العمل دليلا على مبلغ الوفاء في أنفس القائمين به، فقد رأينا أن ندلهم على طريق أهدى؛ عساهم يسلكونه لو شرعوا في تكريم البحتري أو غيره من أساطين الأدب، وأقطاب البيان. وإن أقوم سبيل في رأينا للحفاوة بالشاعر بعد وفاته: هي أن تؤلف لجنة من أهل البصر بالشعر والنقد، فتشرح ديوانه، ثم تكتب عنه رسالة ممتعة، في بيان ما له وما عليه، وتحديد ما برع فيه غيره، أو قصر فيه عن سواه، ثم تذيع ذلك في جميع الأقطار العربية، ثم تترجمه - إن أمكن - إلى اللغات الحية؛ لينتفع بشعره القريب والبعيد.
فأما المقاصير والقباب فهي - فيما نرى - جهد ضائع، ولن يكون جمالها إلا أثرا يحج إليه الرسامون والحفارون، لا الكتاب والشعراء!
وقد علقت جريدة الصاعقة على هذا المقال بالكلمة الآتية:
احتفل الموصليون بنقل رفات أبي تمام حبيب بن أوس الطائي إلى القبة البديعة التي شيدتها بلدية الموصل، مضجعا لصاحب الحماسة مادح الخليفة المعتصم، والقائل في محمد بن حميد الطوسي:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر
وليس لعين لم يفض ماؤها عذر
وقد أشار الكاتب زكي مبارك إلى نقل رفات الشاعر في نبذة نشرها في صحيفة «الأفكار» ثم قال: ... وإن أقوم سبيل - في رأينا - للحفاوة بالشاعر بعد وفاته هي أن تؤلف لجنة ... إلخ.
نقول: والحفاوة، بمقابر النوابغ وخدام الوطن، لا تقل أهمية عن العناية بنشر آثارهم، وقلما تجد ذا فضل في أوروبا إلا وله بعد موته جمعية من الأنصار والأحباب يعرفون بنسبتهم إليه، وفي مقدمة أعمالهم الحج إلى مقبرة رجلهم في أوقات معينة، والترنم إلى جانب رفاته بذكرى مفاخره.
فإذا كان أدباء الموصل قد قاموا بواجبهم نحو رفات أبي تمام، فما أجدر أدباء مصر بالقيام بواجبهم نحو شعره وأدبه.
عبادة الجمال
الشمس تشرق من ضياك
والبدر يطلع من سناك
والحسن في عليائه
وجلاله مولى صباك
ته واحتكم فيمن تشا
ء فكل تياه فتاك
وجمال خدك والجبي
ن وما نقشت على لماك
وعيونك النجل الحسا
ن وما تلوح به يداك
للوعد منك وإن مطل
ت ألذ من جدوى سواك •••
يا من أجلك عن وصا
لي في دنوك أو نواك
وأراك مولاي الرحي
م وإن نأى عني جداك
تخطو وتخطر بالأصي
ل فلا النسيم ولا الأراك
وتميس حينا في الضحى
فتكون فتنة من يراك
جل الذي ولاك تص
ريف الخواطر واصطفاك
وحباك تحنان القلو
ب إلى التفاتك أو خطاك
يا سعد من بسم الزما
ن ببيته فغدا أباك
يا ليت أني كنت صن
وك أو قريبك أو أخاك
أو كنت رغما من علا
ئي أو علا قومي فتاك
فأرى جمالك في صبا
حك يا حبيب وفي مساك
وأرى سريرك هل يصو
نك مثل قلبي لو حواك
قلبي لك المهد الوثي
ر فلو حللت به حماك
إما نزلت به نزل
ت على البقية من رجاك
إن عزني دهري وكا
دت لي الليالي في هواك
زودتها صبر الكري
م وحلمه حتى أراك
وإذا قضى رب الصبا
بة أن تصر على جفاك
وقضيت أيامي أسي
را لم أمتع بالفكاك
ثم انقضى أمد الحيا
ة ولم أزود من لقاك
فالروح مرجعها إلي
ك فهل يظللها رضاك
العمر الضائع1
في الأزهر والمعاهد الدينية
في يوم الثلاثاء المقبل سيحتفل المصريون بذكرى الشيخ محمد عبده في الجامعة المصرية.
وأول ما يمر بالخاطر، هو مكان الاحتفال، فقد نذكر أنهم احتفلوا بتأبين الشيخ حمزة فتح الله، في المكان الذي كان يلقي فيه دروسه العامة في درب الجماميز.
وليست الجامعة المصرية بالمكان الذي كان يلقي فيه الأستاذ دروسه العامة؛ ولكنه كان يلقي أبحاثه الممتعة في الأزهر الشريف.
فيا عجبا! أيضيق الأزهر على الشيخ محمد عبده في الحياة وبعد الممات؟ ...
لا فرار من الحق! إن الذين فكروا في الاحتفال بذكرى الشيخ محمد عبده هم تلامذته القدماء الذين ضاق بهم الأزهر، ووسعتهم الجامعة المصرية.
لقد تسكن النفس، ويطمئن القلب، حين نرى بأعيننا حياة هذا الرجل بعد موته! أليس هو القائل: وإن فناء في الحق لهو عين البقاء؟! صدقت أيها المصلح الجليل، فانظر بعينك الآن من عالم الأبدية؛ لترى - من جديد - أن رحمة الله قريب من المحسنين! إن للمجاهدين عبرة في حياتك الأولى والثانية، لقد مت وأنت تتسمع؛ عساك تجد منصفا يعترف لك بجميل، فهل علمت أن الناس يعلنون عن أنفسهم بالحب لك، والاقتداء بك؟
إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا . •••
في يوم الثلاثاء المقبل ستتقاطر جموع العلماء إلى دار الجامعة المصرية، فلنسمعهم هذه الكلمة؛ عساهم يصلون إلى تلك الدار وهم خاشعون!
لقد مرت السنون على وفاة الشيخ محمد عبده، فهل قام فريق منهم فوقف وقفة المستبسل الجريء، فذاد عن المعاهد الدينية، واقتفى أثره في إصلاح الأزهر، وتعديل برامج التعليم؟
لقد عطلت الدروس شهورا عديدة، فهل انتفعوا بهذه العطلة فملئوا الخزائن ببدائع المؤلفات وروائع المصنفات؟ ألم يعد الأزهر كالطلل البالي؛ لأنهم استبدلوه بالأندية الخصوصية حتى عطلت الجمعة فيه أسابيع كثيرة؟ ألم يتركوا السذاجة تطغى وتستطيل حتى أعلن بعضهم في الصحف السيارة أنه سأل الشيخ بخيت عن حكم التكلم في السياسة؟ ألم تنطق صوامت الموجودات وهم لائذون بالصمت والسكوت؟
لا يقنع الأمة أن ترى من بين هؤلاء الجموع خمسة أو عشرة يكتب كل منهم بضع رسائل في السنة، ثم تطوى الصحيفة ويجف المداد.
كنا سمعنا أن امرأة صالحة وقفت في طريق الفخر الرازي، فسألها الناس أن تفسح له الطريق، فقالت: من هذا الذي تحتفون به؟ فقالوا: رجل عالم أقام على وجود الله ألف دليل. فقالت: ويحكم! هل عميتم حتى تطلبوا على وجود الله ألف دليل؟! وكذلك يقتل الأزهريون وقتهم في إثبات وجود الله - تعالى عما يصفون.
نريد أن يتغير التعليم في الأزهر والمعاهد الدينية؛ نريد أن نكون أعزة وقد صيرتنا هذه التعاليم أذلاء، نريد أن نرسم الخطة لنهضة الممالك الإسلامية، حتى يغلب الجاحدون على أمرهم فيدخلون في دين الله أفواجا أفواجا من حيث لا يشعرون.
نريد أن نمحو الوساوس التي دخلت في العلوم العربية وأصول الفقه وعلم التوحيد، ولا يضيرنا أن يخمل بذهاب هذه الوساوس مئات المتصدرين في العلم والدين! فهل نحن واجدون من بين العلماء من يسمع هذه الكلمة التي اضطررنا إليها اضطرارا، وألجأنا إليها الغيرة على الدين الذي مات في تأييده الآباء والأجداد؟
الإحسان إلى العقول
كتب التاريخ - فيما كتب - أن الأمير عبد العزيز بن مروان كانت له أياد بيضاء على المعوزين في مصر، ولا زلت أذكر ما طربت له من وصف الأستاذ محمد بك الخضري لذلك الأمير الجليل حينما عرج على ذكراه في الجامعة المصرية. ولم يكن عبد العزيز بن مروان واحد الناس في الكرم والأفضال حتى أخصه بالطرب لما عمل، والإعجاب بما صنع، ولكن الذي انتشيت له إنما هو وجود باحة سعيدة في الديار المصرية، ابتسم فيها الجود للعافين حينا من الدهر، ومن ذا الذي لا يستروح لذكرى السعادة مرت ببلاده ففلت من غرب الشدائد، ونالت من جانب الأحداث؟
أجل! كان ابن مروان موئلا للنفوس الحيرانة أعواما معدودات ثم انطوى بره، حينما انطوت أيامه! ولم يبق من جوده بقية تفزع إليها النفوس الهاربة من الفقر! وكذلك لم يبق من ذكراه إلا كلمات قلائل حفظت في الكتب المنسية! وذهب ما قيل فيه من جيد الشعر، وبارع النثر، وأكثر ما يعرف عنه أنه والد الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، وكان أولى أن يعرف بجوده الشامل، قبل أن يعرف بابنه العادل!
كذلك كان الناس - فيما سلف - يعملون لليوم لا للغد، ويحسنون إلى البطون، لا إلى العقول! اللهم إلا أفرادا كانوا يثيبون على الكتب المؤلفة، وربما حسبوا شيئا من مالهم على المساجد يدرس فيها العلم، ويذكر فيها ذو الجلال والإكرام.
تلك أيام خلت، وقد اكتفينا بما لدينا من التكايا والمساجد، ووجب أن تتوجه العزائم إلى الأعمال التي تخلق الأمم خلقا جديدا، وينال صاحبها من كرم الأحدوثة ما لا يذهب به كر الغداة ومر العشي، ولن يتمثل ذلك إلا في إنشاء المعاهد العلمية، والعمل على تكوين العقول، وتهذيب النفوس. وأكثر ما يتضح ذلك في العمل الذي قام به منشئو الجامعة المصرية، التي أخذت منذ سنوات تبعث العلم من مرقده، في هذه البلاد التي كانت نقطة الاتصال بين الشرق الناهض والغرب الهامد، والتي لولاها ما حفظت علوم العرب التي كانت نواة هذه المدنية الفسيحة الأرجاء.
إن الجامعة المصرية لم تعد في حاجة إلى الإشادة بذكرها ليلتفت إليها الناس، ولم يكن أبناؤها بالقليلي العدد حتى يقول قائل: ما الذي صنعته في ترقية البلاد؟ ولكن كلمة واحدة تختلج بين شفتي من حين إلى حين وأريد أن أقول: هل يذكر كل قادم إلى الجامعة المصرية من منتسب أو مستمع أنه ضيف صاحبة السمو الأميرة فاطمة بنت إسماعيل - تغمدها الله برحمته - أو ضيف المرحوم حسن باشا زايد أو أحمد بك شريف، ومن نحا نحوهم في الخروج من بعض ماله لتشييد هذا المعهد الذي تفزع إليه العقول؟! وهل يفكر بعض طلبة الجامعة من الذين قدر لهم أن يكونوا أغنياء أو ذوي دالة على الأغنياء، أن يكثروا من أصحاب الأيادي البيضاء على هذا المعهد بما يبثونه من تبجيل من سهروا عليه وهو وليد؟
أما أنا فلا أملك غير الوفاء، وسأجعل لأولئك الكرام النفوس منزلة من قلبي تعز على من رامها وتطول، وليشهد الله وملائكته والناس أن لكل من مد يده لمساعدة الجامعة المصرية دينا علي قضاؤه الشكران، أين البيان والإفصاح؟ أين الشعر الجميل والنثر البديع؟ أين شعر زهير في هرم بن سنان؟ أين مدائح البحتري للفتح بن خاقان؟
اللهم إني أعجز عن أداء ما علي من واجب الثناء على أولئك الأمجاد، فاكتب لهم عندك ما يطربون لمرآه يوم يبعثون.
دعوة عاشق
رأيت حياة المرء ما بين ساعة
تطيب وأخرى لا تفيق من الهم
فيا رب إما رمت لي العز منعما
ففي قرب من أهوى وبعد أخي اللوم
وإن كان لي فيما قضيت مساءة
فحزن على النائين جيرتي القدم
وإن شئت لي يوما جوارك فلأكن
شهيد الهوى لا نضوهم ولا سقم
وطول حسابي في المعاد على الهوى
فطول أحاديث الصبابة من همي
أرواح الكتاب
عزيزتي فتحية
وصل إلي خطابك السادس، وكنت جديرا بشكر يمناك الجميلة على ما صنعت أناملها الحسان، ولكني لا أزال أشعر بالوحشة، كأن لم تكتبي إلي حرفا، ولم يصلني منك كتاب! غير أني لا أنكر أن قلبي يخفق في كل صباح ، كلما قرب قدوم البريد، ولقد صرت أحسب حملة الرسائل شرذمة من الملائكة، ينقلون السلام من قلب إلى قلب، ويصلون بين النفس والنفس، حتى لقد هممت أن أسبح بحمدهم في أوقات التوزيع! كما يسبح فريق من الناس للشمس عند الشروق.
أجل، لا أزال أشكو الهجر والصدود، فإذا كنت تحسبين أن في هذه الرسائل برءا لقلبي من جواه، وجسمي من ضناه، أو إذا كنت تظنين أن في إرسالها إلي إمتاعا لنفسي التي تكلف بالحسن وتولع بالجمال، أو إذا كنت تأملين أداء ما يفرض الحب على فتاة تعلم أن حياة عاشقها أثر من آثار يديها، كما كانت حياة الزهر أثرا لما للشمس من ضياء، إذا كنت تنتظرين شيئا من ذلك فأنت واهمة يا فتحية، نعم واهمة، وإن ألم فؤادك الذي يفيض بالإحساس. إن الرسائل التي تكتبينها إلي ليست من إملاء قلبك الشفيق، ولكنها كلمات منقولة من الروايات التي يتراسل فيها المحبون. على أن الرسائل التي تكتب في القصص على هذا النحو لا تمثل أفئدة الأوانس؛ لأن كتابها رجال يتمثلون عواطف النساء! فهم مقلدون وحاكون! وإنه لمن المخجل أن يملأ عالم الأدب بتقليد التقليد! فأنت تمثلت عواطف رجل كان تمثل عواطف امرأة! وجدير بخطاب هو تمثيل لتمثيل أن ينال من قلب القارئ ما ينال الحديث المعاد.
لم أكد أقرأ خطابك الأول حتى بعثت إليك بزجاجة من العطر كتب عليها تاجرها الخاص «احذروا من التقليد»، وكنت رجوت أن لا يفوتك النظر في هذه النصيحة الثمينة! ولكن خاب الرجاء وتوالت رسائلك على هذا النمط الذي أشفق على أصحابه أن يموتوا وهم أحياء، وإنهم لميتون.
ستقولين عاشق لا يحسن الخطاب، وإني لكذلك إذ قلما يظرف الشيوخ، لولا أنك ستعلمين الآن أني لم أطع غير داعي الإخلاص، ألا ترين يا فتحية أني كثيرا ما أتحين الفرص لأحدثك وأنت غافلة، وأنظر إليك من حيث لا تشعرين، طمعا في أن أظفر منك بلفتة لم يشنها التصنع وخطرة لم يفسدها التقليد؟ أتحسبين أنه لو أقبلت علي فتاة ملء العين والقلب كان في مقدور الجمال أن يزحزح هواك من قلبي حتى تحل منه مكانا كان قبلك غير مأهول؟ وهل ترين أن ذلك لو صح على سبيل الفرض والتقدير، كنت أقدر على التفوه بكلمة الإخلاص والفناء في الحبيب، وإذا كان محالا أن أفتح ذراعي لفتاة غيرك وهي تقبل علي وتصدف عن سواي، فكيف أطرب من كلمات تقدمها معشوقة إلى عاشق، من حيث لا يصح لفتاك المدله أن يسمع لغير ما يجري على شفتيك من حديث؟ أم كيف أعتد بخطاب وضعه رجل على لسان امرأة، فكان غاية في المسخ والتشويه؟
لم يرقني من تلك الرسائل إلا ما فيها من الأغلاط الإملائية؛ لأنها تمثلك، وقد حفظت بعض المقاطع المختارة، فبدا لك أن ترسلي شيئا منها إلى محبك المسكين، ظنا منك أنه يسكن إلى الكلام الجزل، ويخلد إلى القول الرصين، وقد فاتك أن تذكري أني حفظت في عهد الحداثة أكثر ما كتب الحريري، والخوارزمي، والبديع، ومن إليهم من فحول الأدب وأعلام البيان، وأني وإن نسيت أكثر ما حفظت إلا أني لا أزال أملك من آثارهم ما يغنيني عن النظر في أكثر المخطوطات الجديدة، التي تقترب في مبناها من تلك السبائك التي تعز على من رامها وتطول، فما كان أغناني إذا عن ...!
إن هناك فرقا بين عاطفة الحب وبين الحاسة الفنية، فأنا أنعم برسائلك من ناحية غير ناحية الصبابة، ولست أناجيك حين أقرؤها؛ لأنك لم تصوري بها قلبك وهو يفيض حنانا على محبك الذي يعيش في أهله كالغريب! ولولا أنك كتبتها بخطك الذي يسحرني خلوصه من شوائب التنميق، وأفضت عليها عبقا من روحك حين الاختيار، ولولا أنها منك يا فتحية؛ لعددتها من سقط المتاع! لأني لا أطرب للآداب والفنون، إلا من حيث هي وسائل إلى القلوب الصوادف، وقد منحتني قلبك، والحمد لله والحب، فما الذي حال بينك وبين إرساله إلي في ثنايا الخطاب؟
أتذكرين الكلمة البديعة التي وصلتني منك في العام السالف؟ أنا أذكرها لك الآن لتعلمي أني أعشق الروح قبل أن أعشق ما يصور الروح، تلك هي قولك في حلو العتاب «والدي واخد على خاطره من سيادتكم»، وكذلك فلتعلمي أن اللغة الفصيحة لا تحلو منك إلا بعد أن تتذوقي الآداب، وبهذه المناسبة أرجو أن لا تكتبي إلي ثانية باللغة الفرنسوية؛ لأني لم أطمع بعد في أن أسمع منك رجع الحمائم في أبراج باريس! وكم تمنيت أن تدرك الفتيات المصريات سر اللغة العربية، فيسمع منهن المصريون ما كان يسمعه توبة من ليلى الأخيلية، وما كانت تدخل به ولادة على فؤاد ابن زيدون.
عفا الله عنك يا فتحية؛ فقد أخطأت من حيث أخطأ الناس، وإني لأرجو أن لا يكون النهوض فرديا في مصر على حين أصبح خلقا عاما في كثير من الأمصار والممالك، فإن عدت إلى التقليد بعد مبعث الإبداع فسيطول اللوم والتأنيب، أما الآن فلك من غفلة الجمهور شفيع، والسلام.
كيف يحكمون؟
عزيزتي فتحية
قرأت خطابك البديع، بعد انتظاره أياما كانت أمر من الصبر وأقسى من الهجر، ولقد قبلته، ثم قبلته، حتى خفت أن تبلى سطوره من زفراتي المحرقة، ولو رأيتني وأنا أضمه إلى رسائلك السالفة، لرثيت لصبري المغلوب، ودمعي المسكوب، ولكن في سبيل الحب ما أعاني!
تسألينني عما نشره أبو الهول؟ وهل كان ذلك أول ما لقيت فيك من جارح اللوم، وقاتل التأنيب؟ وأنا أسألك لم اقتصرت في خطابك على التلميح لما كتبته الآنسة زكية ماهر؟ ألا يعد هذا إيثارا للجنس اللطيف على الجنس النشيط؟ تلك - والله - سجية الأوانس، لا يعجبن بشيء إلا إن كان صادرا عنهن، أو متعلقا بهن، ولعلك تذكرين حديث السيدة سكينة بنت الحسين حين دخل عليها الشعراء لتفاضل بينهم من وراء حجاب، فصارت تهزأ بهذا وتسخر من ذاك، ثم طربت لجميل حين قال:
يقولون جاهد يا جميل بغزوة
وأي جهاد غيرهن أريد
لكل حديث بينهن بشاشة
وكل قتيل عندهن شهيد
ولقد رأى من الأدب أن لا أناقش خطاب الآنسة زكية هانم، فاسمعي كلمة عما قاله الكتاب الآخرون:
يقول كاتب من بولاق: «إن خطابي إليك يحمر له وجه الفضيلة! ولقد يظهر أن الفضيلة عند هذا الكاتب أضعف من أن تثبت أمام رسائل الحب، وقصائد النسيب! وهو رأي غريب، يدل على ميل صاحبه إلى ظلم العواطف، وقتل القلوب! ولئن كان هذا الكاتب صادقا فيما يحدث عن نفسه من بغض الحب ومقت الصبابة، فإنا نسأل الله الرحمة مما مني به هذا الذي يعيش بلا فؤاد.»
أما كلمة الكاتب «ع. صيام» ففيها هنات كنا نود لو سلم منها قلمه البليغ! ولقد أتعب نفسه في إثبات أنك محبوبة حقيقية لا خيالية، ثم ختم كلمته بقوله: «إذا كان كذلك فالسلام عليك يا أبا فتحية»، وإني لأتقبل منه هذه الكنية الجميلة، وأرجوه أن يتأمل هذا البيت:
لا تدعني إلا بيا عبدها
فإنه أشرف أسمائي
ولا يفوتني أن أصرح لك بأني اضطربت عند قوله: «ولو كانت فتحية تضمر لك شيئا من الحب الذي تزعمه أنت؛ لرأيت عواطفها تسبق محفوظاتها الأدبية»، أليس في هذا شيء من الحق يا فتحية؟ صدقت يا صيام وصدق معك من نظر لحبيبته وهو يقول:
أما والله لو تجدين وجدي
جمحت إلي خالعة العذار
وأنت يا فتحية؟
هل تعلمين وراء الحب منزلة
تدني إليك فإن الحب أقصاني
ولكن ليعلم هذا الكاتب أن الحب نوع من الفناء، ولو كان الحب - كما يظن - نوعا من الأخذ والإعطاء؛ لكان ضربا من ضروب التجارة لا يعرف فيه إيثار ولا إخلاص!
أما خطاب حضرة الكاتب محمد لطفي حسن ففيه من الرفق ما نود لو تحلت به رسائل الكتاب، وهو يرى أن تحليل العواطف يغير من أخلاق النساء! ولست أدري كيف صغرت قيمة المرأة في نظر كثير منا، حتى لا تراها أهلا لأن تتمتع بما في قلبها من إحساس؟! ولقد وافقني من طرف خفي حين أنشدني قول ليلى الأخيلية:
وذي حاجة قلنا له لا تبح بها
فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه
وأنت لأخرى صاحب وخليل
فإن هذا الشعر لا ينكر الحب، ولكنه يمقت الفجور! وألفت نظر لطفي أفندي إلى خطأ التمثيل بقول توبة:
وكنت إذا ما زرت ليلى تبرقعت
فقد رابني منها الغداة سفورها
فإن لهذا البيت واقعة غرامية لا يجهلها مثل هذا الأديب، وجملة القول أن هؤلاء الأدباء يريدون مني أن أكتب في إصلاح المرأة، وذلك ما أبغيه لولا أنهم يرون إصلاحها في تهذيبها بالحقائق العلمية، وأنا أرى إصلاحها في تزيينها باللطائف الوجدانية.
أسير على نهج يرى الناس غيره
لكل امرئ فيما يحاول مذهب
وحتام أنشد مولاتي قول جميل:
وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا
سوى أن يقولوا إنني لك عاشق
نعم صدق الواشون أنت حبيبة
إلي وإن لم تصف منك الخلائق
وفي أنفسكم أفلا تبصرون
آية كريمة، تذهب النفس فيها مذاهب شتى، ولكني أريدها لمعنى خاص: هو الحكم على الأقوال والأفعال. وبيان ذلك أننا ننظر غيرنا يقول، أو يعمل، فنحكم عليه بالبر أو الفجور، فتارة نخطئ، وتارة نصيب وأكثر ما نكون شططا إذا حكمنا على القول أو الفعل، من غير أن نحيط خبرا بظروف القائل أو الفاعل! وهي وحدها محور الخير والشر والخطأ والصواب، فليست كل كلمة «يكفر قائلها» - كما يقول الفقهاء - بمكفرة ما لم تشهد القرائن على أن قائلها جاحد عنيد، وليست القصائد الخمرية شهادة على قائلها بالإثم، ولا قصائد التشبيب رميا لصاحبها بالفسوق، ولكن الظروف وحدها هي الحكم في أن الشاعر فاسق أو سكير.
ومتى عودنا أنفسنا البحث عن الحالة النفسية للقائل قبل البحث عن مدلول ما قال، واجتهدنا في تعرف ظروف الفاعل قبل تأمل ما فعل من منكر أو خبيث؛ فقد ترفع التهمة عن كثير ممن حكم عليهم بالكفر أو المجانة لكلمة ظاهرها الكفر، أو فعل ظاهره المجون! ونحن أولى الناس باتباع هذه الطريقة؛ لأنها أصل من أصول الدين، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
قال - عليه السلام: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»، وليس لمتعنت أن يرد علينا بأن هذا خاص بأعمال الخير لا الشر، فإنه كما يجوز أن يفسد الخير حين يراد به شر، يصلح الشر حين يراد به خير، وتبقى التبعة على من يقصرون في إرشاد الناس إلى نتائج أعمالهم، فإني أعتبر العمل بنتيجته، وما لها من الضر أو النفع، وقد أوضحت ذلك في كلمة «أصول الأخلاق» التي نشرها أبو الهول.
وإذا أباح لك حسن النية أن تحكم على رجل بالصلاح لغلبة الخير على أقواله وأفعاله، من غير أن تلم إلمامة بالأسباب القريبة والبعيدة لما يعمل وما يقول، وقد تكون نيته سيئة فيحبط عمله؛ فإن من الواجب أن تنظر بدقة في ظروف من ساء قوله وعمله؛ فقد تكون نيته حسنة، فيرضى عنه علام الغيوب.
إن علماء النقد في الغرب لا يحكمون على خلق المؤلف إلا بعد أن يتبينوا العصر الذي عاش فيه، والبيئة التي أحدقت به فنال منها ونالت منه؛ لاحتمال أن تسود كتابته فكرة كانت في عصره حسنة، وهي في عصرنا سيئة، فنحكم عليه بما هو منه براء.
ولنرجع إلى الآية التي صدرنا بها هذا المقال:
وفي أنفسكم أفلا تبصرون ؛ فإني لا أكتم القراء أني وجدت في مذكراتي كلمة لو قرأتها لغيري الآن لأنكرتها عليه، مع أني كتبتها من قبل وأنا نقي القلب خالص الضمير، وتلك الكلمة تبدو كأنها خطاب مفتوح لأهل الجمال.
وهي سذاجة تمثل عهدا من عهود الصبا، خيل إلي فيه أن الحسن ملك للعيون تستمتع به وهي آمنة مطمئنة، لا يمانعها فيه غيور، ولا يحجبها عنه ضنين، وليس في مقدوري الآن أن أكتب مثل هذه الكلمة؛ لأني فقدت تلك السذاجة الغريبة، واطلعت من الناس على بلايا ومناكر، يلؤم من بعدها الكريم. وسأفرض الآن أني في العهد الأول من عهود الشباب، وأن الناس كما كنت أحسبهم منذ سبع سنين أطهارا بررة، لا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يتقولون الأقاويل.
قال كاتب هذه السطور من خطاب له في ربيع سنة 1915 ما نصه:
فما لأهل الجمال يضنون علينا بما سوف يشبع الدود منه لثما، ويأكله التراب أكلا لما؟
كم صائن عن قبلة خده
سلطت الأرض على خده
وحامل ثقل الثرى جيده
وكان يشكو الضعف من عقده
أما - والله - إن أرواحنا لفي حاجة إلى بعض ما تنعم به الوسائد من الخدود، والمراود من الجفون، والمساويك من الثغور، والأمشاط من الشعور، الغلائل من الأعطاف، والزينة من الأطراف، فلم تحرموننا في رأفتنا بكم، وحبنا لكم، مما تكرمون به الجماد ليلا ونهارا، على أنه لا يعرف ما حف به من حسن، وأحدق به من جمال!
يا أهل الملاحة، إن الله ما خلقكم كالأزهار في القفار، تزهر وتذبل، ولا يتمتع أحد بشمها ولثمها؛ وإنما جعلكم روحا لكل حي، ونعيما لكل كائن، فاجعلوا لنا منكم حظا، ولا أقل من النظر، فقد خفنا على أرواحنا أن تضيع ببخلكم، وتموت بصدكم، وما الله بغافل عما تعملون.
يا أهل الجمال، إن كنتم فطرتم على العزة، وجبلتم على النخوة، فهبونا بعض القرب منكم، والأنس بكم، ولكم منا ما تشاءون من ذلة واستكانة، وخضوع وعبودية، وقد عذرناكم لعزكم، فارحمونا لذلنا، وعشقناكم لحسنكم، فاعشقونا لحبنا، فكفى بالحب جمالا وبالعشق زينة، وإن المحب المملول لخير من الحبيب الملول، فإن أبيتم إلا الصد والقطيعة، والجفاء والإعراض؛ فإنا نبشركم بأن الحسن حال تحول، ودولة تدول، ثم يحكم الله بيننا وبينكم، وهو خير الحاكمين.
أوردية الخدين من ترف الصبى
ويابنة ذي الأقدام بالفرس الورد
صلي واغنمي شكرا فما وردة الربى
تدوم على حال ولا وردة الخد
ولقد يعجب قارئ هذا الخطاب حين يرى كاتبا يعتقد أن الجمال ملك للعيون النواظر، وأن البخل به إثم وعقوق، ولكنه لو أنصف لعرف أن النفس الطاهرة كثيرة الشطط، وأن صاحبها لا يسلم من الإسراف. ورحم الله ذلك العهد الذي كنت أعيش فيه بأمل غير محدود؛ على أنني لا أمنع أحدا من أن يسيء الظن بما كتبت منذ سنين، فإن الذي يطمع في معرفة النفس البشرية لا يبخل بوضع نفسه على المشرحة؛ ليسهل عليه وعلى غيره التحليل. ومثلي في ذلك مثل الطبيب المخلص لعلمه، لا يبخل بتضحية نفسه وهو يفحص صرعى السل والتيفوس، فهل يعقل هؤلاء الذين يطيعون أهواءهم وشهواتهم، فينسون أنفسهم، ويسلقون إخوانهم بألسنة حداد؟
إن قليلا من الروية والأناة لكاف لسلامتنا من الزلل والعثار، حين الحكم على ما يعمل الناس وما يقولون.
وخلاصة القول أننا مسئولون عن النظر في أنفسنا؛ لأن الذي يعجز عن معرفة نفسه، وما فيها من العجائب والغرائب، لا أمل له في أن يعرف نفس سواه، وهو إن فكر في الحكم على غيره، فإنما يجوب البيداء في الليلة الظلماء.
ظلام الليل
وجن علي الليل حتى حسبته
جفاء كريم أو رجاء لئيم
لا تسبوا الدهر!
لقيني أحد أصدقائي في الأسبوع الفائت وبادرني بقوله: لقد أغضبت الزمخشري حين فسرت قوله تعالى:
وفي أنفسكم أفلا تبصرون ! وقد عزمت - بحول الله وقوته - أن أغضب الزمخشري مرة ثانية بتأويل قوله - عليه السلام: «لا تسبوا الدهر؛ فإن الدهر هو الله»! فليس معنى هذا الحديث أن الدهر اسم من أسماء الله، كما توهم ذلك كثير من الفقهاء؛ ولكن معناه أن الدهر الذي تسبونه - وهو نظام الكون الذي تحرمون كل شيء حين تخرجون عليه - هو عند الله - كاسمه - واجب التقديس.
وسب الدهر عادة قديمة أفرد لها رواة الأدب بابا سموه «شكوى الزمان»، وقد تنبه بعض الشعراء إلى هذه الضلالة الفاشية، فرثى لأصحابها بقوله:
كل من لاقيت يشكو دهره
ليت شعري هذه الدنيا لمن؟
وكأن رسول الله رأى جموع الكسالى الذين يحسبون أنفسهم خلقاء بأن يملكوا ناصية العالم، ثم لا يعلمون شيئا، حتى إذا حاقت بهم عواقب كسلهم، بسطوا ألسنتهم في سب الدهر، وشكوى الزمان، فأراد - عليه السلام - أن ينهاهم عن هذه الخلة النكراء بقوله: لا تسبوا الدهر؛ فإن الدهر هو الله.
لقد ملأتم الدنيا صراخا وعويلا، فهل أغنى الصراخ والعويل؟ أفسدتم على الناس فطرهم بإذاعة الآراء السقيمة، والمبادئ المهلكة، فمتى تفتحون أعينكم لتروا نظام الكون كما خلقه الله، لا كما صورته لكم شهواتكم وأهواؤكم؟! نحن صرعى خطلكم، وقتلى جهلكم، فلا عفا الله عنكم، ولا عاد زمن كنتم فيه من المكرمين.
شكوى عليل
عزيزتي فتحية
لا تطيق يمناي الكتابة إلا بألم شديد؛ وذلك - لو تعلمين - سبب حرماني من الكتابة إليك منذ حين! وكم تمنيت كلما أدرت اللفائف على تلك اليد الجريحة، لو أن يمناك الجميلة هي التي تتولى برفقها ضمد ذلك الجرح البليغ، ولكن هيهات يا فتحية، ما كل مأمول ينال! وكم أنشدت كلما أدنى الخيال محياك الجميل.
إن عيني تعودت كحل هند
جمعت كفها مع الرفق لينا
إي والله! فلو رأيتك الآن لفزعت إلى صدرك، كما يفزع الضحيان إلى الظل الظليل! وما كان هذا الجرح بباق بعد قدومك، إلا كما يبقى الحزن بعد قدوم الرحيق، ولقد كنت خليقا أن أطرب لذكراك كلما ألح علي المرض، فاعتصمت بذكرى أيامنا الخوالي، ولكني ما فكرت فيك إلا امتلأت حقدا على الدهر، فسقطت صريع جرحين؛ جرح في اليد، وجرح في الفؤاد! فيا عجبا كيف صارت ذكراك مثارا للهم، وكانت كالواحة في الوادي الجديب!
الآن - وقد انتصف الليل، ونامت عن شكواي العيون - أتسمع؛ لعل فتحية تطرق الباب، ثم أتبين أنني أرجو ما لا يكون، وأترقب المستحيل، وها أنا ذا أعود إلى مساهرة الأنين.
سبحان من لو شاء سوى بيننا
وأدال منك فقد أطلت عذابي
غضبة الأسد
مصائب أشتات ينلن من الحشا
منال الرياح السافيات من الصخر
وما إن قسا قلبي ولكن همتي
تعالت فلم تعبأ بغطرسة الدهر
فلا تحسبوا أن الزمان وإن عتا
سيحملني يوما على مركب وعر
أبى لي احتمال الضيم نفس أبية
لها ما لهذا الدهر من عنت الجور
فلا حمدت مسعاي آل مبارك
إذا لم أبت أعداء مصر على جمر •••
لعمر الليالي الدهم وهي شواهد
ببأسي الذي أودى بما جئن من ذعر
لئن لم يبن طوعا عن النيل غاصب
نرى لبثه فينا أضر من الكفر
لأستمطرن الشعب سخطا ونقمة
على ما جنت يمناه في مصر من نكر
فيغضب مغوار ويعبس فاتك
ويفزع موتور إلى سفه الشر
ويمسي رجال النيل أسدا غواضبا
تخايل في برد من الفتك والزأر •••
لقد خاب ظن القوم إن كان غرهم
جنوح البحور الطاغيات إلى الجزر
فقد تزفر الآساد وهي روابض
كما يزفر الماء المحجب في القدر
ألم يأتهم أن النجوم إذا هوت
تصير رجوما لا تنهنه بالزجر •••
أبى الله أن نفنى وفينا بقية
يعز عليها أن نصفد بالأسر
فكيف يسام الخسف شعب معزز
له ما لأهل الغرب إن هب من أزر
فكفوا بني التاميز عن نهب أنفس
تحاول أن تحيى مع الأنجم الزهر
أصول الأخلاق
اختلف الناس في «الفكرة» التي ترجع إليها أصول الأخلاق؛ فمن زاعم أنها فكرة روحية، ومن قائل إنها فكرة مادية. فأصحاب الرأي الأول يرون أن الصدق والوفاء والإخلاص والكرم والتسامح والرفق، وسائر الفضائل؛ كلها ترجع إلى «فكرة واحدة» هي سرور النفس، وراحة الضمير، من عمل الجميل. وأصحاب الرأي الثاني يؤكدون أن الصدق ليس بفضيلة إلا لما فيه من المنفعة المادية، والكذب ليس برذيلة إلا لما فيه من المضرة الحسية، فالفضائل والرذائل عند هؤلاء تقدر بما يعقبها من الآثار الجميلة، أو العواقب الوخيمة.
وكما اختلفوا في الباعث اختلفوا في الجزاء، فمنهم من يزعم أن مثوبة الفضائل كعقوبة الرذائل معنوية، ومنهم من يرى أنها مادية. وأذكر أني قرأت في بعض تفاسير القرآن تأويلا لنعيم الجنة بأنه لن يكون نعيما حسيا - كما ينص القرآن - بل سيكون نوعا من التكبير والتسبيح والتهليل.
فما رأي أمثال هؤلاء العلماء في القديم والحديث لو أصررنا على أن «لا تفسير ولا تأويل»، وأبينا إلا التمسك بنص القرآن الشريف؟ أيحكمون علينا بالإثم والفسوق؟ فإن فعلوا، أفلا نحكم عليهم بالجهل والجمود؟ إنهم لفي ضلال مبين.
لقد آن لهذه الأجناس البشرية أن تصحو وتفيق! فلو كانت البواعث الروحية أو الجزاءات الروحية كافية لبقاء الأخلاق؛ لكان للقرآن أسلوب غير هذا الأسلوب، ولكن الله لم يشأ أن يترك عباده في عماية وضلال، فوصف لهم الجنة وقطوفها الدانية وصفا شائقا لا يدع مجالا للمتأولين والمتخيلين! وقد جعل الله الجزاء في الآخرة مثلا للجزاء في الدنيا - لو يفهم المتفيهقون.
أكتب هذا وأنا أقرأ كل يوم في الآداب القديمة والحديثة شكوى الأدباء من إعزاز الجماهير للمال، وإجلالهم لأهله، فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا؟! لقد كان المال زينة الحياة منذ خلق الله الوجود، أفيريد هؤلاء الكسالى أن يحولوا سنة الله فلا تقدر الجهود المادية ، ولا ينظر إلى من يستغلون كنوز الأرض بغير الازدراء؟ كم مضت آلاف السنين والروحيون يذمون المال، وطلاب المال! فما أبغضه أحد حتى ولا الروحيون أنفسهم، أفلا يجب أن تكف هذه الألسنة الداعية إلى المستحيل ثم يفرغ الناس لشئونهم جميعا قبل أن يستحوذ الغربيون على ما في العالم من الأموال والثمرات، ثم لا يتركوا لنا غير الشعر والخيال؟!
ذكرى الشيخ محمد عبده
بين يدي الآن جريدة «الماتان» وفيها صورة باستيرو قد كتب بجانبها بالخط العريض ما تعريبه: «الماتان يدعو قراءه إلى مساعدته على تنظيم حفلة في باريس للذكرى المئوية التي ستقيمها الحكومة في ستراسبورج»، ويلي ذلك كلمة قيمة عن تاريخ باستيرو العالم الفرنسوي المعروف.
ففي فرنسا تحتفل الحكومة بذكرى العلماء، ثم تدعو الجرائد قراءها إلى العمل لشمول تلك الحفلات، أما في مصر فلا تعنى الحكومة بشيء من ذلك، ولا تفكر الجرائد في كثير منه أو قليل؛ وأمامنا الاحتفال بذكرى الشيخ محمد عبده، فقد دعا إليه فريق من تلامذته الأوفياء، وتفضلت الجرائد فنشرت الخبر بلا تعليق! وهكذا، تموت فينا عاطفة إجلال العظمة، وتبجيل العظماء، على أن كبار الرجال لم يعيشوا لأنفسهم، بل عاشوا لأممهم عيشة طافحة بالشقاء! فبأي قلب نواجه هذا العقوق الدميم؟ ومتى نرحم أنفسنا من هذا التخاذل المرذول.
فباسم العلم والمروءة نقدم إلى من احتفلوا بذكرى الشيخ محمد عبده خالص الشكر ووافر الإجلال «والله لا يضيع أجر المحسنين».
مناقشة لغوية
جرى في بعض الأندية ذكر هذا المثل «الحديث ذو شجون» فرأى بعضهم أن صوابه «الحديث شجون»، ودليله أنه رآه كذلك - كعنوان دائم - في بعض الجرائد، فرد عليه أحد الحاضرين قائلا: إنه لو كان ما يكتب على جدران الجرائد أو صحائفها حجة ودليلا على صحة ذلك المكتوب؛ لما كان العامة مخطئين في قولهم «الإهرام» بكسر الهمزة؛ لأنها ضبطت كذلك على عمارة الأهرام الغراء! فقال قائل: إنه غلط مقصود؛ لأن تلك الجريدة تساعد الرجعيين من الشيوخ الفانين! ورأى آخر أنه خطأ شائع جاراه صاحب الجريدة وهو المعقول، وهنا نذكر قولهم: «خطأ مشهور خير من صواب مهجور»، وهي الكلمة التي لجأ إليها المرحوم الشيخ محمد عبده، حين سئل عن صحة قوله: «راحت السكرة وجاءت الفكرة» بفتح الفاء.
وبهذه المناسبة أذكر أني لقيت في طريقي مرة العلامة أحمد باشا زكي فقال لي: أين تقصد؟ قلت: إلى مكان بيني وبينه خطوات - بضم الخاء - فقال: لو قلت خطوات بفتح الخاء لكنت أدنى إلى الرشاد! فقلت: إنها بضم الخاء في قوله تعالى:
ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، فقال: لا أنكر، ولكني أرى أن خطوة بفتح الخاء لها نظائر في الوزن مثل: ندوة ونزوة وقسوة وشهوة ونبوة وربوة ... إلخ، فلو أنك قلت: خطوة لكنت قريبا من الصواب، وهي إن لم تكن لغة فهي لغية، وثمانون في المائة ينطقونها بالفتح فما بالك تنطقها بالضم فينسلخ عنك ثلاثة أرباع الناس.
وهذا حل مقبول؛ لأننا حين نفعل ذلك نجاري شائعا له أصل معروف، ولكن الذي لا مسوغ له أن تؤازر الخطأ المحض لشيوعه وذيوعه، وقد يكون شيوعا نسبيا في مدينة أو قطر، ونحن نريد أن تكون الأقطار الإسلامية لغة واحدة، هي اللغة العربية، وقد يذيع في مصر ما لا يذيع في الجرائد، فلو أننا اتبعنا ما ذاع هنا واتبعوا هم ما شاع هناك، لعادت الفروع وهي أصول، ولأصبحت اللغة العربية الأصلية كاللغة اللاتينية في الممالك الأوروبية خاصة لا عامة، ويصبح القرآن غريبا عند المسلمين كأناشيد «بنتاؤر» عند الأقباط، أو سؤال الملكين عند من يرى أنه سيكون بالسريانية! ونصبح - بعد حين - في حاجة إلى من يترجم لنا كتب الجاحظ وابن سينا والغزالي إلى اللغة الأهلية، كما نترجم كتب «ديكارت» من اللاتينية إلى الفرنسية، وقد كان شيء من ذلك في الأقطار الإسلامية، ففي مقدمة ابن خلدون أمثلة من الفنون الشعرية المولدة كالزجل والموالية وما إليهما من الكلام الموزون الخارج على أصول اللغة والإعراب، ونحن نجد صعوبة ومشقة في فهم تلك الآداب البلدية بالرغم مما ذكر ابن خلدون من أنها كانت مثلا في الفصاحة والبلاغة.
وابن خلدون يرى أن البلاغة لا تتوقف على الإعراب، وهذا صحيح بالنسبة للعامة؛ لأن الإعراب عندهم أبرد من النحو في الحساب! ولكن الخاصة لا يتذوقون الكلام الملحون ولا يطربون لمعناه، والبيان عندهم هو جمال اللفظ والمعنى، ولا جمال للفظ بغير سلامته مما يعد عيبا في رأي علماء النحو والصرف.
ولولا أن الحديث ذو شجون لما شغلنا عن تحديد هذا المثل «الحديث ذو شجون»، وقد رأى القارئ أنه لا معنى لأن نقول «الحديث شجون» استنادا على «تسجيله» في بعض الجرائد! والشجون هنا جمع شجن بفتح فسكون، وهو: الشعبة والطريقة، فمعنى «الحديث ذو شجون»، ذو شعب وذو طرائق، وليست جمع شجن محركا، بمعنى الحزن - كما يظن كثير من الناس.
فيه قولان!
ألح بعض الأدعياء على أبيه أن يدعي العلم! وزوده بهذه النصيحة، إذا سئلت عن شيء لم تعرف وجه القول فيه فليكن جوابك: «فيه قولان»، فسمع الوالد نصيحة ولده البار، وكان الناس قديما قلما يعنون بغير المسائل الفقهية والنحوية، فسأله سائل عن طهارة الكلب! فأجاب: فيه قولان، فقالوا: صدق؛ لأنها موضع خلاف بين الشافعية والمالكية، وسأله آخر: أيرفع الخبر أو ينصب بعد «ما»، فأجاب: فيه قولان، فقالوا: صدق؛ لأن فيها خلافا بين الحجازيين والتميميين.
وكان في المجلس رجل ماكر ظريف لحظ أن هذا الرجل جاهل، وأنه ينفذ خطة رسمت له، فسأله: أفي الله شك؟ فأجاب المسكين: فيه قولان.
فجاء ابنه - رضي الله عنه - وقال: صدق في جوابه فإن فيها قولين في الإعراب، ولكن هيهات أن تغني المغالطة بعد أن ضحك الناس من عمامة أبيه. وهكذا تجري الحال في مصر، فكل مشكلة لها وجهان، وكل أمر فيه قولان، ولا يعلم إلا الله متى يعرف المصريون كيف تحدد نقاط الخلاف.
بعثة البنات
انفرجت مسافة الخلف في هذه الأسابيع بين أنصار وزارة المعارف وأنصار طلعت بك حرب، الذي يرى العدول عن إرسال البنات إلى أوروبا لإتمام الدراسة، ولقد جاء في أحد الردود المتبادلة كلمة حقة هذا نصها: «وحتى لو أن كل من أرسلتهن المعارف إلى أوروبا عدن كما ذهبن مصونات الأخلاق سليمات الاعتقاد؛ فليس هذا سببا للمجازفة بغيرهن»، وهي كلمة تذكرنا بقول كليلة ودمنة: «إن من وطئ الحية فلم تلدغه، فليس خليقا أن يطأها مرة ثانية وإلا عرض نفسه للهلاك.»
والذي نعرفه أن القائلين بالحرية المطلقة للمرأة لا يؤمنون في أنفسهم بأصول الآداب والأخلاق، فخير لمناضليهم أن لا يجعلوا الفضيلة والدين أساس الحكم في هذا الموضوع.
غريب اللغة
اجتهد الكتاب أخيرا في تنقية الكتابة من غريب اللغة، وهي سيئة عدوها حسنة؛ لأن النزول إلى الكلمات المألوفة سيصل بنا قريبا إلى وضع اللغة في نطاق ضيق وفقا لأفهام كثير من الناس! ومن المعروف أن غرابة الكلمات ترجع إلى قلة تداولها وانتشارها في المؤلفات والأحاديث، فمتى هجرت الكلمة لوجود ما هو أقرب منها إلى أذهان القارئين والسامعين، فإنها تصير - بعد حين - غريبة لا يعرفها إلا القليل، ثم تصبح القواميس أشبه شيء بالمتاحف الأثرية لا يرجع إليها غير عشاق العاديات من علماء اللغات.
ولعل أحسن وسيلة لتقريب الجماهير من الكلمات الغريبة، هي أن لا ينفر منها الكاتب حين تعرض له، بل يجمل بها كلامه، ثم يضع لها تفسيرا في هامش الصحيفة ليقف القارئ على مدلولها المراد، فإذا جرى هذا باطراد في صحيفة يومية أو أسبوعية فإن قراءها يألفون كثيرا من الكلمات الغريبة في زمن قليل.
ومما يلفت النظر أن جريدة الأهرام حين نشرت قصيدة حافظ في ذكرى الشيخ محمد عبده، كتبت في الهامش تفسيرا لكلمة رتيب في قوله في وصف القبر:
مضجع لا يشتكي صاحبه
شدة الدهر ولا شد الخطوب
لا ولا يسئمه ذاك الذي
يسئم الأحياء من عيش رتيب
أيدري القارئ كيف فسرت كلمة رتيب؟ إنها قالت ما نصه: «رتيب على وتيرة واحدة، مونوتون» ومونوتون هذه كلمة فرنسوية! فهل رأى الناس أو سمعوا أن الكلمات العربية تفسر بذكر مقابلها في الفرنسوية، ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق.
وإذا كان من الأدباء من لا يستكثر ذكر المقابلات الدخيلة أو الأجنبية، فما الذي يضيرنا إذا فسرنا كل كلمة نظنها غريبة أو قليلة الذيوع، لتزيد ثروتنا اللغوية بقليل من العناية، وإن الصدر ليضيق حين نجد من الصحف من يقول: «صورة رمزية كاريكاتيرية وهي رطانة ثقيلة لا تسيغها الآذان!»
أين امرؤ القيس والعذارى
إذا مال من تحتها الغبيط
استنبط العرب في البوادي
بعدك واستعرب النبيط
ومما يؤسف له، أن كثيرا من الناس لا يجدون سبيلا إلى إفهام القراء أنهم يعرفون لغة أجنبية غير حشو كتاباتهم بالألفاظ الفرنسوية أو الإنجليزية، وفاتهم أن أشرف سبيل إلى ذلك هو تعريب الكتب القيمة، ونقل الآراء الطيبة، ليدل الناقل أو المعرب على أنه يستفيد مما يطلع عليه من آثار الفرنجة. وشر ما نعرف في هذا الباب أن من الناس من لم يدرك غير الحروف العربية، ولكنه مع ذلك يغرب في حشو كتابته بالألفاظ الأجنبية كأنها سر من أسرار البيان!
إلى ...
ولما نسيتم ودنا وغرامنا
ولم تحفظوا بعد الفراق لنا عهدا
جعلنا نغض الطرف عنكم وعندنا
من الشوق نار لا نطيق لها وقدا
ملك يرصد الكواكب
تحت هذا العنوان نظم أحد شعراء فرنسا قصيدة بديعة تتلخص في أن ملكا عظيما شغف برصد الكواكب، فكان يقضي ليله في مشاهدة السماء، ومطالعة ما فيها من نجم طالع، أو كوكب ساطع، فبينا هو غارق - ذات ليلة - في تأملاته الحلوة، وهو يجوب ببصره أقطار السماء؛ إذ أزعجه أحد رعاياه بقوله: «مولاي الملك، إن الله لم يولك أمر هذه الأمة لترصد ما في السماء من نجوم وكواكب، بل ولاك لترصد ما في الأرض من مريض أشقاه المرض، وفقير أضناه العوز، وجاهل أضله الجهل. فول وجهك شطر الأرض مرة واحدة لتنظر ما فيها من بؤس وشقاء، وهم وعناء، وإني لواثق بأن في الهموم المنشورة على بساط الغبراء شغلا لك عن النجوم المبثوثة في أديم الزرقاء!
ما الذي يهمك من تأمل النجوم، ولست مسئولا عما يطلع منها وما يغيب، إن لها نظاما لا تعرفه، وسرا أنت عنه محجوب، فما لك لا تشغل بالأرض، ومنها خلقت، وإليها تعود؟» •••
قرأت تلك القصيدة التي لخصتها للقراء، وذكرت أهل العلم في مصر؛ لأنهم يشبهون ذلك الملك من جميع الوجوه، وبيان ذلك أن جميع العلماء الذين نثق بعلمهم من كل خبير بوجوه الحياة، وقفوا علمهم على وصل السلسلة التاريخية للعلوم والفنون، فترى الرجل يقضي عمره في بحث مسألة قد تكون بعيدة عن حاضر النفع لقومه ووطنه، ولكنها تروقه لسبب واحد هو وصلها بين القديم والحديث، ويخيل إليه أنه يقضي مهمة وطنية؛ لأنه يجعل لوطنه ذكرا في تاريخ المباحث العلمية، وإن كانت هذه المباحث ظنونا في ظنون!
ومن الناس من يؤلف كتابا لا يقرؤه إلا اثنان أو ثلاثة، ثم يبلى في المكاتب لعدم الحاجة إليه، فإذا سألته لم اخترت لكتابك هذا الموضوع الغريب، أجابك بأنه إنما فعل ذلك أداء لحق التاريخ، ونحن نجل هذا النوع من الحرص، ولكننا ننكر أن يقبل أذكياء مصر على الأبحاث الكمالية، ثم يتركوا الأمة تتخبط في دياجير الجهالة وبيداء الضلال!
في مقدور هؤلاء النوابغ أن يؤدوا واجبهم نحو العلم وتاريخه، ثم ينظروا - مع ذلك - إلى ما تقاسي طوائف الأمة من عنت الأمراض الاجتماعية، فيصفوا لها ما يعرفون من ناجع الدواء، ثم يحاربوا بأنفسهم جيش البلادة والخمول؛ لتقوى المدارك وتسلم الأذواق، فإذا فعلوا ذلك عرف الناس أنهم يعملون لبعث ماضيهم، وإصلاح حاضرهم، وإلا كانوا كذلك الذي ترك الناس نهبا للبؤس والشقاء، ثم قلب وجهه في السماء ليرصد الكواكب!
الجرائد المصرية
وكما رزئت الأمة المصرية في أقطاب التأليف، فلا تقرأ لهم غالبا غير «تحقيقات وتدقيقات» سخرت من تكرارها القرون، فجعت كذلك في كتاب الصحافة وهم قادتها في هذا الحين! فإن كنت في ريب من ذلك فانظر أي جريدة وتأمل ما يسطره قلم التحرير أو قلم التعريب، فلن تجد غير الأخبار السياسية، والرسائل السياسية، الخلافات السياسية ... إلخ ... إلخ! وتلك بلية عظيمة لا تحتملها أمة تحاول النهوض، فإنه يستحيل أن تنهض أمة لا تجد ما تقرأ غير الشئون السياسية.
وسبب هذه النكبة، أن القائمين على الجرائد المصرية قوم غلبت عليهم مذاهبهم السياسية، ولا يطالعون من الجرائد غير ما تغلب عليه السياسة ولا يطيب لهم السمر إلا إن سادت فيه السياسة ولا يهزون وهم نائمون في غير السياسة! ورحم الله الشيخ محمد عبده حين قال: «قاتل الله السياسة ومادة ساس ويسوس.»
ولقد يكفي أن يكون في الجريدة مقالتان واحدة عن السياسة المحلية وأخرى عن السياسة الخارجية، ثم ينصرف المحررون والمترجمون إلى إمتاع القارئ بما جد في عالم الأدب والتاريخ والاقتصاد، وما إلى ذلك من الأبحاث الشيقة الممتعة التي تثقف العقول وتخلق الرجال.
ألم يمر بك أيها القارئ ذلك الخبر الذي نشرته الجرائد المحلية بلا تعليق؟ ألم تسمع أن فتى في شارع الدواوين أضرم النار في فتاة فصيرها هباء تذروه الرياح؛ لأنه حاول أن يسلبها شرفها وعفافها فأبت، وفضلت النار على العار.
في سطرين اثنين كتب هذا الخبر في الجرائد المصرية: أتدري لم ضاقت هذه الصحف المشئومة عن الاستفادة من هذا الحادث، والإفاضة بسببه في الآداب والأخلاق؟ لأن كتابها - هداهم الله - كانوا مشغولين بذكر الأسباب القريبة والبعيدة لمصرع ويلسون في لندره وراتنوا في برلين.
إنها لأعجوبة القرن العشرين أن نغفل عما يجري على مرأى منا من غريب الحوادث، لنفرغ لتحقيق ما لا يعنينا من أخبار العالمين.
أين المصلحون؟
قضي الأمر، وتبينا أن الغواة في هذا البلد قويو الإرادة، صادقو العزيمة، يوفون لأنفسهم بالعهد إن عاهدوها على الشر، ولجيوبهم بالوعد إن وعدوها سلب ما في أيدي الناس. وهذا ظاهر في كل ما وصلت إليه أعمال العادين على الأمن، فليس من سبيل إلى إنكار البراعة التي ظهرت في طائفة من هذه الأمة المسكينة، تلك الطائفة التي تسمى حينا بالنهابين وحينا بالسفاحين.
وإنا إذا أسفنا لشيء فسيكون أسفنا أشد كلما رأينا أن ضعف الإرادة، وخور العزيمة، وفتور الهمة؛ إنما هي من صفات طلاب الإصلاح في مصر، فإذا أتم السارق ما اعتزم المضي فيه، ووصل السفاك إلى إزهاق ما يشاء من الأرواح؛ فإنك ترى الإخفاق لاحقا بمن يعزم على تأسيس ملجأ، أو تأسيس مدرسة، أو تأليف كتاب، أو قتل رذيلة، أو غرس فضيلة.
لقد كان من الهين أن نحتمل وجود خونة ولصوص وفتاكين، لو أن لدينا - بجانب ذلك - زعماء في الإصلاح، وعلماء في الأخلاق، وبناة للمجد، ودعاة إلى الرشد، ولكن كفة الرذيلة أرجح من كفة الفضيلة، وطالب الشر أسرع من خاطب الخير، وداعي الهدى أعجز من داعي الضلال.
هذا هم نقاسي احتماله، ونشهد بأنفسنا مصرع الأخلاق، ونرى ظهور النحل الدنسة التي ترمي إلى انحلال العزائم، وانهزام النفوس، واندحار العقول. ولا يعلم إلا الله مآل هذه الأمة التي بدأت تتهاون في الشرف الذي لا تحيا أمة إلا به، والدين الذي كان السبب في كل ما لها من كيان.
ولولا أننا نكتب في الأخلاق وقد ينافيها التعرض ولو قليلا للشخصيات؛ لكشفنا الغطاء عن الأفراد والجماعات التي لا تعد الثبات على المبدأ إلا بقية من بقايا الجهالة، وترى الفضل في أن يكون المرء كالحرباء، يتلون بلون المكان الذي يحل فيه، فهو تارة نقي الوجه، وأخرى مسود الجبين.
إلى بعض الناس
لقد صددنا كما صددتم
فهل ندمتم كما ندمنا
وشفنا الوجد مذ جفوتم
فأظهر الدمع ما كتمنا
وهبت روحي وقلت عطفا
فما عطفتم وما رجعنا
ملكتموها وما وصلتم
لقد غنمتم وما غنمنا
ما ازددت خوفا على فؤادي
إلا وزدتم صفا وأمنا
وما رجائي وقد قويتم
على جفائي وزدت وهنا
قتلت نفسي على جفاكم
وما قرعتم على سنا
لهفى على السالف المفدى
لو كان يجدي الفدا لجدنا
فما ذكرنا الذي تقضى
إلا على حسنه انتحبنا •••
لو كنت أشكو الهوى لصخر
لحن وجدا وأن حزنا
وذاب من هول ما أراه
فقد برانا الهوى وذبنا
إن كان ذنبا فسامحونا
ويشهد الله ما أسأنا
إشراك العقول
لا تجد كتابا من الكتب الأزهرية قد خلا من الحكم على الشعر: أحرام هو أم حلال؟ وهذا خلاف قديم رويت فيه هذه النكتة الطريفة: وهي أن سعيد بن المسيب سمع رجلا يذكر أن إنشاد الشعر ينقض الوضوء، فأنشد من فوره:
أنبئت أن فتاة جئت أخطبها
عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول
ثم أقام الصلاة!
ويذكر الرواة أن سعيد بن المسيب هذا نقل إليه أن قوما يكرهون الشعر، فقال: لقد تنسكوا تنسكا أعجميا، ويقرب من هذا ما قاله رجل من علماء الدولة العباسية، وقد سمع أن الإمام مالكا يحرم الغناء فقال: أما والله لو قال مالك ذلك ويدي تناله لأحسنت أدبه؛ إن رسول الله ما كان يحرم أو يحلل إلا بوحي من الله!
ولا يزال هذا الخلاف موجودا في الممالك العربية، ففي جريدة العراق التي تصدر في بغداد مقالة نشرت في الشهر الفائت، ترد بها على بعض الصحف العراقية التي أنكرت على جريدة العراق «ذكرها خبر قدوم المغنية المصرية الشهيرة السيدة منيرة المهدية»، ومنذ شهور نشرت جريدة الأهرام كلمة لإحدى السيدات «الشريفات» تستنكر فيها أن تكتب السيدات الممثلات «السيدة فلانة!» وتستبعد أن يصبح التمثيل حرفة لواحدة من نساء الأشراف، وكذلك ظل الشعر والغناء ثم التمثيل موضع خلاف.
وقد اضطر الغزالي إلى مدافعة هذه الأذواق السقيمة بقوله: «إن لله سرا في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح، حتى إنها لتؤثر فيها تأثيرا عجيبا، فمن الأصوات ما يفرح ومنها ما يحزن، ومنها ما ينوم، ومنها ما يضحك، ومنها ما يستخرج من الأعضاء حركات على وزنها»، ولعل أمثال هذه الكلمات الصريحة كانت من الأسباب التي حملت الجهلة على رمي الغزالي بالكفر! ويغلب على الظن أن تورط هذا الإمام في مذاهب الصوفية الغريبة كان شبه كفارة لما جناه في شبابه من التفكير المعقول!
الشعر والغناء والتمثيل - ولا تنس التصوير الذي حرموه - كل أولئك مما يجب على كل مفكر أن يبعد موارده الشهية، ليوصف بالوقار والجلال! فيا ويحكم ماذا أنتم صانعون لو شهدتم المعركة القائمة بين الهدى والضلال! إنكم لو رأيتم كيف تتصاول العقول، لسبق إليكم الجنون، إن لم تكونوا مجانين! ولكنه لا لوم عليكم: وإنما اللوم على الجبناء الذين جعلوا رأى الجهالة مما تنصب له الموازين!
اكتشاف مؤامرة
بعد جهد جهيد اكتشفت الآنسة منيرة المؤامرة التي دبرت في ظلام القلوب لاغتيال حياتها الأدبية، وقد عرفت بعد البحث والتنقيب أني زعيم هذه المؤامرة!
عفوا يا مولاتي؛ فإنني بريء ! كل شيء يهون إلا حياتك الغالية، ولعل سبب هذه التهمة هو ما جاء في تضاعيف تلك الكلمة التي لوحت بها إليك، كما يلوح بالأصابع للقمر الطالع، فقد ظهرت بمظهر الأستاذ الضليع الذي يسمو إلى تعليم أمثال الآنسة منيرة، في حين أني لا أصلح - كما تقولين - إلا لطلبة البكالوريا وطلبة الحقوق.
على أني بالرغم من براءتي من التآمر على النيل من مقامك الجليل، وسلامتي من الحقد الذي رميتني به زورا وبهتانا، وإيماني بأن لك نصيبا من الذكاء؛ فإني لا أزال أعتقد بأنك في حاجة إلى دروس في ماهية البلاغة وروح البيان!
ألم تصرحي بأنك لم تدرسي البلاغة دراسة كافية؟ وما الذي يمنع إذا كنت جاهلة بالبلاغة أن أتفضل فأعطيك درسين أو ثلاثة عن متانة التركيب، ورشاقة الأسلوب؟ وإنني لأصرح بأنني غفرت لك ما ند من قلمك الناشئ الجميل، وسأغفر كذلك ما يجترح بعد اليوم من نفور وجموح!
فبعض الظالمين وإن تناهى
شهي الظلم مغفور الذنوب
باسم الآباء يرزقون
كنا نسأل الرجل ما اسمك؟ فيقول: ابن فلان أو خالي فلان! وكنا كثيرا ما نسكت عن هؤلاء؛ لأنا نظنهم أغنياء؛ إذ كانوا من أبناء الأغنياء أو أبناء أخوات الأغنياء! ومتى كان المال نسبا عند بعض الناس فقد يكفي أن ينتسب أحدهم لغني؛ لأن المال موروث!
ولكن الذي لا نفهمه - في هذا الجيل - أن يسأل الرجل عن اسمه فيقول: ابن فلان العالم الجليل أو الكاتب البليغ أو الشاعر المجيد. وكل امرئ يعرف أن الآباء يتركون لأبنائهم مالهم إن أخطأه التبديد! فأما العلم والأدب والفلسفة فمما لا ينال بالميراث، ولا يمكن أن يحترم جاهل أو غني؛ لأن أباه عالم أو فصيح.
فهل لأبناء العلماء والكتاب والشعراء أن يريحونا قليلا من خيلائهم ثم يقبلوا على العلم والأدب إن شاءوا أن نوليهم بعض ما أولينا آباءهم من التبجيل؟
كتاب الجرائد الأدبية
كنا نحسب السادة «المتأدبين» كتاب الجرائد الأدبية قوما يحبون الصدق ويبغضون الاختلاق؛ لأن العهود التي قطعوها على أنفسهم يوم افتتحوا جرائدهم «بالبسملة والحمدلة» كانت تؤذن بأنهم أنصار الحق وأعداء الضلال!
ولكن فريقا من هؤلاء الكاتبين يستبيحون لأنفسهم الكذب والافتراء، فإذا سألتهم من شرع لكم هذه الشريعة الباطلة: شريعة الكيد للناس باسم الدين والأخلاق، ابتسموا ابتسامة صفراء، وقالوا: إنما نفعل ذلك لينتبه الناس إلى ما نكتب فتنبه جرائدنا وتذيع!
ألأجل أن يعيش عشرة من الكسالى الذين ضاقت عليهم الدنيا بما رحبت؛ لأنهم لم يسلكوا سبيل الحياة؛ يؤذى الأبرياء في أنفسهم وأموالهم، وتعق الفضيلة، وتروج الأراجيف؟ كلا، لن ينال هؤلاء شيئا مما يشتهون، فقد سلمت الأذواق، وأصبح الناس أحرار العقول لا يقرءون جريدة إلا إن غلبت عليها النزاهة والإخلاص.
الشباب العابث
ضاق الفضاء علي من عبث الصبا
ورحمت فضلي من هواه العائث
فأغث فديتك يا مشيب كرامتي
إني سئمت من الشباب العابث
جرائد الحزب الوطني
إلى حضرة الأستاذ محمد الههياوي
صديقي العزيز
قرأت كلمتك في استقبال «اللواء المصري» وما انطوت عليه من الأمل في انتصار الحق، واندحار الباطل، فذكرت تلك الأيام السوداء حين كان الأمل قليلا في شفاء الأمة مما ألم بها من عبث الجهل، وكيد الضلال، يوم كانت هذه الصحيفة البيضاء لا تصل إلى العاصمة حتى ينقض عليها شياطين الإنس يتخطفونها من الباعة ليحرقوها في أماكن طالما احترمها الناس على حساب الاستقلال! يوم وقف بعض تجار الوطنية يذكر ما تضمنته جريدة الأمة من النقد الساحق لمشروع اللورد ملنر، ثم ختم كلامه بتمزيق هذه الصحيفة المحبوبة عقابا لها على انتقاد المشروع!
يوم كان رجال الحزب الوطني يخطبون فلا ينصت لهم سامع، ويكتبون فلا يأبه لهم قارئ، يوم عميت الأبصار إلا عن رؤية القبيح، وصمت الآذان إلا عن سماع الخبيث، يوم كان سيئات «المعتدلين» حسنات باهرة، تنظم في مدحها القصائد، وتحبر الرسائل، وما عهد المشروع ببعيد.
والآن وقد بطش الحق بالباطل، وانتقم الهدى من الضلال، وسلط الله بعض الظالمين على بعض، وأفاقت الأمة من غفلة التغرير، وأفاقت من شرك التضليل، وتميز الخبيث من الطيب، وهلك من هلك عن بينة، وحي من حي عن بينة؛ الآن لم يبق إلا أن تقولوا فيرفع الحق رأسه وتزل قدم الباطل، فيسقط إلى الحضيض، ثم يرضى الله والملائكة والناس.
وبعد، فإن الناس رجلان: رجل يتبع الحق ولو قل أنصاره، ورجل يتبع الأكثرية ولو اجتمعت على ضلالة، وها نحن أولاء نرى الأغلبية مع الحق المشرق الجبين، فثابروا على جهادكم أيها المخلصون؛ لتقر عين أنصاركم من قبل، وليهدي الله بكم أولئك الذين ما عرفوكم إلا بعد أن أصبح الباطل وهو صريع.
إنما ينافق الضعفاء
تنصحني يا هذا بأن أجامل، وأن أصانع، بل تريد أن أنافق، ويحك، إنما ينافق الضعفاء.
إن الله لم يخلقني لأكون ألعوبة، أداري هذا وأحابي ذاك، أنا خير منكم جميعا، بل سيدكم جميعا، فانظروا ما تصنعون!
أنا في نعمة من الله، لا أبالي بعدها أين يكون سخطكم، وأين يكون رضاكم، وإن الله لأكرم من أن يضطرني إلى مصانعة جماعة من الكسالى لا قيمة لهم في هذا الوجود. لا تنصحوني وانصحوا أنفسكم، حدثونا ما خطركم في هذه الحياة العاملة، التي نطق فيها الحجر، وأنتم - بفضل جهلكم - صامتون؟
إن فضيلة الوفاء هي التي تضطر مثلي إلى أن يجامل بعض الناس، وسأعرف كيف أهجر الناس جميعا حين لا يرضيهم غير النفاق.
هذا هو فصل الخطاب، ألستم تريدون أن أنافق كما تنافقون؟ كلا، لن يكون ذلك، إنكم تنافقون لتعيشوا، أما أنا فحي بالرغم منكم؛ لأن الله لا يريد أن أموت، وسوف تعلمون.
الأزهر الشريف
نريد أن نعرف لم يحرم طلبة الأزهر من دراسة الآداب العربية، ونريد أن نعرف متى تدول دولة المؤلفات السقيمة التي وضعها قوم أقل عيوبهم أنهم لا يفقهون لغة القرآن المجيد، ونود لو تفضل القائمون بإدارة المعاهد الدينية فدلونا على الغرض الذي رموا إليه حين ألقوا بالطلاب في بيداء من الخلط والتعقيد؛ لنطمئن كما اطمأنوا، ولنترحم مثلهم على المؤلفين الأغبياء الذين أفسدوا ما للطلبة من قلوب وعقول.
لا تنتظر - أيها القارئ - من كاتب مثلي أن يحدثك عن جهود العلماء في نشر الآداب العربية في ذلك البيت العتيق؛ فإني لا أريد أن أفجعك في آمالك وأحلامك، ولا أريد أن تعلم ما أعلم من أمر أولئك الذين يحسبون أنهم حارسو لغة القرآن وهم يفعلون بها ما لا يفعل الأعداء! وما ظنك بقوم يخطئهم العد من حملة الشهادة العالمية تمضي السنون والقرون وما تظهر لهم رسالة في اللغة أو مؤلف في البيان.
وحسبك أن تعرف أن الإحاطة بالأدب أو الفهم فيه مما يغض هناك من أقدار الرجال، فإن كنت في ريب من ذلك فأت بشاهد واحد يدل على أن الخبرة بالآداب العربية كانت مرشحا للدخول في هيئة كبار العلماء.
وهل سمعت يوما أن طالبا أخطأه النجاح؛ لأنه لم يعرف منازل الخطباء في الدولة الأموية، أو مراتب الشعراء في الدولة العباسية؟ وهل تحدث العلماء في ناديهم بأن فلانا غير كفء لدراسة التفسير أو الحديث؛ لأنه لم يفقه ذوق العرب الذين تلقوا كلام الله وكلام الرسول؟ وهل كتب واحد من المفتشين في الأزهر والمعاهد الدينية كلمة واحدة فيها ملاحظة وجيهة عن دروس المطالعة والإنشاء؟
وهل يجرؤ مدرس واحد ممن يدرسون للطلبة كتاب العقد الفريد، فيدعي - ولو كذبا - أنه خبير بما فيه من مظان الخطأ والصواب؟ وهل نجد من بين الذين تصدوا لبيان ما في كتاب الله من الحرام والحلال من درس الشرائع الوضعية والسماوية لذلك العهد حتى يدرك حكمة التشريع - وهذا أول واجب على من يدرس قصيدة قيلت في غرض خاص، فضلا عن كتاب أخرج الناس من الظلمات إلى النور؟ وهل تألفت في الأزهر جمعية أدبية كما تألفت فيه الجماعات للطرق الصوفية من جميع الأشكال والألوان؟
أليس في كل أولئك دليل على أن الأدب لا نصير له في ذلك المعهد الذي تحتشد فيه الآلاف المؤلفة من الشباب والكهول، أوليس في بعض ما ذكرت ما يجعل تنبيه هؤلاء الغافلين فرضا على من يغار على لغة القرآن والحديث؟
اتقوا الله في الجنس اللطيف
نشر أبو الهول كلمة لفتاة مصرية عنوانها «لا تهدموا زعيمنا يا أفراد الجنس الخشن» ولست أدري لم يصر الأوانس على تسمية الرجال بالجنس الخشن، مع أن الأليق تسميتهم بالجنس النشيط، وقد رأينا كيف قامت القيامة حين وصفهن بعض الرجال بالجنس الناعم، ويقول بعض المؤولين إن في إصرارهن على وصفنا بالخشونة دليلا على الطمع في أن يوصفن دائما بالنعومة، كما أن في هروبهن من وصفنا بالنشاط برهانا على نفرتهن من أن يذكر الناس ما في طباعهن من الكسل والخمود.
وبيت القصيد في رسالة تلك الآنسة التي نبغت في كفر الشيخ؛ هو شعورها وشعور أترابها بأن عرش زعيمتهن مهدد بالسقوط، وأنه لمن الواجب أن نلفت أنظار هؤلاء الفتيات إلى أن توقع الهزيمة شر على صاحبه من نكاية العدو الغالب بالعدو المغلوب، فإلى أفراد الجنس اللطيف من كاتبات وشاعرات وقارئات وخائفات أقدم العزاء.
بقي النظر في مستقبل هذه الجهود النسائية، وعندي أن الأفضل لأمثال الآنسة منيرة من كل مهذبة تغار على هذا الوطن الحزين؛ هو التفكير في خلاص المرأة المصرية من قيود الجهل والمهانة، فإن نجحن في ذلك فإني أبشرهن «بالغلبة» في البرلمان - بعد عمر طويل.
الجنون فنون!
جاء في الصحف الفرنسوية أن رجال الشرطة في باريس لا يكاد يمر عليهم يوم دون أن يقبضوا على رجل أو أكثر بتهمة واحدة، هي: تلويث ثياب السيدات بالحبر! وقد اعترف المقبوض عليهم بهذه التهمة، ولكنهم اختلفوا في السبب الذي اقترفوها من أجله، فبعضهم قال: إنه فعل ذلك بدافع خفي لم يفهم منه غير الشعور بلذة غريبة حين يرى أثواب السيدات قذرة ملوثة. وقال آخرون: إنهم فعلوا ذلك؛ انتقاما من المرأة التي تخطر في الدمقس والحرير والناس يتضورون جوعا ويموتون من المسغبة.
وعندي أن السبب الأخير مصنوع؛ لأن النساء لم ينفردن بالترف والزينة، ولأن الحقد على الرجل المترف أولى من الحقد على المرأة المترفة، ولو كان هؤلاء صادقين في دعواهم الانتقام من النساء المتبرجات لكان لهم مضطرب واسع في الانتقام من الرجال المتأنقين.
والسبب الصحيح هو بغض الرجل لحرية المرأة، وتلك ظاهرة طبيعية، نكون مكابرين إن جحدنا وجودها في الطباع، وهذا هو السر في ترك الرجل امرأته الجميلة وهتكه لحرمة امرأة قد تكون دون زوجه جمالا وصباحة ! وضياع الشرف قيد في الرجل وغل في العنق، تصبح المرأة بعده من سقط المتاع، والمرأة الساقطة أكثر ما تكون هوانا في عين من أغراها بالسقوط، فإذا عفت المرأة وصانت نفسها عن الغواية؛ ذل الرجل وصغر، وأطال فيها قصائد التشبيب، فهل يفهم النساء؟
بين الهدى والضلال
قرأت في جريدة «الليبرتيه» فقرة تحت عنوان «الشعراء الفاسقون»، ولو أردنا الدقة في التعريب لقلنا «الشعراء الغاوون»، ولكن كلمة الغاوي أخذت في العرف معنى غير معناها القديم، وعنوان تلك الفقرة هو عنوان كتاب فرنسوي جميل جمع بين دفتيه قصائد مختارة بديعة لشعراء فرنسا الأقدمين الذين وصفوا المرأة وتغنوا بطرفها الساحر، وخدها الأسيل.
وقد بين الكاتب أن هذه القصائد القديمة تبهره أكثر مما يبهره وصف المرأة في الشعر الحديث، وقد تساءل عن السبب في هذا السحر الذي انفرد به الأقدمون، وحرم منه المحدثون، مع وجود الوحدة في اللغة والموضوع، ثم أجاب عن ذلك بأن المحدثين لم يرزقوا صفاء السريرة، وإن رزقوا قوة الذكاء.
فهل يسمع أنصار الأدب الجديد، أولئك الذين يريدون أن يكون الشاعر عبدا للوزن والقافية، فلا يثبت كلمة إلا حذف كلمة، ولا يعرض عن الحقيقة إلا أقبل على الخيال، فإذا انتهى من المشاكل اللفظية والمعنوية ذهب يتسمع أقوال الكتاب ويتلفظ آراء الشعراء؛ ليكون شعره غاية الغايات في إقناع العقول وإمتاع القلوب.
فإن أراد القارئ مثالا من الشعر المطبوع والمصنوع فليقرأ هذا البيت:
ما أنصفتك جفوني وهي دامية
ولا وفا لك قلبي وهو يحترق
ثم ليقرأ هذين البيتين:
أحبك حبا لو يفض يسيره
على الناس مات الناس من شدة الحب
وأعلم أني بعد ذاك مقصر
لأنك في أعلى المنازل من قلبي
أفلا يرى القارئ أن البيت الأول أروع وأمتع، ثم ألا يشعر - وهو يقرأ البيتين الآخرين - أن قائلهما أضعف من أن يملك النفس، ويخلب الفؤاد؟
وهناك شاهد آخر للصنعة والطبع في الأعمال؛ فإنا نرى العامة يتهافتون على «الكسوة الشريفة» وهي خارجة من مشهد الحسين، فنهابهم ونبجلهم؛ لأنهم يعملون ذلك عن عقيدة ووجدان ، ثم نرى الوزراء في مكان آخر يتمسحون بأهداب تلك الكسوة فنحتقرهم ونزدريهم؛ لأنا نعرف أنهم يراءون الناس، وكذلك تختلف قيمة العمل الواحد باختلاف مصدره؛ وهو الإخلاص أو الرياء، فمن لنا بكتاب وشعراء يستمدون وحيهم من قلوبهم، ولا يضيرنا أن تسبق المجانة إليهم؛ فإن الإخلاص خير كله، حتى في الخلاعة والمجون.
في سبيل الحب!
الحمد لله قد ظفرت ببقايا تلك الرسائل، هذه قطعة من الخطاب الذي بعثت به إليها في ذلك الصباح الجميل، يوم أهدتني رواية أنديانة، عفا الله عنها كيف محت منه الإمضاء؟ لعلها خشيت أن يعرف أحد من أهلها مصدر الخطاب، فيكون ما تقذى له العين ويشجى به الفؤاد.
الحمد لله، أجل، الحمد لله الذي لا يحمد على الضر سواه! وأي ضر أبلغ من أن أرى كتبي إليها غرضا للإحراق والتمزيق؟ وأكثر من ذلك ويلاه، ماذا أقول؟ لا بد من الصراحة!
لقد ظهر عرضا في يد الخادم خطاب كتبت عليه لوازم المنزل في يوم 15 أغسطس من «السنة السوداء»، ولكن لا أنسى أن إمضائي محي منه عمدا حتى لا يعرض على الناس، فبأي لسان أشكر ذلك الصنع الجميل؟ يجب أن أفرح، هذه مجموعة نفيسة من الرسائل الغرامية، وقد لا يصعب علي أن أرتق ما بها من الفتوق، ولا مانع من أن يبقى هذا الخطاب مزخرفا بذلك النقش البديع، فقد كتبت في بعض جوانبه مسألة حسابية، يا ويلها يوم يقوم الحساب!
مجموعة نفيسة، ولكن ما أخطر النكبة، وما أقل العزاء، لو أن هذه الكتب ظلت مصونة، لكانت رمزا لسعادة من كتبها وأمانة من كتبت إليه، أما الآن فقد أصبحت دلالة على شقاء من كتبها، وخيانة من كتبت إليه، رويدك أيها الدمع، رويدك فقد قرحت أجفاني، وما تحرك قلبها القاسي، ولكن ... في سبيل الحب ما ألاقي! وما هو الحب؟ إنه مرض من الأمراض، سمي بهذا الاسم، لولا أنه كالنقرس، لا يبتلى به إلا الملوك.
مومس تستبق الخيرات
قرأت كلمة لمراسل إحدى الصحف اليومية يذكر فيها أن مومسا ببندر دمنهور، طلبت من وزارة الأوقاف التصريح لها ببناء مسجد «سيدي ضحوة» الخرب على نفقتها الخاصة، ولما كانت موارد رزق هذه المرأة «معروفة» فقد رفض الطلب - بادئ ذي بدء - لولا أنها جددته وقدمت إعلاما شرعيا يفيد حيازتها - بالميراث الشرعي - أملاكا ثابتة ومنقولة، فوافق المفتي على طلبها وشرعت في البناء. قال المراسل: وزادت تلك المومس على ذلك أن أوقفت جميع أملاكها على بناء وترميم وتصليح كل مسجد خرب في دمنهور والمساجد الخربة فيها كثيرة!
ثم علق على هذا النبأ بقوله: كان لإتيان هذه المومس عملا خيريا كهذا صيحة دهش وعجب في نفوس الجميع، فكنت ترى في الأندية والفنادق وفي مشارب القهوات؛ جموع الحاضرين يتساءلون ألا يوجد في المدينة غير المومس؟ فكان المنظر مؤثرا جدا يبعث على الحزن العميق، وينم على مبلغ تأصل الحقد في النفوس، ويؤجج في القلوب نارا لا يخمد لها لهيب، فيا للعار ويا للفضيحة، ويا لشقائك يا دمنهور؟
هكذا يتحدث الناس حين تقوم امرأة فاجرة أو رجل فاسق بعمل جليل، ولعل أكثرهم ثرثرة في مثل هذه الشئون هو أعداهم للبر وأبعدهم من المعروف! إنكم لا تستنكرون أن يخبث الطيب، كما تستنكرون أن يطيب الخبيث، ولكن الله في رحمته لم يشأ أن يترك العالم لأحكامكم الجائرة، وعدوانكم الفظيع، فقال وهو أصدق القائلين:
إن الحسنات يذهبن السيئات ، وقال:
قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ، فما لكم كيف تحكمون؟
نساؤنا ونساؤهم
يظهر أبو الهول وهو حافل بالموضوعات النسائية، فيخيل إلى قارئه أن النساء في مصر يسابقن الرجال في ميدان الحياة، ولقد ظننت حين حمي الوطيس بين الجنس اللطيف والجنس النشيط أن نهضة المرأة لم تعد أمنية جميلة، بل أصبحت حقيقة واقعة. ولا أكتم القراء أني كنت أخشى أن أصطدم بهذه القوة الجديدة التي تمثلها - تمام التمثيل - الآنسة منيرة والآنسة إنصاف، لولا أني سألت صاحب هذه الجريدة عن اللواتي يكتبن فيها من الجنس اللطيف فأنبأني - مع الأسف - أن اللواتي يكتبن آحاد أو عشرات!
وهنا أخذت أتأمل عبث هذه الفتاة المشاغبة التي ملأت الدنيا نواحا على حرمان المرأة المصرية من عضوية البرلمان. إن قليلا من التبصر يا آنسة منيرة كاف لرجعك عن هذه الآراء الجامحة، وإن نظرة إلى فتك الجهل بالبنات والأمهات كفيلة بأن تخلق منك معلمة ماهرة تقضي على هذا الجهل في بضع سنين، ولكنك أشبهت راصد الكواكب الذي شغل عما في الأرض بما في السماء فضاع ملكه، وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم.
لك أن تسابقي الرجال، ولكن ألا يجب أولا أن تنهضي بالنساء؟ فإن كنت في شك من تأخر المرأة المصرية في هذا العصر الذي تكلم فيه الجماد فاسمعي ما يقول الفرنسيون عن نسائهم؛ لتعلمي أن أول واجب على أمثالك هو مسابقة المرأة الأجنبية في ميدان العلوم والفنون، فأما الكيد للرجل، والحقد عليه، والزراية به؛ فهي ضروب من الجنون!
قالت إحدى الجرائد الفرنسوية: «كان آخر نجاح للمرأة الفرنسوية هو قبولها في سكرتارية جمعية محاضرات المحامين، وهذا النجاح من أجل وجوه الفوز الذي تفخر به السيدات المحاميات في دار الحقانية، وقد بلغ عدد هؤلاء المحاميات الفرنسويات اليوم ثمانين سيدة يقمن بمهمة الدفاع أمام المحاكم في فرنسا، ويوشك نجاح المرأة الفرنسوية من هذه الوجهة أن يفوق نجاح المرأة الإنجليزية التي ينتظر أن تفتح أمامها أيضا أبواب دار الحقانية، وكان عدد النساء اللاتي تقدمن إلى امتحان مدرسة الطب أخيرا يزيد على ثلث المجموع، وهو ما يعدنا بتخرج عدد عظيم من السيدات الطبيبات.
وهكذا يعم العلم نساء الطبقات الديموقراطية بعد أن كان مقصورا على أميرات الطبقة الأرستوقراطية، ولا يحصى عدد النساء المستنيرات اليوم، وليس بين السيدات المتعلمات في فرنسا من ليست حائزة دكتوراه في الطب أو غيره من أنواع العلوم.»
لا يدهشك ذلك يا آنسة منيرة فتلك بلاد يبغض أهلها الفضول، ولا يتعلم أبناؤهم وبناتهم غير النافع المفيد، ولقد بلغ الجد بالأوانس في فرنسا أن حلت الفتاة محل الفتى في الوظائف الكتابية الصغيرة، وتبدل الإعلان المعروف من «مطلوب كاتب صغير لمحل تجاري أو مكتب محام» إلى «تطلب فتاة تكتب على الآلة الكاتبة ... إلخ.»
وتقول تلك الجريدة: «وهناك في مكاتب المهندسين أيضا ترى بعض الآنسات يرسمن تصميمات لمبان كبيرة»، فبكل أدب وإجلال أطالب الآنسة منيرة بأن تتناسى آمالها البرلمانية، ثم تقبل بنشاطها على تكوين هيئة من أترابها المهذبات، ثم تعمل هذه الهيئة لنشر المعارف الضرورية بين السيدات والأوانس حتى إذا نهلت المرأة من موارد العلم، وأحست بظهور أثرها في الحياة المصرية؛ فكرت حينئذ في أن تسابق الرجال إلى مقاعد البرلمان. فهل تتقبل مولاتي هذا الاقتراح من كاتب يرجو أن تسمو المرأة بخواصها الذاتية لا بالتكبير والتهليل؟
مرض النوم!
ذكرت جريدة الجورنال الفرنسوية أن فتاة أصيبت بهذا المرض في إحدى القرى الإنجليزية، وأنها لبثت نائمة ستة أسابيع ثم استيقظت فجأة وظلت في يقظتها 13 ساعة، ثم استأنفت النوم، وأنها لا تزال منذ سنة على هذه الحال!
والذي نلاحظه أن المسمى واحد، والأسماء كثيرة، وكان خيرا لو وصف بمرض النوم كل من يقضي «ستة أسابيع» لا يقول فيها كلمة طيبة، ولا يؤيد فكرة صالحة، ولا يحارب بدعة سيئة، فليس لليقظة قيمة إلا بقدر ما فيها من صالح الأعمال.
وليس الذين يفتحون أعينهم وآذانهم ليروا ما لا تحل لهم رؤيته ويسمعوا ما لا يجوز لهم سماعه، بأهل يقظة، ولكنهم غارقون في بحار الغفلة، وهائمون في بيداء الضلالة، تحسبهم أيقاظا وهم رقود.
ومن يدرينا لعل تلك الفتاة تنتفع بساعاتها المعدودة أكثر مما ينتفع بعض الناس بعمره الطويل، وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون.
حديث الحب
1
كتبت الآنسة الأديبة حياة فهمي كلمة عنوانها «لعن الله الحب»، وقد أنعت فيها على الحب والمحبين، قالت في أثنائها عن نفسها: «لست ممن تغلب الحب على قلوبهم.»
ثم قالت: «الحب عدو لدود للإنسان، فيجب أن يبعد عن القلوب، ويجب أن تعيش القلوب في جو غير جو الحب ... تباعدوا عن الحب.»
وقد رأيت أن أجيبها عن كلمتها تلك بهذه الكلمة الصغيرة: قلت:
تلوم حياة على العاشقين
رويدا ورفقا بنا يا حياتي
جهلت الغرام فلمت المحب
هنيئا لعينيك في الناعسات
أليس كذلك أيها الأستاذ زكي مبارك ؟ إليك يساق الحديث والسلام.
2
شاعر السكرية
في مصر شاعر كبير وافر الأدب، كثير الحياء، يحدثك وكأنه يستفيد منك، فيملي عليك ما يبهرك من آياته البينات، وما زلت أذكر كلمة صديقي الأستاذ الشيخ سليمان نوار وقد حادث هذا الشاعر الجليل منذ ثمان سنين؛ إذ قال لي بعد هذه المحادثة: إنك لا تدري أتعده من الشعراء، أم تعده من علماء الأدب؟ فذكرت - إذ ذاك - قول القدماء في الأصمعي: إنه أعلم الشعراء، وأشعر العلماء. ولهذا الشاعر طابع خاص في النسيب، يكاد يتمثل في قوله:
أحس في القلب وقدا
يا رب لا كان حبا
وقد اخترت هذا البيت لقربه من كلمته في حوار الآنسة حياة فهمي:
تلوم حياة على العاشقين
رويدا ورفقا بنا يا حياتي
جهلت الغرام فلمت المحب
هنيئا لعينيك في الناعسات
ولهذا الشاعر المقيم «بالسكرية» فضل الإشادة بكاتب هذه السطور؛ فقد دعاني إلى حساب الآنسة حياة، وهو يعلم كيف عجزت عن حساب الآنسة منيرة، وإني بهذا العجز لمختال فخور.
يرى سيدي الشاعر أن الآنسة حياة جهلت الحب فلامت المحبين، ولو قال غير ذلك لأصاب شاكلة الصواب؛ لأن المرأة كالسياسي سواء بسواء يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، والله أعلم بما يكتمون، فإذا قال السياسي: «لا»، فاعلم أنه يريد «نعم»، وإذا قال: «نعم»، فاعلم أنه يريد «لا»، وإذا قالت المرأة: «لا أحب»، فاعلم أنها «تحب»، وإذا زعمت أنها «كارهة»، فاعلم أنها «راضية». فإن كنت في ريب من ذلك يا صديقي الأديب فإني أذكرك بقولك من قصيدة نشرتها لك في جريدة الأفكار سنة 1919:
عهد السياسة كاذب
لله درك يا سجاح
وقد قال «تاسو» الشاعر الإيطالي المعروف: إن المرأة تفر، وتود أن تلحق وهي فارة، وتأبى وتود في إبائها أن تسرق، وتناضل وترغب أن يظفر بها في النضال! فقول الآنسة حياة: «لست ممن تغلب الحب على قلوبهم» معناه أن الحب صيرها باكية العين، دامية الفؤاد! وقولها: «الحب عدو لدود للإنسان، فيجب أن يبعد عن القلوب» معناه: الحب مادة الحياة، فيجب أن تزود به القلوب، وقولها : «تباعدوا عن الحب » معناه: أقبلوا على الحب بسمعكم، وبصركم، وقلبكم، أيها الشباب!
هذا يا صديقي ما تريده الآنسة حياة فهمي، فهي حين تقول: «لعن الله الحب» إنما تريد «حيا الله الحب».
ولا يفوتني قبل ختام هذه الكلمة أن أوجه للآنسة حياة هذا السؤال: إنك تأمريننا بأن لا نحب «سمعا وطاعة!» ولو أني سمعت هذه النصحية قبل خمسة عشر عاما لنجوت من الحب، ولاسترحت الآن من تسطير مدامع العشاق، ولكني يا مولاتي - لسوء الحظ - قد أحببت، وقد ضربت بمحبتي الأمثال، وأريد أن أسلم من الحب على يدك الطاهرة، جعل الله في يمناك الشفاء، من كل داء، فهل لك أن تصفي لي طريق الخلاص من هذا الضلال القديم، ومن أسماء الحب الضلال؟
أنا في انتظار الجواب!
ملحوظة:
أرجو أن تحترس الآنسة حياة، وهي تكتب أنواع العقاقير من أن تنهاني عن التطلع إلى العيون، والخدود، والثغور والنحور والنهود؛ فإنه لا سبيل إلى مثل هذا المتاب! وإنما أريد أن أسلو وأنا أعبث بأفنان الجمال، كما يرد الشارب الكأس وهي تتوهج بين أنامل الساقي الجميل!
3
رغب الأديب الكبير النابه والكاتب الفنان اللبق الأستاذ زكي مبارك في كلمته إلى الكاتبة الأديبة الآنسة «حياة» أن تصف له دواء للسلوى عن الحب، فقد اعتزم الإبلال منه فيما يقول، بعد أن مست فيه العيون، وتوزعت لبه الغيد، بيد أنه اشترط عليها فيما استوصفها إياه من الوصفات والعقاقير، ألا تحميه بواعث الشوق ولا تحجر عليه أسباب الهوى ودواعي الشجن، فقال: «أرجو أن تحترس الآنسة حياة، وهي تكتب أنواع العقاقير من أن تنهاني عن التطلع إلى العيون، والخدود، والثغور، والنحور، والنهود؛ فإنه لا سبيل إلى مثل هذا المتاب، وإنما أريد أن أسلو وأنا أعبث بأفنان الجمال، كما يرد الشارب الكأس وهي تتوهج بين أنامل الساقي الجميل.»
فكان كمن يتقي الداء بالداء، ويستكف النار بالحلفاء، وأكبر الظن أن تلك الوصفات وهذه العقاقير لا تصاب في «صيدلية» آنسة خفرة حيية مثل الآنسة حياة.
من أجل ذلك نتشهى على صديقنا النبيل أن يتقبل منا أن نستطب لدائه عنها، ونصف له الدواء نحن لا هي، أجل إنه لعزيز علينا أن يرمى ذلك الجفن الغضيض بالإطراق، ويندى ذلك الجبين الوضاح بالخفر، ويضرج ذلك الخد بالحياء، فليأذن لي في أن أنشده قولي:
تناهب لبك سود العيون
وقسمت في كل نهد ونحر
دواؤك عند مراض اللحاظ
ولا يبطل السحر إلا بسحر
ذلك دواؤك الذي يطيب لك ويقر بعينك تناوله، ولا ندعو لك الله بالشفاء، من ذلك الداء، وإن أبيت إلا جفوة للحب، وعربدة على من تحب فطالما سمعناك تنشد مثل قول الشاعر:
أعز الله أنصار العيون
وخلد ملك هاتيك الجفون
ودام لها على ضعفي اقتدار
وإن هي أفسدت عقلي وديني
وبعد، فهنيئا لك تلك السلوى، وندعو الله لصاحبتك سالبة لبك، بل ندعو عليك - لا لك - بمثل ما قلته أنا لشبيهتها آنفا من كلمة:
لا شفى الله منك جفنا مريضا
وشفى من جراح جفنيك مرضي
آمين آمين، والسلام عليك.
حسن القاياتي
إطلاق المدافع؟!
اختلف كثير من الناس في فهم ما ذاع من عزم الوزارة المصرية على إطلاق مائة مدفع ومدفع يوم توافق إنجلترا على الاستقلال، قال قائل منهم: لقد فطنت الحكومة إلى أن الفطرة السليمة تأبى على المصريين تصديق ما يزعم المعتدلون من نيل الحرية من طريق المفاوضة والاتفاق، فهي تطلق المدافع «في وجه العدو» ولو في الهواء! وهنا لا يشك الناس في مشروعية الاستقلال. وقال آخر: إن الحكومة لا تجهل أن هذا لا يقنع المعارضين، ولا يهدي الضالين، ولكنها تريد أن تطلق المدافع في الهواء مجاراة لقول العامة «هف طلع النهار» وكان ما كان «يا سادة» يا كرام، وروي عن بعض المعارضين أنه قال: لقد كانت الحكومة - فيما مضى - تدافع عن سياستها بالبلاغ بعد البلاغ، فرأت الأمة لا تعجز عن مقارعة الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان، فصح رأيها أخيرا على أن تدافع عن سياستها بالمدافع. والذي يراه كاتب هذه السطور - بكل أدب وإجلال - أن الغرض من إطلاق المدافع ربما كان وقر الآذان، وتصديع الرءوس؛ حتى لا يدرك الناس حقيقة ذلك اليوم المشهود ، ويؤيد هذا الرأي ما أشيع من أن دويها سيكون أشد ما رواه التاريخ.
وقد اختلفوا أيضا في سبب التحديد، وهو مائة مدفع ومدفع؛ فمنهم من قال: إن الغرض مائة مدفع فقط، والمدفع الزائد للتأكيد، ومثال ذلك قول العامة في كفارة اليمين «ثلاثة أيام وثلث»، وقال بعض اللغويين: إن العدد لا مفهوم له، والمراد التكثير؛ كما قال جرير وهو يعد أبناءه:
كانوا ثمانين أو زادوا ثمانية
لولا رجاؤك قد قتلت أولادي
وقال بعض العدليين القدماء: إن الغرض من زيادة المدفع هو التيقن من أنها مائة لا شك فيها؛ ليكون استقلالا لا شك فيه، وقال عفريت من الجن: إن المائة مدفع الأساسية هي بشرى الاستقلال، والمدفع الزائد بشرى النصف الزائد، والغرض هو التأمين على قول أنصار مشروع ملنرانه «استقلال ونصف»، والله أعلم بحقيقة المراد.
بقيت كلمة واحدة نقدمها إلى رئيس الوزراء:
ألا يعلم صاحب الدولة أن تصريحات الإنجليز الرسمية كفيلة بمحو ما تترك المدافع في آذاننا ورءوسنا من الوقر والتصديع؟ فإن لم يكن ذلك، أفلا يكون بقاء الاحتلال دليلا على أن المدافع ليس لها من الأثر إلا أنها أصداء، تتراجع في الهواء أو ضوضاء تدوي في الفضاء؟
أيام الشباب
ولم أر كالفحشاء يخزى بها الفتى
ويثلم منها عرضه فيهون
وما كان زين النفس إلا عفافها
ولكن لأيام الشباب شئون
بلاغة طالب
بين يدي الآن ورقة صغيرة بالية، سأمزقها بعد لحظة، ولو تركتها بلا تمزيق لما ضمنت لها البقاء؛ لأنها من طالب يائس، أفاض عليها من روحه الضعف والذبول.
سقط ذلك الطالب في امتحان البكالوريا فخر صريع اليأس والقنوط ثم كتب في تلك الورقة هذه الكلمة:
يا.
كفنت قلبي بالبكالوريا، ودفنتهما في قبر الخيبة: ولن يعيش جسد بغير قلب. (...)
هكذا يكتب الطلبة، وهكذا يفكرون، ولا ندري من المسئول عن ضعف هذه النفوس؟! فقد أعددناها لتربية الأمة، فإذا هي لا تصلح لغير الرثاء.
قد لا يلام الطلبة؛ لأنهم لم يجدوا حولهم غير التكالب على الوظائف، ولا سبيل إلى السبق في هذا الميدان غير نيل الشهادات الثانوية والعالية، فمن الحق عليهم إن سقطوا في الامتحان أن يعملوا بقول الشاعر:
والأسى واجب على الحر إما
نية حرة وإما رياء
وكذلك نرى «الساقطين» ما بين منتحر أو مريض.
إنما اللوم كله على علماء الأدب والأخلاق؛ فقد كان في مقدورهم أن ينشئوا الرسائل، وينظموا القصائد، ويؤلفوا الكتب، يضربون فيها الأمثال لليائسين والقانطين، وكان في مستطاع أية جمعية أدبية أن تطبع كتاب سر النجاح وتذيعه بين الناس إن عز التأليف والتعريب، وكان الواجب على الجرائد اليومية أن تقتضب الأخبار السياسية الطويلة العريضة التي لو حكم فيها العقل لعرفنا أن تسعة أعشارها كذب واختلاق، ثم تفسح المجال للكتابة في تقويم هذه النفوس الناشئة، التي نخشى إن غلبت عليها هذه النزعات الخطرة أن تصبح بعد قليل خزيا لهذه البلاد.
كلمة
من مقدمة ذكرى فريد بك
هذه صحائف بيض، نكتبها لمن كان له قلب؛ ليعرف أن عظماء الشرق خير من عظماء الغرب، وأن ابن النيل في بأسائه أشرف من ابن التاميز في نعمائه.
وليعلم الذين في قلوبهم مرض، أن مصر التي كانت عروس الممالك لا تزال تنبت عرائس النفوس، وكرائم العقول، وأنها إن حرمت الحول والطول فقد منحت الفضل والنبل، وأنها خليقة بأن تقتلع الظلم من أصوله، والجور من جذوره، كما يقتلع الماء وهو صاف شفاف، ما يعترضه من لفائف الأعشاب، وقذائف الأوشاب، وأن تمحو آية الذل، كما يمحو الصبح آية الليل، وأن تنسخ الاحتلال، كما تنسخ الشمس الظلال.
ومن يك مثلنا حسبا ومجدا
تشجعه الصواعق والرعود
فإن يك سرهم منعى فريد
فكل غضنفر منا فريد
علماء الأزهر الشريف
تألفت جمعية من العلماء العاطلين للبحث عن موئل يفزع إليه خريجو الأزهر الشريف؟
والظاهر أن فريقا من هؤلاء لا يزال يحسب أن من الفرض على الأمة أن تمون أهل العلم وتجري عليهم الأرزاق، وهي خرافة قديمة وضع أصولها الملوك الجبابرة الذين رأوا من حسن السياسة أن يشتروا ضمائر العلماء بالهدايا والمال؟ وقد نجحت هذه السياسة وعاش العلماء زمنا غير قليل يدعون إلى الزهد والخمول، وما ظنك بقوم لم تضطرهم مطالب الحياة إلى ولوج أبواب الكسب والارتزاق، بل وجدوا كل ما يشتهون حاضرا عتيدا كطعام الجنة التي وعد بها المتقون.
واليوم يفكر بعض المخذولين في توزيع العلماء على القرى والبلدان ليعلموا العامة أصول الدين، ثم يتقاضون راتبا يجمع «رسميا» من المسلمين!
نحن لا نمانع من يعمل لراحة خريجي الأزهر، ولكننا نأبى ويأبى الدين أن يكون العلماء عالة يتكففون، وهم لم يخلقوا إلا لهداية الجماهير وإرشادهم إلى مناهج الحياة.
لقد أساء الضعفاء كثيرا إلى المعاهد الدينية، وقد آن لذوي العزائم الصادقة أن يضربوا على أيدي هؤلاء بأيد من حديد، حتى لا يذهبوا بالبقية الباقية من كرامة الأزهر الشريف،
وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون .
العفو يا هانم!
كتبت الآنسة إنصاف لصديقتها علية كلمة عن المعممين وشعرهم في الغزل والنسيب، وكاتب هذه السطور معمم أصابته العدوى - كما قالت الآنسة إنصاف - فانغمس في الحمأة، واندفع وراء الشيطان، وجاهر بالحب، وتبجح بالغزل. ويعلم الله أني فكرت في التوبة حين قرأت كلمتها الطيبة! ولكني رجعت على عقبي حين رأيتها تقول في نفس الكلمة ما نصه: «إني أعتقد أن الغزل فيه من الخطر ما فيه، خصوصا على دقات القلوب الشابة: فهو مخدر شديد الفعل سريع التأثير، وهو حيلة سحرية للتسلط على النفوس المطمئنة الهادئة»، أفلا يرى القارئ أن الآنسة إنصاف تدعو الشعراء دعوة صريحة إلى الغزل والنسيب، ومن ذا الذي يا سيدتي لا يطيل قصائد الحب، وهو يسمعك تقولين: «إن الغزل مخدر شديد الفعل سريع التأثير، وهو حيلة سحرية للتسلط على النفوس»، ثم يراك تنشدين بعد ذلك قول الشاعر:
خدعوها بقولهم حسناء
والغواني يغرهن الثناء
آمنا وصدقنا بأن الغواني يسحرهن التشبيب بشهادة الآنسة إنصاف، وسأستعين الله وأنظم قصيدة جديدة، أو أنشر قصيدة قديمة، أتصيد بها قلوب الحسان، والإثم على رأس هذه الآنسة الكريمة والسلام.
الحب الشامل
أشجاك ما خلف الستار وإنما
خلف الستائر لؤلؤ مكنون
والناس في غفلاتهم لم يعلموا
أني بكل حسانهم مفتون
جناية الكتاب والشعراء
إن الشر لكثير في هذا العالم، وأظهر ما يكون في الكلمات الجوفاء التي أشاد بذكرها الشعراء والكتاب، وإلا فأي خير جناه الناس من الصداقة، والإخلاص، والوفاء، والإيثار، وحفظ الجميل، والبر بالوعد والوفاء بالعهد، وما إلى ذلك من الألفاظ التي لا معنى لها ولا مدلول؟
إن هذه الكلمات حبائل وأشراك، يؤخذ بها سليمو النية في هذا العالم الطافح بالخبث والدهاء، وما أخطر الأسى حين يؤمن المرء بأنه ملك بعض القلوب، ثم يتبين بعد ذلك أنه - وحده - المملوك. ولست أنكر أن لبعض الأفراد عواطف شريفة، ونوازع نبيلة، ولكني آسف لخيبة هؤلاء في معترك الحياة، فمن كان في ريب من ذلك فلينظر دواوين الشعراء ورسائل الكتاب، وإني لواثق أنه لن يجد غير البكاء والعويل.
وإني لأذكر أن بعض الفرنسويين كتب كتابا عن أيام الأسبوع في لندرا، فلما وصل إلى يوم الأحد ترك له صحيفة بيضاء، إشارة إلى أنه يوم هادئ قليل الصخب والاضطراب، وما أجدر من يكتب عن أخلاق الناس بأن يترك صحيفة بيضاء حين يصل إلى الكلام عن الصداقة والوفاء؛ إشارة إلى انقراضهما من الوجود. فيا أيها الكتاب والشعراء، لا تسرفوا في وصف خواطر القلوب، وخوالج الأفئدة؛ فإن في الناس من لا قلب له ولا فؤاد.
ويا أيها القراء، حذار أن تصدقوا كل ما يكتب أو يقال، وإلا حقت عليكم كلمة العذاب.
عاقبة اللجاجة
للمرأة - كما قال بعض الكتاب المحدثين - مخيلة خاصة، وعقل شاذ، يصدر الآراء مشوهة بطبيعته دون ترو أو تكلف، ولها آراء في الحياة وفي الخير والشر لا تدرك، ولها نوازع نفسية تجعل منها مخلوقة غريبة ذات نفس متحركة نزاعة إلى السفاسف واصطناع الحيل، وأظهر ما تكون هذه النوازع في اختيار الزوج؛ فإن النساء يكدن للرجال كيدا عظيما في إثقالهم بشروط الزواج، غير أن السيدات لا يسلمن من عاقبة اللجاجة، ولا يترك الله شوكة كبريائهن بلا تخضيد، فقد جاء في بعض الأنباء أن سيدة لها من العمر ثمانون، تزعم أنها لم توفق في كل حياتها إلى شاب تتوفر فيه الشروط الآتية: (1) أن لا يتجاوز الخامسة والعشرين. (2) أن لا يكثر من الجلوس قرب النافذة حيث تمر النساء والبنات. (3) أن يظل مرافقا لها آخذا بذراعها حيثما ذهبت ولو إلى الحمام. (4) أن يحضر إلى البيت ست مرات في اليوم. (5) أن يأكل معها في صحن واحد. (6) أن يعترف لها عند المساء بجميع غلطاته في النهار. (7) أن يكتب لها - في لائحة - أسماء جميع السيدات اللواتي يكلمهن على أن تقدم إليها كل ليلة عند الجلوس على المائدة. (8) أن يكون حليق الشاربين طويل اللحية. (9) أن يقبلها كل يوم خمس عشرة قبلة - على الأقل.
وقد قيل: إن هذه الآنسة «عدلت بعض هذه الشروط؟» ثم وفقت أخيرا إلى اختيار زوج عمره عشرون سنة، ولكنه أعمى، فلا خوف عليه من الجلوس أمام النوافذ! أما أمر مرافقتها فذلك واقع بطبيعة الحال؛ لأن زوجها في حاجة إلى من يقوده، أما اشتراط حضوره ست مرات إلى البيت فقد أسرف الزوج في تحقيقه؛ لأنه أعمى يلازم البيت، وكذلك يأكل معها في الصحن الذي تريده، وقد حرمه عماه من مقابلة السيدات والأوانس.
وهكذا تنال العدالة الإلهية من غطرسة النساء. ولو أن المرأة عنيت بتقويم نفسها قبل أن تعنى باختيار شريكها في الحياة، لشغلت «بنت الثمانين» عن شروطها التسعة، ولرزقها الله رجلا يفي بالعهد وهو طائع، ولكنها بغت واستطالت فكان ما نقلناه من حديث تلك العجوز الشمطاء.
إن الضعف وحده سلاح المرأة، فلا يحسب السيدات أن القوة تدنيهن من السعادة؛ لأن في عناد الرجل صرفا له عن المرأة العنيدة، وهو إن لم يمنحها غضبه، فلن يمنحها رضاه، فما هذه الجلبة؟ وما ذلك الصياح؟ وكيف تسمو المرأة إلى مشاركة الرجل في الحياة الاجتماعية وهي في حاجة إلى قلبه؟ ولن يمنح الرجل قلبه للمرأة إلا وهي مطواع ذلول، لقد كانت المرأة ضعيفة فما منع ذلك الرجل من أن يخضع لها وهو قوي، ولكنها إن قويت فسيعرف كيف يفل الحديد بالحديد.
التهمة بالهوى
عجبت لهم أنى رموني بحبها
ولا مهجتي رهن لديها ولا قلبي
فيا رب صدق في هواها عواذلي
فإن عناء أن ألام بلا ذنب
وإلا فلا تقطع علي ملامهم
فإن ملام المرء فاتحة الحب
اخرجوا من عزلتكم وانظروا في أي عصر تعيشون
ألقى الأستاذ مصطفى عبد الرازق محاضرة في الجامعة المصرية عن رأي رينان في الإسلام ورد السيد جمال الدين الأفغاني عليه، وقد لاحظ المنصفون يومئذ أن الشيخ مصطفى عبد الرازق لم يوفق في سكوته عن دحض أقوال رينان، مع ظهور الكلفة عليها وبعدها عن مجرى التفكير المعقول. ولاحظوا كذلك أنه لم يتحفظ في نقل رد السيد جمال الدين بالرغم من المناقضة الظاهرة بين هذا الرد وبين ما كتبه هذا الفيلسوف عن الإسلام في مواطن كثيرة كان فيها من المخلصين، وقد استهدف الشيخ مصطفى عبد الرازق لمثل قول الشاعر:
مقالة السوء إلى أهلها
أسرع من منحدر سائل
ومن دعا الناس إلى ذمه
ذموه بالحق وبالباطل
وكذلك اندفع الناس يظنون في هذا المحاضر الظنون، ثم أعلن فضيلة الشيخ بخيت أنه سيرد على رينان في الجامعة المصرية، فكان يوما مشهودا ضاقت فيه صالات الجامعة عن الحاضرين، فحاضرهم الأستاذ في صحن الجامعة، وهم وقوف.
وقد ظلت هذه الحركة محور الأحاديث في مصر أياما كثيرة، وفهم الناس منها أن علماء الأزهر أحياء، وأنهم يغارون على الدين الحنيف، غير أنا قرأنا أخيرا كلمة في المقطم لمخلوق غريب ذيل توقيعه بكلمة «من علماء الأزهر الشريف»، وتنحصر هذه الكلمة في نقطتين: الأولى الرد على الشيخ بخيت في ذكره أن رينان غير فيلسوف، والثانية الثناء على الشيخ مصطفى عبد الرازق؛ لأنه من آل عبد الرازق الذين أصيبوا في هذا العام مصيبة حزن لها المصريون أجمعون.
وأنا لا أنكر أن المصريين حزنوا لوفاة المرحوم حسن باشا عبد الرازق، ولكني أنكر هذه الطفولة وهذه الحطة في نفس إنسان ينتسب إلى العلماء، ويهوي بنفسه إلى الحضيض فلا يفرق بين السواد والبياض، في موقف لا يضل فيه غير عمي القلوب.
وإني لأنزه قلمي عن ذكر هذا الإنسان الذي ضاقت عليه الدنيا بما رحبت حين رأى الشيخ بخيت ينكر أن رينان فيلسوف ، في حين أن هذا المخلوق لا يفقه اللغة العربية فضلا عن لغة رينان، وإنما هو دعي غفل عنه الدهر فيمن غفل عنهم، ممن دنسوا الأزهر حين ضموا إلى قائمة العلماء.
أحسن علماء الأزهر هذه المرة؛ لأنهم انتقلوا إلى الجامعة المصرية فواجهوا ما يقال عن الدين هناك، وقد كانوا من قبل يكتفون بنقد ما يجري من هذا القبيل في مجالسهم الخصوصية، وكنت أود لو عني الشيخ الدجوي فألقى محاضرة في الجامعة المصرية في الرد على رينان؛ لأنه فضلا عن علمه يمتاز بحسن الأداء، فقد تأفف الناس جميعا من إلقاء الشيخ بخيت لمحاضرته، ولولا أن الشيخ عبد الوهاب النجار ألقى الجزء الأخير منها لحصبه الناس.
هذا حق يجب أن نجهر به، وليس إخلاصنا لأساتذتنا في الأزهر بمانع من أن نواجههم بهذه الحقيقة، بل إخلاصنا لهم يفرض علينا دعوتهم إلى نبذ هذا الخمول؛ فنحن قادمون قريبا أو بعيدا على حياة عاملة، أخشى كثيرا أن يتخلفوا فيها عن الأحياء. ولست أدري لم أشتهي أن أصارح أستاذنا الدجوي بأن ما نقرؤه له في الدفاع عن الدين لا يغني شيئا؛ ما دام لا يوجه بعض جهوده إلى إصلاح المعاهد الدينية. ولست أدري أيضا لم أحب أن أكون صريحا مع هذا الرجل الذي أشعر بأنه من صفوة المؤمنين، فقد كان الظن به أن يساعدنا - ونحن أبناؤه - على ما نقاسي في الأزهر من همجية سيصبح الأزهريون صرعاها بعد قليل.
ولو أن فضيلة الشيخ الدجوي كان من قطر غير هذا القطر وزار الأزهر ولواحقه؛ لما شك في أن العلماء ضعيفو الإيمان، وإلا فما رأيه في رئيس يفرش بيته بالبساط، ويضيئه بالكهرباء ويترك الأزهر بلا ضوء وبلا حصير؟
إن رينان على حق فيما وصف به المسلمين، نحن الذين أسأنا إلى ديننا إساءة قد لا يتجاوز الله عنها، وقد لا ينساها التاريخ، فما ذنب رينان؟ لقد ذكر أن بعض المسلمين كان يحرق المكاتب العلمية ... فما رأي مولانا الشيخ الدجوي في أن علماء هذا العصر يقتلون أبناءهم بلا رحمة ، ويسومونهم سوء العذاب .
هنيئا لك يا سيدي الأستاذ، سينصفك التاريخ؛ لأنك تعمل شيئا يحفظه التاريخ، وويل لكل طالب يرميه أهله في جحيم الأزهر فيفقد شبابه وقوته، ثم يخرج إلى العالم فلا يفقه منه شيئا ولا يعرف العالم عنه شيئا؛ لأنه كان يحفظ أشياء لا صلة لها بالعصر الذي يعيش فيه.
إننا نغضب حين يظلمنا رينان وأمثال رينان، ولكننا نتلقى المظالم باسمين حين يظلمنا كبراؤنا وعلماؤنا ... بارك الله في رينان ومن ذكرنا بخطبة رينان؛ فقد يكون لهذه الخطبة ذكرى تنفع المؤمنين.
تكلم يا مولانا الشيخ الدجوي، تكلم يا أبيض الناس وجها وأفصح الناس لسانا، وأقسم لولا حبي لك لما خصصتك بهذا النداء. تكلم؛ هذا حين الكلام، لا تكفينا كلمة في الرد على هذا أو ذاك، لن يغنينا تفنيدك لأعداء الإسلام ما دام المسلمون أنفسهم مساكين، وما دام طلبة المعاهد الدينية في ظلمة قاتمة من هذه الحياة «الدنيا» التي رماهم بها نظام الأزهر العتيق.
اكتبوا ما شئتم، وارموا الناس جميعا بالإثم والفسوق، ولكن لا تنسوا أن الأزهر إن ظل على هذه الحال فلن يكون مآله غير الخراب، اعرفوا في أي عصر تعيشون، واعلموا أن الدين لن ينهض بنفسه؛ لأن الحق لا حياة له إذا نام عنه أنصاره وأشياعه.
كذب رينان فاصدقوا أنتم، وضل تابعوه فاهتدوا أنتم، والحذر من أن تسكنوا إلى ما يمتدح به الممتدحون من مجد الحضارة الإسلامية في عهد العباسيين والفاطميين؛ فتلك أيام خلت، ولا ينفعنا الماضي بشيء إن لم نسبق أهل العصر إلى العلوم والفنون.
هذه كلمة أعرف أنها قاسية، ولكني أرجو حضرة المخلص، مدير جريدة الأمة أن ينشرها كاملة:
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب .
وقد علقت جريدة الأمة على هذا المقال بما يأتي: «نشرنا هذه الكلمة ونحن نعلم أنها حادة حارة، ونعرف أنها ستغضب وترضي، ولم ننشرها فقط لرجاء الأستاذ كاتبها؛ فإن علينا فرضا أن نصدع بالحقيقة كيفما كانت ومهما أصابت. نعم، نشرنا هذه الكلمة؛ لأننا نتألم لما يتألم له كاتبها الأديب من قعود رأيناه ولم نزل نراه في سادتنا علماء الأزهر حماة الدين، سادتنا المسئولين عند الله قبل كل إنسان عن هذا الدين وما يصيبه من أعدائه - وهم عن ذلك غافلون أو مستيقظون ومعرضون.
ولسنا نعلم أي خير فيما يتوفر عليه العلماء من أساليب العمل في معاهدهم العظيمة؟ فعندهم كتب الفلسفة البائدة مشحونة بالجدل في الدين، لا نعلم ما قيمتها عندهم وما قيمة الاشتغال بها، وهي تتضمن شبهات وردت على الدين في أزمنة قديمة، وردها أهل الدين في تلك الأزمنة؟ أليس الاشتغال بها إضاعة للوقت في غير جدوى، بينما يسمعون ما أحدثه هذا العصر من شبهات أشد من تلك وأقوى؟
نرجو أن يخرج العلماء من عزلتهم ويستعيضوا من أبحاث الفلسفة القديمة وشبهاتها درسا لفلسفة هذا العصر وما استجد فيه من الشبهات، ولا يليق بهم أن يكونوا أصواتا تحكي أصوات أسلافهم الأقدمين في عصر لا يسمع هذه الأصوات ولا يعرفها.
إن العلماء لا يؤدون حق الدين عليهم إذا توالت هجمات أعدائه عليه وهم وقوف يشاهدون.»
زمان الصبا
زمان الصبا هلا عن الغي ناهيا
فترحل محمودا وتحمد ثاويا
صرفت نفوس الناشئين عن العلا
وأوردتهم يما من الجهل طاميا
لقد كنت عهد الجد لو أبصر الفتى
فودع رياه وأصبح ساليا
ومن لم ينل عند الشبيبة حظه
من المجد لم يخضع له المجد ثانيا
أقول وقد أبصرت مجد عشيرتي
جزى الله قومي خير ما كان جازيا
همو سلكوا للمجد كل تنوفه
وهم غرسوا مجدا على الدهر باقيا
فلست لقومي إن جريت مع الصبا
فدنست عرضي أو عققت رشاديا
إلى ...
مودة لك لم أظفر بزينتها
تقطع الحب في آثارها قطعا
وزادني كلفا في الحب أن منعت
أحب شيء إلى الإنسان ما منعا
حب ابن أبي ربيعة وشعره
في فبراير سنة 1919 ألقيت ثلاث محاضرات في الجامعة المصرية عن حب ابن أبي ربيعة وشعره، تحت إشراف الأستاذ النقادة الدكتور أحمد ضيف، وقد طبعت هذه المحاضرات بعد إلقائها بقليل، ويرى الناظر في ذيل الكتاب هذه الكلمة الجريئة:
وإني لموقن أن في الناس من لا يطرب لهذا النحو من البيان، ولكني لم أكتبه إلا لمن قدر له أن يدرك أسرار الجمال، وهدى الله من يحسب أن التأليف لا يصح إلا في الأبحاث التي تشبه بعض الأذهان في الجمود!
وقد نفدت الطبعة الأولى من هذا الكتاب، وستظهر الطبعة الثانية عما قريب، من أجل هذا أسبق النقاد إلى بعض المآخذ التي أراني مضطرا إلى إبقائها؛ إجلالا للثقة بالنفس، وإكبارا لنزق الشباب!
انظر قول ابن أبي ربيعة:
أبرزوها مثل المهاة تهادي
بين خمس كواعب أتراب
وهي مكنونة تحير منها
في أديم الخدين ماء الشباب
ثم قالوا تحبها؟ قلت بهرا
عدد الرمل والحصا والتراب
أتدري كيف علقت على هذه الأبيات الحسان؟ اقرأ الكلمة الآتية:
ووجه الحسن في تحيير ماء الشباب أنك تنظر إلى الخدود الموردة، فتراها كالشفق تتنقل من تحته الشمس، أو كالمشكاة يتموج في قلبها المصباح.
في سبيل الحب تلك النظرة، يوم رأيته وقد أبل من حمى أضرعته، فرأيت ماء الشباب يدب في تلك الخدود وهي صفراء كالورس، فيعيدها حمراء كالورد، وإذا الأنس يتمشى في فؤادي لشفائه، تمشي البرء في أعضائه.
وهذا استطراد لا يشك القارئ في أنه غير محمود، ولكني أستغفر الله!
وفي موطن آخر يجد القارئ هذه الكلمة:
لم يكن ابن أبي ربيعة ممن إذا غاب عنه حبيب أخذ في البكاء عليه والحنين إليه، تلك سبيل الشعراء الفجعين، الذين كانت قلوبهم أعوانا للدهر عليهم، وكانت نفوسهم أخصاما لهم، أولئك هم المعوزون في عالم المحبة، والمحرومون في دولة الصبابة، أولئك الذين يرون الجمال ظلا ظليلا، ثم لا يستطيعون أن يتفيئوا ظلاله، أولئك الذين يحسدون الغلائل على الأعطاف والعقود في النحور. وكيف يكون ابن أبي ربيعة مثلهم مسكينا في شعره، وما كان مسكينا في حبه؟ أم كيف يصف البكاء والمدامع، وما ألمت نفسه ولا دمعت عينه؟ بعدا للذلة حتى في الحب، وتبا للمسكنة حتى في الغرام.
وهذه صورة نفسية قد لا يقتضيها موضوع الحديث، ولكن هذا الذي كان.
ويرى القارئ في هامش الصحيفة الثانية عن ترجمة الشيخ حسين الحكيم ما نصه:
وكان - رحمه الله - آية الآيات في حسن الخلق، وصباحة الوجه، وأصالة الرأي، وحلاوة الحديث، وكان لا يعدله عندي غير شقيقي «سيد مبارك» الذي فقدته معه في أسبوع واحد، وكان موتهما معا بالحمى الإسبانية - لا رد الله لها غربة ولا قدر لها رجعة - وكان أخي سيد من أقوى الفتيان بأسا وأمضاهم عزيمة، ولو عاش لضربت بشجاعته الأمثال.
وقد سألني بعضهم عما يعني القارئ من هذا التفصيل فأجبته: إنه يعني مؤلف الكتاب.
ويرى القارئ هذه الكلمة عن عواطف أهل الحضر:
وقلما يصدق للحضريين حب، أو تبقى لهم صبابة؛ إذ يرون من متممات الظرف، ومكملات الأدب، أن يحيى الرجل بعين باكية، وقلب خفاق، فلا يزالون يتلمسون الهوى، ويتحسسون الصبابة، حتى تتاح إليهم أسبابها، وتساق إليهم همومها.
وأنا الذي اجتلب المنية طرفه
فمن المطالب والقتيل القاتل
وهذه مسألة فيها نظر - كما يقولون - ولا أستطيع أن أعد ما في كتاب «حب ابن أبي ربيعة وشعره» من الهفوات، ولكني أحمد الله على أن وفقت إلى تصوير ابن أبي ربيعة وتمثيل حياته، حتى كأنك تراه.
ولا يفوتني أن أذكر أن حضرة صاحب الفضيلة الشيخ مصطفى القاياتي قرظه بكلمة بارعة، نشرتها في مقدمة الكتاب، لا حبا في الثناء، ولكن حرصا على هذا الأثر النفيس، وأسأل الله التوفيق إلى تحقيق ما أطمح إليه من إحياء الآداب العربية، وهو حسبي ونعم الوكيل.
ذكرى صديق
كان مسلم بن الوليد يعجب من اتفاق اليأس والحنين، وكنت أشاطره العجب، فأترنم بقوله:
حنين ويأس كيف يلتقيان
مقيلاهما في القلب مختلفان
ثم أصبحت مؤمنا بهذا الاتفاق، فلا أراه عجيبا، فقد مات صديقي الشيخ حسين الحكيم منذ سنين، وأمسيت يائسا من لقائه، بل الطمع في لقائه جنون، ولكني أحن إليه كأنه حي وأكاد أزوره في منزله؛ لأنسى - حين ألقاه - همومي وأحزاني!
والحق أني لا أريد الاقتناع بأنه مات؛ فليس إلى الصبر على موته سبيل، وإنما أغالط حسي، وأخادع نفسي فأتوهم تارة أنه على سفر، وأن هذا السفر طويل ، وأتخيل تارة أخرى أن الموت لا حقيقة له، وإنما ننقل من دار إلى دار - كما قال أبو العلاء - وأني سأجده في انتظاري حين أنقل إلى الدار الباقية، فإلى الملتقى يا صديقي العزيز.
آمنت بالله، فما أحوجني إلى الإيمان وما أغنى الله عني وعن إيماني، وعن جميع العالمين، وماذا يغني الشك؟ إنه لا يقف دورة الفلك، ولا يحول بين القدر وبين تصرفه في الكائنات بالمحو والإثبات، يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب. آمنت بأن الله قوي وأن العبد ضعيف، وآمنت بأن الله عزيز وأن العبد ذليل. ولكن أليس لي - في ضعفي وذلي - أن أطلب من الله - في عزته وقوته - أن يهبني الطمأنينة على مصيري ومصير من أفقد من الأصدقاء؟ •••
ولد الشيخ حسين الحكيم في سنتريس، من قرى المنوفية، ثم سكن القاهرة، والتحق بمدرسة القضاء الشرعي ونال منها شهادة العالمية، ثم عين مدرسا بمدارس الجمعية الخيرية الإسلامية، فقضى سنة في المدرسة الواصفيه ببورسعيد، وبضعة أشهر في مدرسة دسوق الثانوية، وقضى نحبه هناك يوم الجمعة 9 ربيع أول سنة 1337 / 13 ديسمبر سنة 1918، ثم نقل إلى القاهرة مساء السبت ودفن بها مساء الأحد - وسبحان من تفرد بالبقاء.
كان للفقيد أصدقاء ثلاثة، وما زالوا أصدقاءه وإن حجبه عنهم التراب أولهم كاتب هذه السطور، وثانيهم الأستاذ الشيخ حسن مأمون قاضي محكمة زفتى الشرعية، وثالثهم الشيخ مصطفى الجمل المحامي الشرعي؛ ففكرنا بعد موته في أن نوفيه حق الرثاء في إحدى الجرائد اليومية، فكتبت عنه أربع رسائل بعثتها إلى جريدة المنبر، ولكنها ألقت بها جميعا في سلة المهملات؛ إذ كانت لا تعرف ما نعرف من مجد ذلك الصديق، فضممت تلك الرسائل إلى صورة الفقيد، وإلى خطاب بعثه إلي من القاهرة، وخطاب بعثه إلي من بورسعيد، ووضعت هذه الذكريات في مكان حريز آملا أن يجيء يوم أسجل فيه هذا الأثر الغالي، فلما كانت الثورة المصرية وجاء دوري في الاعتقال لم يكن همي حين زارني في منزلي مأمور قسم الدرب الأحمر إذ ذاك المرحوم محمد بك فرج إلا أن آخذ معي إلى المعتقل ما بقي من آثار الشيخ حسين الحكيم؛ لتكون أنسي في وحشة الاعتقال، فلما عدت وضعتها في مكانها من جديد، وصرت أتردد إليها كما يتردد العابد إلى المحراب، ثم فتش البوليس منزلي في الصيف الفائت فبعثر هذه الأوراق، فأعدتها إلى مكانها مرة ثالثة، ولكن البوليس عاد ففتش منزلي في الأسبوع الماضي، فعزمت نهائيا على نشر هذه الآثار في كتاب البدائع لأقوم لصديقي الراحل ببعض ما يوجب الوفاء.
كان صديقي الشيخ حسين لا يرسل إلي خطابا إلا ابتدأه بوصف ما أرسل إليه من الشعر، أو النثر، ولو كنت أرى رأيه في شعري ونثري لنشرت ما بث به إلي من آيات الثناء، ولكني أرجوه أن يأذن لي بطي هذه الصحيفة فقد لا تهم القراء، وأكتفي بنشر ما يمثل سمو نفسه، وصفاء روحه، ورونق أدبه، وجمال خلقه ... فمن ذلك خطاب بعثه إلي بتاريخ 5 مايو سنة 1918 جاء فيه:
أخي، لقد حالت بيني وبين الانتفاع بآثار قلمك، والتمتع بمكنون نظمك ونثرك، ضرورة حياتي الجديدة التي أنستني كل شيء - ما عدا صداقتنا الوطيدة الأركان المتينة الدعائم - وما كان بودي - شهد الله - ولا عن رضا، ولكنها الحياة، تشغل المرء عن نفسه، وتلهيه عن واجبه، وكان ما كان.
والآن، هل لأخي أن يفتح لي قلبه، ويحلني من نفسه المحل الذي كنت أشغله من قبل؟ وهل أجد من كريم أخلاقه، ولطيف عفوه، وجميل رعايته، وحسن عطفه ما يشجعني على إحياء حب دفين، وغرام مستكن كاد يقضي عليه الإهمال، ويسحب ذيل العفاء عليه النسيان، ويذهب برونقه وبهائه باطل هذه الحياة العاتية؟
إنك إذا فعلت ذلك يا سيدي - وأظنك فاعلا - تكون قد أحسنت إلي إحسانا لا أزال أذكره، حتى يعتاق نفسي حمامها، ويهال عليها ترابها، وضممت هذه إلى نظيرتها - وهي كثير عندي - بل هي كنزي الثمين، أحرص عليها حرص البخيل بماله، والعفيف بعرضه، هي سلواي في هذه الديار النائية، والبلاد القاصية إذا ذكرتها ذكرت نعيمنا الماضي وعزنا الغابر وهناءنا السالف.
يوم كنا ولا تسل كيف كنا
نتهادى من الهوى ما نشاء
نعم تصرم حبل ذلك الزمان السعيد، وخلفه آخر أسود من الغراب وأمر من الصاب، يصدق فيه قول الشاعر:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم
وبقيت في خلف كجلد الأجرب
ولولا أنه أراد الإنسان وأردت الزمان فكلاهما غادر ماكر لا يؤمن كيده ولا يتقى شره، ولا رعى الله حياة التدريس لأطفال حمر الحواصل، لا يحسنون النطق، ولا يفرقون بين التمرة والجمرة، ولا بين الألف والمئذنة، حياة شبيهة بالموت، تمسخ العالم جاهلا، وتقلب المفكر غبيا، وترجع بالمرء إلى ما قبل الآن بعشرات من السنين ... فتجاوز عما تمر به في كتابي من أشياء لا ترضيك؛ فهذه إحدى سيئات الدهر إلينا.
وفي هذا الخطاب كلمة قاسية في وصف بورسعيد؛ إذ يراها «قطعة من أوروبا في الأخلاق والنظام والعادات»، وقد رأيت التجاوز عن هذه الكلمة، مراعاة لعواطف أولئك الناس، فقد تكون الغربة أثرت في ذلك الأديب فقال ما قال!
ولا أنسى أنه أجزل الثناء على صديقيه الشيخ محمد طاهر سمره ومحمد أفندي بهجت، ولعلهما كانا زميليه في المدرسة الواصفية، وأحب أن يتنبه القارئ إلى أن في القطعة التي نقلتها من خطابه دليلا على شعوره بأن أجله قصير، وقد لفتني إلى ذلك حضرة صاحب الفضيلة الشيخ مصطفى القاياتي حين أسمعته هذا الخطاب في سنتريس - وكان شرفني بالزيارة هناك.
وقد أرسل إلي من مصر خطابا رقيق الحاشية، استهله بهذا البيت:
سلام الله لا أرضى سلامي
فكل تحية دون المقام
وفي هذا الخطاب كلمة عن رأيه في التسرع بالزواج، ننقلها بنصها؛ لأهمية الموضوع الذي كتبت عنه، قال:
وكنت أتمنى من صميم الفؤاد أن يسعدني الحظ، فأنعم برؤية ذلك المهرجان الذي أقامه حضرة الوجيه السيد عبد الحميد مبارك احتفالا بزفاف نجله الأديب الشيخ علي مبارك لأقوم بواجب التهنئة، ولأوجه إليه بعض اللوم على تسرعه في هذا الزواج، فأنت تعلم يا أخي أن للشبان أطوارا مختلفة في حياتهم، تتكون حسب تربيتهم التي خصصوا أنفسهم لها، وبما رضي الشاب بعمل اليوم، لقصر نظره وصغر عقله، حتى إذا دخل في طور جديد من أطوار حياته، تحول في عينه نعيم هذه الدنيا إلى شقاء، ورضاه إلى سخط، وبندم ولات ساعة مندم.
وآخر خطاب وصلني من هذا الصديق جاءت في ختامه هذه الكلمة:
أنا سعيد بالإقامة في مصر، ولا ينقصني إلا التمتع بلقياك فآمل أن يسمح الدهر برد نعيمنا الشارد وأنسنا الغابر، فأين ذلك اليوم ومتى أراه؟
وهنا يعجز القلم عن رد هذا الخطاب؛ فقد سمعت أن هذا الصديق مات في ديسمبر سنة 1918، وعلمت بعد ذلك أن شقيقة الأستاذ حامد أفندي الحكيم مات في أسيوط في أواخر السنة الماضية 1922م.
وقد كان حامد أفندي غزير العلم، شهي الحديث، وكأني أحاوره الآن على شاطئ النيل في سنتريس، وكنت أتعزى به عن شقيقه الشيخ حسين، ولكن الدهر بالكرام ضنين.
شهابان منا أوقدا ثم أخمدا
وكان سنى للمدلجين سناهما
لقد ساءني أن عنست زوجتاهما
وأن عريت بعد الوجى فرساهما
ولن يلبث العرشان يستل منهما
خيار الأواسي أن يميل غماهما
ليلة وليلة
صحبت «عفريت الليل» إلى حفلة راقصة في مصر الجديدة، وكنت مدعوا لهذه الحفلة كما دعيت لأختها من قبل في شارع عماد الدين، وقد غالبت حيائي عند إجابة الدعوة الثانية، وخلقت لنفسي ما شاء الهوى من شتى المعاذير.
وإني لمحدثك عن المرقص الأول والمرقص الثاني، تلبية للصديق العزيز عفريت الليل، ولكني أتقدم هذا بإبلاغك ما جال في خاطري عند تسلم بطاقة الدعوة، فقد أعرف أني شيخ وأعرف أني في نفسي من حماة الدين الحنيف، والله عليم بذات الصدور، ولكني تذكرت بجانب ذلك أني صحفي، وأن المهنة تقضي علي بارتياد مواطن الشبهات، ومواقف التهم، لأرى كيف يعيش الناس، ولأقابل بين ما أراه على لوح الوجود، وما أراه على لوح التاريخ، وعندي أن الصحفي كالطبيب، فكما يجوز للطبيب أن يرى أجمل ما تستر المرأة ليقف على موقع الداء، يجوز للصحفي أن ينظر أغرب ما تكتم الأمة ليقف على موطن الداء، ولا فرق بين هذا وذاك، إلا أن الطبيب يعالج الجسوم، والصحفي يعالج العقول، فمن الجناية أن يتورع صحفي أو طبيب عن الوقوف على بواطن الأشياء، وهو عن فهمها مسئول.
وتذكرت أني كاتب، والكاتب كالمصور، لا غنى له عن رؤية كل مكنون، ولن يعذره أحد إذا أخفق في تصوير الغرائب المستورة، والعجائب المكنونة، بحجة الدين والأخلاق؛ لأن الفنان لا دين له إلا في قرارة نفسه، ولا خلق له إلا في أعماق ضميره، وهو غالبا فاسق النظر فاجر البيان!
ولئن جاز للطبيب أن يحجم عن إسعاف المريض إشفاقا على نفسه من رائحة الجراح القديمة، فقد يجوز للكاتب أن يحجم عن تعرف داء الأمة؛ رفقا بنفسه من مطالعة آثار الرذيلة، ولكنا نعرف أن الطبيب يجرم أفظع جرم إن نفر من رائحة الجروح، وليس جرم الكاتب بصغير إن نفرته مناظر الفاحشة عن درس الأصول الأولى للفاقة والبأساء. وكما أن الطبيب يمضي في العملية الجراحية غير حاسب أي حساب لما يسديه إليه المريض من الشتائم كلما آلمته المشارط؛ فإن الكاتب المخلص يضع «سمعته» نهبة لشتائم الصارخين من مرضى النفوس. وكلما آلمهم قلمه فسبوا وشتموا تذكر أن القلم في يده كالمبضع في يد الطبيب، وأنه يجب أن ينسى نفسه، وأن يعرف أن عدوه هو المرض الذي يحاربه في شخص المريض، وأن هذا المسكين لا يشتمه بصدق، وأنه سينظم له عقود الثناء بعد ذهاب الداء! •••
كانت الليلة الأولى في شارع عماد الدين، وكانت الليلة الثانية في مصر الجديدة، وكنت فيهما ذلك الفارسي الذي تخيله «مونتيسكيو» يجوس خلال باريس، فينكر الناس ما له من زي غريب، وينكر ما للناس من خلق غريب.
دعاني للمرة الأولى حسن أفندي فائق لأسمع أنشودته في صريع الكوكايين، فأجبت الدعوة كارها غير طائع، ولم أكد أدخل الملعب حتى التهمتني العيون، فمن قائل: جاء ليلقي عظة في النهي عن الموبقات، ومن قائل: يا عجبا للهو لم ينج من عدواه المعممون! فصحت فيهم إنما جئت لمقابلة حسن أفندي فائق صاحب أنشودة «شم الكوكايين» فتقدم إلي بعض العاملين في المسرح وقال: لقد انصرف حسن أفندي، وقد يعود بعد قليل، فإن شئت شربت فنجانا من الشاي وانتظرته حتى يعود، وكانت الليلة شاتية، وكان الشاي فيها خير مشروب، فأخذت أتخير مكانا بعيدا عن «همسات» الحاضرين و«غمزات» الحاضرات، وما هي إلا لحظة حتى صرخ صارخ: «اضبط! هذا صاحب مدامع العشاق» فالتفت فإذا عفريت الليل عن يميني، وابن الهوى عن شمالي، كأنهما منكر ونكير، أو رقيب وعتيد، قال عفريت الليل: من أتى بك ههنا؟ فقلت: وأنت من أتى بك ههنا؟ قال: أنا صحفي أحرر جريدة أسبوعية، فقلت: وأنا صحفي أحرر جريدة يومية، فما لك تشاركني في الفعل وتفردني بالعجب؟ ثم دعاني إلى تناول الشاي معه في مكان من الراقصات قريب.
جلسنا نتحدث، ولكني منحته أذنا غير واعية، وأقبلت بسمعي وبصري وقلبي على تلك القطع المختارة من شعر الوجود، فإن النساء يا صاح قصائد مسطورة في سجل الحياة، وأصحاب المراقص يتخيرون من هذه القصائد أعلقها بالنفس، وألصقها بالقلب، وقد خيل إلي ساعتئذ أني لم أحضر إلا لدرس هذه الطرف البديعة، لأتبين السر في «ضلال» من فتنته الخدود، وسحرته العيون، ولأعذر قتلى الحسن، وصرعى الجمال.
رأيت من بين الراقصات فتاة فرنسوية، وأخرى إسبانية، وثالثة مصرية، وقد رأيت الفرق واضحا بين هؤلاء الأوانس، وأظهر ما يكون الفرق في الحركات؛ فللفرنسويات والإسبانيات حركات في الرقص تشبه حركات الجنود في ميادين الحروب، ولا هم لهؤلاء الفتيات حين يظهرن على المرقص، إلا أن يبهرن الأنظار بخفة الحركة، وسرعة الدوران، في حين أن الراقصة المصرية لا هم لها إلا لفت الأنظار إلى خصرها النحيل، وردفها الثقيل، وخدها الأسيل، وطرفها الكحيل.
ترنو فتنقلب القلوب للحظها
مرضى السلو صحائح الأوصاب
ويحسب الرائي رقص الإفرنج نوعا من الألعاب الرياضية؛ إذ يرى الراقصات يتثنين بسرعة كأنهن ثعابين، ويختفين بسرعة كأنهن شياطين، ولا تكاد الراقصة تبدو حتى تختفي فيحسب - مثلي - أنه كان في حلم، وأن ما رآه طيف خيال. ولا يكاد الملعب يخلو من تلك الغادة اللعوب، حتى يقبل الناس بعضهم على بعض يتساءلون: أي شمائل هذه الغادة أروح للنفس وأمتع للعين؟
فمن قائل: شعورها الذهبية ، ومن قائل: خدودها الوردية ، ومن قائل: ثناياها اللؤلؤية. ويسألني «عفريت الليل» ما رأيك في هذه الفتاة؟ فأعتذر، فيعيد السؤال، فأكرر الاعتذار، فيلح، فأقول: ويحك لم أر منها شيئا، لقد مرت كالبرق الخاطف، فإن شئت هاتها بين يدي، أتأملها قطعة قطعة، كما أتأمل القصيدة بيتا بيتا، وكما أتأمل الرسالة فقرة فقرة، وكما أتأمل الكتاب بابا بابا، ثم أحكم أي ملامحها أحق بأن تسهد من أجله العيون، وتعذب في حبه القلوب.
أما الراقصة المصرية فهي ملك كل عين، وطوع كل قلب؛ إذ تخطر في المرقص، وكأنها الغصن الرطيب، يعبث به النسيم العليل، تقبل فإذا هي هيفاء، وتدبر فإذا هي عجزاء، وترنو برفق إلى كل ناظر، فيحسب كل امرئ أنه مرمى طرفها الناعس، ومهوى قلبها الخافق، فيمسي وهو صريع، وقد تتغنى وهي ترقص، فيروقك ما تسمع وما ترى، حتى لتحسب أنها آلة موسيقية، صورت من ماء اللؤلؤ، أو صيغت من نهود الكواعب، ثم تثوب إلى رشدك، فتذكر أن هذه ليست آلة موسيقية، بل هي إحدى اللواتي كان النيل يغضب قديما فلا يرضى حتى يضم إلى صدره واحدة منهن مفلجة الثغر، وضاحة الجبين.
حوراء إن نظرت إلي
ك سقتك بالعينين خمرا
تنسي التقي معاده
وتكون للحكماء ذكرا
وكأن رجع حديثها
قطع الرياض كسين زهرا
وكأن تحت لسانها
هاروت ينفث فيه سحرا
وتخال ما جمعت علي
ه ثيابها ذهبا وعطرا
وكأنها برد الشرا
ب صفا ووافق منك فطرا
وتطيل الراقصة المصرية في التثني، والتغني، حتى تهيج المشاعر والحواس، وحتى يقبح الهدى، ويجمل الضلال، ولا كذلك الراقصة الإفرنجية؛ فإنها تخطف البصر، ثم تغيب، وقد تتغنى، ولكنها تقتصر من الكلمة على حرف واحد، ومن القصيدة على بيت واحد، ثم تفر قبل أن تنفع الغليل.
كيف السبيل إلى اقتناص غرائر
يدمي بأسهم لحظها القناص
بيض السوالف عذبة أفواهها
ريا الروادف والبطون خماص
يجرحننا بنواظر ما إن لنا
منهن عند جراحهن قصاص
ولم أجد هذا الفرق البعيد بين الراقصة المصرية والإفرنجية، إلا في مرقص عماد الدين، ففيه تظهر الفوارق بين النزعات الشرقية والغربية ، وكل حزب بما لديهم فرحون.
الليلة الثانية
أما مرقص مصر الجديدة - ويا ويلتاه من مصر الجديدة - فهو خاضع للبدعة الفرنسوية، لا تكاد الموسيقى تصدح حتى تنتظم العذارى كأسراب الحمائم راقصات شاديات.
من بنات الروم لا يكذبنا
لونها المشرق عن منصبها
فهي حسب العين من نزهتها
وهي حسب الأذن من مطربها
تشرع الألحاظ في وجنتها
فتلاقي الري في مشربها
وإذا قامت إلى ملعبها
كمهاة الرمل في ربربها
سألت أعطافها أردافها
هل رأت أوطأ من مركبها
وكأن الحسان في هذا المرقص لا يستطعن الرقص منفردات، وكأن أقدامهن الصغيرة، لا يستطعن حمل أردافهن الخطيرة، فلكل فتاة فتى يطوق بيمناه خصرها النحيل، ويسند بيسراه خدها الأسيل، ثم يسير بها ضاحكة الثغر، ناعسة الجفون، وكل في فلك يسبحون.
يا ليت شعري وليت غير مجدية
إلا استراحة قلب وهو أسوان
لأي أمر مراد بالفتى جمعت
تلك الفنون فضمتهن أفنان
تجاورت في غصون لسن من شجر
لكن غصون لها وصل وهجران
تلك الغصون اللواتي في أكمتها
نعم وبؤس، وأفراح وأحزان
وكان «عفريت الليل» يوصيني بوصف تلك الليلة قبل أن تعزب عن البال، رويدك يا صاح، وكيف تنسى ليلة هي أنموذج لنعيم الجنة دار الخلود، وهل أنسى أني ما نظرت أمامي أو عن يميني أو عن شمالي إلا رأيت الحسن منثورا نثر النجوم الزهراء، في القبة الزرقاء، أو نثر الزهور البيضاء في الروضة الغناء؟
لما مشين بذي الأراك تشابهت
أعطاف قضبان به وقدود
في حلتي حبر وروض فالتقى
وشيان وشي ربى ووشي برود
وسفرن فامتلأت عيون راقها
وردان ورد جنى وورد خدود
وضحكن فاعترف الأقاحي عن ندى
غض وسلسال الرضاب برود
ولحظة واحدة، في تلك الجنة العالية، تنسيك الدين والأخلاق، ويكذب ثم يكذب من يزعم أنه لم يحسد أولئك الذين أنعم الله عليهم فخاصروا من يعشقون، على مسمع من الرقيب، ومرأى من الحسود.
ألا ليقل من شاء ما شاء إنما
يلام الفتى فيما استطاع من الأمر
ولم يكن الحسن في ذلك المرقص قاصرا على الراقصات، فقد كان الفندق يموج موجا بالرائحات الغاديات:
من كل ضاحكة الترائب أرهفت
إرهاف خوط البانة المياس
فإذا مشت تركت بقلبك ضعف ما
بحليها من كثرة الوسواس
وما زلت أحدق عيني في كل رائحة وغادية، حتى تألمت عيناي، فكأنما أطالع ذكاء، في كبد السماء، وكنت كلما بهرتني الثغور الضواحك وأسرتني العيون الفواتك، أفكر في جناية الجمال، على عشاق الجمال وعلى أهل الجمال، ثم أفكر في فضل الجمال، على أعداء الجمال؛ ففي العالم مئات الألوف من القسيسين والرهبان والعلماء، تصرف عليهم المرتبات؛ لأنهم يلقون الخطب الرنانة في ذم الجمال، وأهل الجمال، وعشاق الجمال.
مر بخاطري ذلك وأنا في فندق الهيليوبوليس، فعرفت أنه كلما وجدت الرذيلة وجد موجب للدعوة إلى الفضيلة، ووجد الوعاظ ما يأكلون، ثم استسلمت إلى التفكير العميق.
والآن في الساعة الثانية بعد نصف الليل، وقد مضى على تلك الليلة ست ليال؛ أفكر من جديد في جناية الجمال، على عشاق الجمال، وعلى أهل الجمال، ثم أطيل التفكير في فضل الجمال، على أعداء الجمال.
تعرض رسل الشوق والركب هاجد
فتوقظني من بين نوامهم وحدي
وما شرب العشاق إلا بقيتي
ولا وردوا في الحب إلا على وردي
تعلة الكريم
وصحب من البيض الثياب تطلبوا
ودادي فلم يهمم بطردهمو مجدي
منحتهمو ودي، فلما تملكوا ...
فؤادي، هفوا هفو الذباب على الشهد
فما تركوا وفرا لدي لمعتف
يصان به عرضي، ويورى به زندي
فلما تولوا بالتليد وأبصروا
فتى الجود مثل السيف سل من الغمد
أباحوا حمى لا يقبل الضيم ربه
وتخشاه يوم الروع صائلة الأسد
لعمري لئن ولوا بوفري فاغتدوا
بطانا، وخانوا من سفاهتهم عهدي
لقد خدعوا شهما يغر على الندى
فيسخو بلا من ويعطي بلا وعد
ومن عجائب ما يمنى الرجال به
مستضعفات لهم منهن أقران
مناضلات بنبل لا تقوم له
كتائب الترك يزجيهن خاقان
يا رب حسانة منهن قد فعلت
سوءا وقد تفعل الأسواء حسان
تشكو المحب وتلفى الدهر شاكية
كالقوس تصمي الرمايا وهي مرنان
وهذا المرقص ملتقى المحب والمحبوب، وليس العاشق في حاجة إلى أن يكون كابن المعتز حين يقول:
هل تذكرين وأنت ذاكرة
مشي الرسول إليكمو سرا
إن يغفلوا يسرع لحاجته
وإذا رأوه أحسن العذرا
فطن يؤدي ما يقال له
ويزيد بعض حديثنا سحرا
بل يكفي أن يتخذ له سحنة صناعية، وأن تضع المعشوقة خرقة سوداء على وجهها المشرق الجميل كما يحجب البدر بالسحاب، أو كما تحجب الشمس بالضباب، ثم يتلاقيان، فلا يعرفهما رقيب، ولا يشعر بهما حسيب.
وربما نظر امرؤ إلى فتاة فاطلع منها على كل مغيب مكنون «إلا الوجه الكريم» فتبعتها نفسه، وعلق بها فؤاده، وقد تكون أخته وما يدري؛ لأن «أقطاب» هذا المرقص يبدلون خلق الله، فيلبس الأمرد لحية بيضاء، أو زرقاء، وتتخذ الفتاة لوجهها من سود البراقع ما تشاء، وما ضر الفتى والفتاة أن تحجب من وجهيهما آثار الجمال، ما دام الخصر على الخصر والساق على الساق.
ولو كنت معنا هناك لفزت فوزا عظيما، فقد حشرت في تلك البقعة فنون الملاحة وألوان الفتون، كما تحشر ضروب السحر في الطرف الغضيض.
دواعي الشعر
1
أيها السادة
إن القمر الزاهر الذي يغازل الشعراء كما يغازلونه، والبحر الزاخر الذي يعجب الأدباء بأمواجه المتلاطمة كما يعجب بأفكارهم المعجزة، والروض الضاحك الذي يبسم الكتاب لأزهاره الشائقة كما يبسم لكلماتهم المتناسقة؛ تلك الظواهر الطبيعية التي تبعث على الشعر، وتدعو إليه؛ هي هي في كل قطر، وفي عيني كل كاتب، وفؤاد كل شاعر، وذلك ما أوجد التشابه في خيالات الشعراء، وأفكار الكتاب، وجعل الفرق غير بعيد بين قديم الشعر وحديثه، وطارف النثر وتليده.
فإذا قال قائل: إن العقل البشري سائر نحو الارتقاء في كل سبيل إلا من حيث الخيال الشعري؛ فاعلم أن ذلك ليس لعجز في القوى البشرية، أو تقصير من الشعراء أنفسهم، إنما كان ذلك؛ لأن دواعي الشعر خلقت مع الإنسان يوم خلقه، بل قبل أن يخلق بأجيال، فلا بدع إذا أن يظل امرؤ القيس شاعر العرب وهوميروس شاعر اليونان، وإن طال العهد وبعد الأمد، ولا كذلك ما عدا الشعر في الفنون والصناعات، فإن موجباتها خلقت مع الحوادث شيئا فشيئا، ولا تزال. فليس عجيبا بعدئذ أن يقف الشعر أو يسير سيرا هادئا في حين أن باقي الفنون تسابق الظل، وتجاري الريح في السير نحو الكمال.
تلك - أيها السادة - علالة المتعلل وحجة الضعيف المغلوب، وكيف تكون دواعي الشعر بالأمس هي نفسها دواعيه اليوم؟ نعم إن السماء ما زالت كهيئتها يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن البحار ما زالت زاخرة عجاجة على نحو من العظمة والجلال، يتشابه أوله مع آخره، وإن الرياض ما زالت تلبس في الحاضر، أثوابها في الماضي، ولكن هل ينبغي أن يكون شاعر اليوم كشاعر الأمس؟ كلا والله، فإن الناس من قبل كانوا ينظرون إلى السماء من بعد، فأصبحوا يتبينون خفاياها بالمراصد، وكانوا يعجبون بالبحر وهم وقوف على شاطئه، فأصبحوا اليوم يخوضون أحشاءه ويسبرون أغواره، وكانوا ينعمون بالرياض، وهي حسناء مهلهلة الثياب فأصبحوا يلهون بها عذراء غضة.
تأود تحت الحلى في الحلل الخضر
فهل يليق بشاعر بعد ذلك أن يقنع بما يمده به خاطره من المعاني القديمة والخواطر العهيدة؟ هذا - والله - ضعف وانحطاط.
فلا تكثروا ذكر الزمان الذي مضى
فذلك عصر قد تقضى وذا عصر
وما أشبه حالنا مع من تقدمنا من الشعراء، إلا بشاعر عاشق، رأى في النوم طيف حبيبه فأصبح وقد ملأ الدنيا غزلا ونسيبا، فلما أتيح له أن يراه رأي العين أفحم، وكذلك رأى أسلافنا ظواهر الطبيعة، فقالوا وأبدعوا، ووقفنا نحن على حقيقة الكون وأسرار الوجود، ولكن لم نشعر كأن لم نشعر.
وقد وجدت مكان القول ذا سعة
فإن وجدت لسانا قائلا فقل
إلا أنه إذا كانت تلك الظواهر الطبيعية هي الينبوع الأول الذي تتفجر منه الخيالات الشعرية والمعاني الأدبية؛ فإن الشاعرية تزداد بالنظر فيما ترك الشعراء والكتاب من بديع الشعر، وطريف النثر، فإن فيما ترك أولئك الكرام الكاتبون لجنات وأنهارا وشموسا وأقمارا، توحي إلى المرء من ساحر الخيال، وفاتن القول، ما تعجز عن مثله الأنهار الجارية، والرياض الحالية والسماء الصافية، وإذا عرفنا حاجتنا إلى النظر فيما ترك الشعراء والكتاب فلا بد أن نعرف أيضا أن ذلك لا يختص بأمة دون أمة أو إقليم دون إقليم.
وأن الذي يريد أن يتكمل في الشعر والأدب فلا بد أن ينظر فيما ترك الأدباء في مشارق الأرض ومغاربها، من الآثار الأدبية والطرائق العلمية؛ إذ كما لا يمكن للرجل الواحد أن يخترع علما ثم يكون أول الناس وآخرهم فيه؛ فكذلك لا يمكن لأمة واحدة أن تقوم بحاجة البشر في فن من الفنون - ولا سيما في الآداب التي هي خلاصة الأفكار ونتيجة الخواطر.
لذلك رأى رجال الجامعة المصرية - وهم من نعرف في بعد النظر وأصالة الرأي - أن تدرس آداب اللغة الإنجليزية والفرنسوية، بجانب آداب اللغة العربية، فكان ذلك فضلا إلى فضل، وأدبا إلى أدب. وإذا لاحظنا أن أدباء الإنجليز من أحرص الناس على العلم والأدب وأعلمهم بلغات الأمم وآدابهم، وأشدهم عناية بتقييد الأوابد، وضم الشوارد، وأكثرهم ضربا في الأرض، وسيرا في الأقطار، وأكثرهم تعرفا لأحوال الناس على اختلاف طبقاتهم وتباين أشكالهم، إذا لاحظنا كل ذلك؛ عرفنا أن آداب اللغة الإنجليزية إنما هي خلاصة آداب الأمم؛ إذ كانت نتيجة التجارب العديدة، والمشاهدات المختلفة، في أكثر بقاع الأرض، وأغلب أنحاء المعمورة.
وكذلك يكون العارف بآداب هذه اللغة عارفا بآداب أمم عدة لا أمة واحدة، وإذا لاحظنا أيضا أن آداب اللغة العربية إنما هي آداب أمم مختلفة جمعها الدين وألف بينها الإسلام، كما أن آداب اللغة الإنجليزية آداب أمم شتى؛ عرفنا أن العارف بآداب اللغتين العربية والإنجليزية من أغزر الناس مادة في الأدب وأرسخهم قدما في عالم الشعر، فهنيئا لإخواننا الذين تمكنوا من آداب لغتهم العربية، ثم تكلموا بآداب اللغة الإنجليزية، فشربوا من الكأسين، وتحلوا بالفضيلتين، والسلام.
2
ألقيت خطبة في فندق شبرد تكريما للمستر ورتهام أستاذ آداب اللغة الإنجليزية، في الجامعة المصرية، رددت فيها على القائلين بوقوف الحركة الشعرية، لوجود الدواعي متماثلة متشابهة في كل العصور، ووازنت بين دواعي الشعر بالأمس ودواعيه اليوم، وأنحيت باللائمة على الشعراء الجامدين، الذين لا يزالون يترسمون خطوات من سبق، وهم عن الجد معرضون.
غير أني نظرت إلى تلك الدواعي من الوجهة الطريفة، فجعلتها في الرياض الزاهرة، والبحار الزاخرة، وفي البدور الطوالع، والشموس السواطع، وأضفت إلى ذلك ما يكتسبه الفكر من النظر في الآداب الأجنبية التي قد تزيد أدبنا وضوحا وبيانا، إذا عرفنا أن الناس من نفس واحدة، وأنهم يسعون إلى غرض واحد، وهو فهم حقيقة الكون والثناء على الله.
واليوم أقول: إن تلك الدواعي السالفة إنما هي لقوم بلغوا من الحضارة والرقي، ما يسمح لهم بالتفكير في الجمال، والتفنن في وصف غرائبه: من الظباء النوافر، والحسان الأوانس، ورأوا من قومهم نفوسا عاشقة لطرائف الحسن، وقلوبا تائقة لبدائع الشعر، فقالوا في وصف الرياض والأزهار والبحار والأنهار، والقصور المشيدة، والصروح الممردة، وخاطبوا النفوس الناعمة، والقلوب الوادعة، وانتقلوا من عالم الحس إلى عالم الخيال، فوصفوا أحلامهم اللذيذة، وآمالهم الحلوة، إلى غير ذلك مما يجد في قلوب أهل السعة ونفوس أهل الرغد ميدانا يمرح فيه وروضا يأنس به، وكذلك نفوس الشعراء، في أيام الرخاء.
أما دواعي الشعر في هذا البلد، وفي هذه الأيام فهي غير أسبابه تلك؛ لما ترى من الفرق الظاهر بين عامتنا وخاصتنا، وقلما يتغنى الخاصة بالشعر، وإن لم تصغ العامة إليهم، ويفتحوا لهم آذانهم وقلوبهم.
وهل يطرب الناس للشعر وهو يصف ما لا يحسون به، ويتحدث عما لم يستطيعوا إليه السبيل؟
ولقد كان عجبا عند الشاعر حافظ إبراهيم أن يجيد العرب وصف الناقة،
الذلول «الأوتومبيل»، ولو لحظ أن الشاعر العربي ما أطنب في وصف الناقة إلا لأنها كل شيء عنده، ولأن أهله ورفاقه يعرفون من صفتها ما يعرف؛ لعلم أن السر في عجزنا عن وصف الأتومبيل، ليس هو ضيق اللغة - كما زعم - بل لأننا ننظر إلى هذه المخترعات في الأرض كأننا ننظر إلى الشمس في السماء.
ما لنا ووصف هذه البدائع الفتانة، والنفائس الخلابة، ونحن لا ننعنم بها، ولا شيء فيها من صنع أيدينا؟ إذن فلنترك وصفها وتقريظها لشعراء الغرب أولئك الذين يجدون من السرور بركوبها ما كان يجده العربي وقد علا ظهر البعير البازل، أو تسنم الناقة الهوجاء.
وقد كان أستاذنا الشيخ محمد المهدي يقول - وهو يتحدث عما أبدع الشعراء في وصف الشمعة: لا أدري ما كانت تكون حالهم لو شاهدوا غرائب هذه الأيام؟ إني لا أشك في أنهم كانوا يجيدون.
وليسمح لي أستاذي أن أقول له: إنهم لو عاشوا إلى عصرنا لعجزوا عجزنا؛ فإن الأمر كما قيل:
فلو أن قومي أنطقتني رماحهم
نطقت ولكن الرماح أجرت
وكما قال ابن الزيات:
لك أن تبدي لنا حسنا
ولنا أن نعمل الحدقا
فإن قومنا لم يفكروا في مجاراة الأمم المولعة بأعاجيب الصناعة حتى نجاريهم في أفانين البلاغة.
وإنا لجديرون بأن ننشط إلى الافتنان والابتداع، إن نشطوا إلى الابتكار والاختراع، وإلا فليلوموا أنفسهم - إن كانوا منصفين.
3
قل لي - بربك - ما أنت صانع لو زرت الأهرام، وكنت ممن رزقوا الشعر الفصيح، والخيال البديع، أتغرب في وصفها بالوسامة الشاملة، والقسامة الكاملة، وتتغنى بارتفاعها الباهر، واتساعها النادر، فتسلك سبيل الفاهمين من أهل مصر القديمة، والغافلين من أهل مصر الحديثة، أم أنت سالك غير تلك السبيل، وخائض في غير ذاك الحديث؟
ما زلت أسمع الشعراء من حولي يتغنون بالحضارة القديمة، ويشيدون بذكر الفراعنة، ويلهجون بمجد العرب، كأن مصر ما زالت سيدة العالم، وكأن رجالها ما زالوا خير الرجال، وكأن العرب ما زالوا سادة المشرقين وقادة المغربين، قاتلكم الله! تضحكون في موضع البكاء، وتفرحون في موقف الحزن، ولو كانت لكم ضمائر شاعرة وبصائر ناظرة، لبكيتم مع الباكين، ونحتم مع النائحين، فقد ذلت هذه الآثار بذلكم وضعفت بضعفكم، وأضحى هرم خوفو.
كأن الصبا توفي نذورا إذا انبرت
تراوحه أذيالها وتباكره
لقد كثر شعراء مصر، وتوفروا على معنى واحد، كما تكثر الأشجار في بقعة واحدة، فيأكل بعضها بعضا ثم لا تزهر ولا تثمر.
وقصارى أحدهم أن يفتخر بأنه مصري أو عربي، يريد أنه من بقايا الفراعنة، أو من سلالة الأفيال.
أهؤلاء الجبناء، الذين يخافون ظلهم، ويهابون طيفهم، من ذرية أولئك الذين أخضعوا الأرض وهموا بمحاولة السماء فحاربوا الناس تارة، ونازعوا الآلهة أخرى؟
أهؤلاء من سلالة ذلك الذي قال: يا هامان! ابن لي صرحا، لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى؟
تعالى الله في سمائه، وكفر فرعون وهامان، ولكن أليس من العجب أن ينتسب هؤلاء الأصاغر إلى أولئك الأكابر وهم أذل من قراد بمنسم، وأضيع من الأيتام على مائدة اللئام؟!
ولقد يذكرون أن المأمون قال لوزرائه يوم زار أهرام مصر: إنها مبان جليلة، ومنازل شامخة، ولكنها لا تستحق أن يحاول صاحبها السماء لينازع الإله، فقال له بعضهم: يا أمير المؤمنين إن الله يقول:
ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون .
فإذا كانت هذه بقايا ما دمر، فكيف كانت تلك العروش؟ فبهت المأمون وسكت.
يقولون: إن الولد سر أبيه، فما بال أبناء النيل في ذلة، وأحفاد العرب في ضعة؟
أيستطيع أحد من شعرائنا الآن أن يقول كما قال قيس بن الحطيم:
وكنت امرأ لا أسمع الدهر سبة
أسب بها إلا كشفت غطاءها
فإني في الحرب الضروس موكل
بإقدام نفس ما أريد بقاءها
متى يأت هذا الموت لا تلف حاجة
لنفسي إلا قد قضيت قضاءها
إذن فكيف يجرؤ هؤلاء أن ينتسبوا إلى العرب، أو ينتموا إلى الفراعنة، وهم ما يحسنون غير التهنئة بمولود، أو التعزية بمفقود، كأنهم ما خلقوا إلا ليبكوا مع الباكين أو يضحكوا مع الضاحكين؟
أين شعراء الوطنية؟! أين عشاق الحرية؟!
فهذا أوان الشعر سلت سهامه
معا بلها والمرهفات السلاجم
لقد مات منهم من مات، واغترب من اغترب، وبقي جماعة يقلون عند الفزع، ويكثرون عند الطمع.
رضوا بصفات ما عدموه جهلا
وحسن القول من حسن الفعال
4
يكتب صاحب العزة علي بك فهمي كامل مقالات شيقة تحت عنوان «لو كنا مستقلين» جاء في أولها قوله: «لو كنا مستقلين لعم العلم الديار، وراجت الصناعة في كل الأمصار، وحل اليسر محل البوار، وأصبح المصري في كل مكان، يشار إليه بأطراف البنان.»
وأنا أضيف إلى كلماته الجملة الآتية: لو كنا مستقلين لكثر شعراء الحماسة، وقل شعراء الخلاعة ، ولعادت للشعر مواقفه المشهودة، ومشاهده المعروفة، يوم كان بيت يبعث الحرب، وقصيدة ترجع السلام.
ويقول الكاتب مصطفى المنفلوطي في مقدمة مختاراته: «وأحسب أن ما يتعلق من الشعر بالحماسة ووصف الحروب وأسلحتها ودمائها وغبارها وأشلائها هو آخر ما يحتاج إليه المتأدب في هذا العصر.»
ومعنى ذلك أن عصر البطولة قد مات، وزمن الرجولة قد باد، ولم يبق إلا أن يلبس الشعراء أثواب الندماء، فيقضون الليل في خمر، والنهار في خمار.
ولست ألوم المنفلوطي على أن جعل مختاراته خلوا من الحماسة، ولا أعذل الشعراء على ما فرطوا في جنب البطولة؛ فإن ذلك نتيجة الاستعباد، وعاقبة الاسترقاق.
وكيف يتوفر على الشعر الحماسي شعب يرى أنه غير مكلف بالدفع عن بلاده، والذود عن حياضه، أم كيف يتمدح بالشجاعة من يوصف بالطيش إن أقدم، وبالحزم إن أحجم؟
ولقد كثرت أحاديث الناس عن فتوى الشيخ بخيت ضد البلشفية، وفاتهم أن هذا أثر من آثار التبتل الذي جنته علينا الذلة، ورمانا به الهوان.
والذي يتأمل ما كان من فتوى الشيخ يعلم أنه تأثر بالحكمة القائلة: إن العاقل لا يرضى لنفسه إلا أن يكون مع الملوك مكرما أو مع الزهاد متنسكا، وأنه رضي لنفسه حظ ديوجين الكلبي.
ولقد ساءه أن ينفرد الحلفاء بمحاربة البلشفية، وأن لا يكون لمصر حظ في دفع هذا البلاء، فرمى بفتواه في صدر هذه المذهب الجديد، ليعود وهو صريع.
والذي نعرفه من قوة فتاوى الأستاذ، ومن حججه الدامغة، أن تلك الفتوى كانت جديرة بمحو البلشفية، لو أنها صادفت قلوبا كقلوب المصريين الذين يبجلون الشيخ ويعظمونه، ولكنها نشرت بين قوم ينكرون مصر وعلماء مصر، ويعدونهم من سقط المتاع.
وإني لأخشى أن يصبح علماؤنا وما يعرفون غير السبحة والسواك.
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة
ومن إساءة أهل السوء إحسانا
كأن ربك لم يخلق لخشيته
سواهم من جميع الناس إنسانا
كما أخشى أن يصبح شعراؤنا وما يحسنون غير الهزل، ولا يجيدون سوى المجون.
5
في مصر اليوم جماعة من الشعراء، تغنوا كثيرا في الليالي الخوالي، يوم كان الناس يسمرون في المنازل، ويسهرون في البيوت، وكان الرجل يعرف بالشعر، ويوصف بالأدب، لبيت يقوله في تحية رب القصر، أو تكريم السامرين، وربما وصف بالعبقرية لطرفة ينسبها إلى دعبل، أو حديث ينقله عن أبي نواس.
ثم قضى الله أن يرسل إلى بعض القلوب رسول الوطنية، فانتقل الشعر من الخصوصيات إلى العموميات، إلا أن الشعراء كانوا - مع ذلك - مقيدين بقيود من الرياء، فكان حافظ إبراهيم لا يطرب للشعر، ولا يخف له، إلا بحضرة الأستاذ الشيخ محمد عبده.
وكان أحمد نسيم يمزج وطنياته بمدح محمد بك هلال، وكان شوقي يشوبها بمدح صاحب السمو أمير البلاد.
وكنت لا تسمع للشعراء شيئا غير ما يدعون إليه يوم الاحتفال بفتح مدرسة، أو تشييد معهد، «أو فتح بار كما فعل فلان!» إلى غير ذلك مما يساق إليه الشعراء سوقا، بدافع الشهرة، أو دافع المال.
وكانت الأحزاب قد كثرت في مصر، فكان لكل حزب شاعر ولكل شاعر أشياع، فتنافرت الآراء وتناكرت الأهواء؛ إذ كان الشعراء يستمدون وحيهم من سادتهم وكبرائهم، وكان سادتهم منشقين مختلفين، فكانوا يضلونهم سواء السبيل.
ثم شب جماعة آخرون لم يقدر لهم أن ينتموا إلى بعض الأحزاب، فرضوا بالخمول، واكتفوا من الشعر بأبيات يقولونها في الوصف، أو نتف يجيدونها في النسيب، وربما التفتوا إلى ما ينعم به إخوانهم من السعة في العيش، والبسطة في الجاه، فأخذوا في شكوى الدهر، وتأنيب الزمن ووصفوا الأدب بأنه رفيق الفقر، وحليف المسكنة. وكان بجانب هؤلاء جميعا جماعة من النقاد ينقدون اللفظ والمعنى، ويعرضون عن النحلة والمذهب، فكنت تقرأ ما يكتبه الشيخ طه حسين في نقد حافظ، فتراه جملة من المذاهب النحوية، والمباحث اللغوية، وربما رأيت طائفة من ألفاظ السباب في خلال تلك السطور، وضعها الكاتب حلية لبحثه، وزينة لنقده، وكان الويل - كل الويل - لمن يغفل عن ترضية أولئك الناقدين فيمسي وهو مقذوف.
وكذلك كان الشعراء يأخذون طرائق التفكير من الأحزاب ومسالك التعبير عن النقاد، ولم يكونوا في أنفسهم شيئا مذكورا.
ثم كان ما كان من الحوادث التي شتتت شمل الجميع، فخفت كثير من أصوات أهل النقد والسياسة وعاد الشعراء إلى السكون.
إلا أننا في حاجة إلى شعراء ينظرون بعيونهم، ويسمعون بآذانهم ويفقهون بقلوبهم، فهل نحن واجدون؟
6
قرأنا «دواعي الشعر» فإذا بصاحبها الأستاذ زكي مبارك قد نال من شعراء العصر شديدا، وطأطأ من كرامتهم ما شاء، حتى كاد يبتعث الحفائظ ويوغر القلوب، فقد جاء فيها عن الشعراء حيث يهتف بهم قوله: «قاتلكم الله! تضحكون في موضع البكاء، وتفرحون في موقف الحزن، ولو كانت لكم ضمائر شاعرة، وبصائر ناظرة لبكيتم مع الباكين، ونحتم مع النائحين، فقد ذلت هذه الآثار بذلكم، وضعفت بضعفكم.»
وجاء في موضع ثان منها قوله: «لقد كثر شعراء مصر، وتوفروا على معنى واحد، كما تكثر الأشجار في بقعة واحدة فيأكل بعضها بعضا، ثم لا تزهر ولا تثمر»، وقال في غير هذين الموضوعين: «أهؤلاء الجبناء»، وجاء في محل ثان قوله: «لقد مات منهم من مات، واغترب من اغترب، وبقي جماعة يقلون عند الفزع ويكثرون عند الطمع.»
لشد ما نال الأستاذ من الشعراء، وغلا في الازدراء بهم، على أن هذا ليس من النقد في شيء.
إنا لنطالب الأستاذ - جد المطالبة - ونأخذه أخذا شديدا بأن يخرج بالمعذرة من تلك البادرة، وذلك أكبر الظن بأدبه، والعهد به، والسلام.
حسن القاياتي
7
قرأت ما كتبه الأستاذ السيد حسن القاياتي عن «دواعي الشعر»، فحمدت له غيرته على إخوانه الشعراء، ورفقائه الأدباء، وسرني أن كان أول الذائدين عن حياضهم، والرافعين للوائهم، فكان كما قال الشاعر:
لو كان في الألف منا واحد فدعوا
من فارس؟ خالهم إياه يعنونا
ثم عجبت وحق لي أن أعجب، من رغبته في أن أعتذر وهل أذنبت يا صاح؟
ألزمتني الذنب الذي جئته
صدقت! فاصفح أيها المذنب
لا تنس يا صديقي أن كرامة الوطن، فوق كرامة الأدب، وأن الشعر وسيلة لا غاية، وأننا جميعا نسعى إلى غرض واحد، هو تحرير البلاد.
فمن كان أكثر الناس إشادة بذكر الحرية وتغنيا بالاستقلال فهو شاعرنا المفلق، وكاتبنا المبدع، وإن كان شعره منحل العقد، ونثره مختل البناء.
أنت شاعر، ولكن في أي عصر؟ في العصر الذي قلت فيه:
كأن وساما يعتلي صدر جاهل
جني من الريحان يحمله قبر
وحافظ شاعر، ولكن في أي زمن؟ في الزمن الذي قال فيه:
لقد كان فينا الظلم فوضى فهذبت
حواشيه حتى بات ظلما منظما
كنتم شعراء يوم كانت قصائدكم تهيم في كل واد ومعانيكم تدب في كل قلب، ويوم كان الطلاب في مدارسهم والعمال في مصانعهم يشيدون بذكركم النابه، ويتغنون بشعركم الجميل.
فأما اليوم وقد جنحتم إلى السكون وركنتم إلى الهدوء، وهجعت منكم تلك البراكين الثائرة، وتواردت تلك الشموس الباهرة، وأخليتم الميدان لكل مجر بالخلاء ومستأسد بالعراء، ثم طويتم اللواء وفررتم من الهيجاء؛ فإنا ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا، وكما تركتم الأدعياء يصدعون الرءوس ويزهقون النفوس، يغتصبون الشهرة اغتصابا ويستلبون المجد استلابا، كأن ليست للنقد عين ساهرة وكأنكم لا تسمعون.
نامت نواطير مصر عن ثعالبها
فقد بشمن وما تفنى العناقيد
يجب أن تعتذر أنت يا صديقي وأن يستغفر إخوانك؛ فقد فرطتم في جنب الوطن ونسيتم حق البلاد.
أين الشعراء؟ أين الأدباء؟ إني والله ...
أودهم ودا إذا خامر الحشا
أضاء على الأضلاع والليل دامس
ولكن ما العمل؟ والدهر عابس والوقت عصيب، ويكاد المرء ينسى أباه إن خذله ويهجر أخاه إن خلاه، فهل بقي في قوس الصبر منزع، أو عادت للرجاء بقية، وهذا البلاء يتطاير من كل جانب والأمل ينهار في كل واد؟!
يا صديقي إن شموخ الأهرام وجلال النيل وجمال مصر، وما إلى ذلك من المعاني التي أوحت إليك وإلى إخوانك الشعر؛ تتطلع إليكم بعين كلها أمل وقلب ملؤه الرجاء، فهل فيكم اليوم من مستعد أو هل لديكم من معين؟
وا حر قلباه!
8
عاتبنا الأستاذ زكي مبارك على نبوة كانت منه إلى الشعراء، وهنات اعتمدهم بها في مقاله «دواعي الشعر»، وأخذناه بأن ينزل على حكم الحق من بذل المعذرة، وإعطاء النصف من نفسه، فأعتبنا في الأفكار بكلمة جافية حديدة كأنها الكأس الأولى، لولا ما يلطفها به من مزاج التودد والازدلاف إلى ناحية من المرضاة، فسامحنا فيما أوحش منها لما آنس، واغتفرنا ما أحفظ لما أرضى، فكانت كأسا شربناها على قذاتها، وعتبى صديق تقبلناها على علاتها، فلم نكد نقول: آها منه، حتى قلنا: واها له!
ومن لك يوما بأخيك كله؟
لاذ الأستاذ منا بالوطن، فذكر بحقوقه، وأرى من نفسه - بحق - أن غضبته للوطن كانت، ومحاماته ونضحه إنما كانا حمية له، وأنه زرى على الشعراء لتفريطهم في جانبه، ونومهم عنه فيما يقول: مهلا قليلا أيها المذكر بالوطن وحقه، فما ذكرت ناسيا، ولا نبهت غافلا، إن بنا من الوجد على ذلك الوطن والحدب عليه، مثل ما بك غلة تحرق، وجوى يؤرق.
وتلك طريق لست فيها بأوحد.
ذلك حق كله، ولكنك تعلم أننا قد غشيتنا غاشية، ودهمتنا حال تركت إفصاحنا في التوجع، وبياننا في التفجع، كبيان الطير تهفو إلى وطن وحنين الإبل تغدو إلى عطن.
شجو حزين، ومنطق لا يبين.
بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له
ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب
شاهدي على ذلك مقالك أنت، ألست القائل آنفا؟ «ولكن ما العمل والدهر عابس، والوقت عصيب.»
على أن أحدنا لا يزال يرفع صوته في الفينة بعد الفينة، بالكلمة كأنها دمعة يتيم، وعبرة مجهور، ينطق بها لحنا، ويرسلها في حذار ورقبة، ثم يجس على أثرها رأسه، هل طار عن جسده؟
أترى نعيش إلى انطلاق الألسن؟
ما بالك أيها الأستاذ تشركنا في العمل وتفردنا بالتعجب، كما يقولون.
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها.
إن لك بيانا ولسانا، فأين الذي لهما من أثر في هذه الآونة؟ إن قلت قلنا، وإن سكت سكتنا، وليس بنا أن نجحد فضلك.
لقد هجت عجبا وأحدثت طربا حيث تقول: «فمن كان أكثر الناس إشادة بذكر الحرية، وتغنيا بالاستقلال، فهو شاعرنا المفلق، وكاتبنا المبدع، وإن كان شعره منحل العقد ونثره مختل البناء.»
إن للغربان والضفادع أوطانا، وفي الحق أن يذود كل ذي وطن عن وطنه، بيد أنه ليس بحسن ولا جميل نعيب الغربان ونقيق الضفادع! أكل صائحة تطربك أيها الأستاذ؟ رويدا لا يسمعك الأدعياء والمتشاعرون، فتملأها علينا نعيبا ونقيقا، لا والله لا يحسن الذياد عن الوطن ولا النضح عنه حتى يكون قولا عليه مسحة السحر، وله أخذ كأخذ النفث في العقد ينزل على حكمه العصي ويصحب الجموح، أين أنت من البلابل المغردة والطيور الساجعة، أمثال كتاب الأفكار ولا أمثال لهم؟!
عد عن ذا - كما يقول الشعراء - وتعال إلى حديث بشاشة وإحسان، بعد حديث عتب وإعتاب، لقد علمت أن جريدة الأفكار أندى الجرائد صوتا بالحق، وأرحبها صدرا للحرية، فبعثت إليها بكلمة طريفة في سبيل الوطن، وأكبر ظني أن رئيس تحريرها النبيل متفضل بنشرها، فإن نشرت فلن تفتري - إن كنت من الممترين - في أن الشعراء يفون لوطنهم بعض الوفاء وأن لهم قلوبا ترعى كرامة الوطن، وكرامة الأدب، ولعلك تقول مكان «وا حر قلباه!»: «وا طرباه!» والسلام.
حسن القاياتي
9
لقد سبقت كلمتنا في إعتاب السيد حسن القاياتي، وكنا حسبناه أكبر ما شرحناه، إجلالا للوطنية، وأحمد ما كتبناه، إعظاما للحرية فإذا به يدأب في العتب، ويصر على المحاسبة، كأن ليس لنا عنده من عذر، وكأن الشعراء ليسوا بخاطئين.
أراد السيد حسن أن يعتذر عن إخوانه الشعراء، وأن يغسل عنهم عار الكسل والخمول، فذكر من عنت الدهر، وريب الزمن، ما ظنه شافعا في سكوتهم، مبررا لجمودهم، كأن في ضم الفكرة إلى مثلها، ووضع البيت بجانب البيت، شيئا من التجمهر يأباه القانون، ونوعا من المظاهرة تحاربه السلطة، وكأن القصيدة ذات القوافي الكثيرة، والفكر العديدة شبيهة بالعصبة تجتمع في طريق واحد، لغرض واحد، وكأن الشاعر الشاكي الخيال شبيه بالثائر الشاكي السلاح.
قد يكون الشعر الباهر، كالسيف القاهر، وقد تكون القصائد البارعة كالقنابل الرادعة، وقد يتهيب جانب الشاعر، فوق ما يتهيب جانب الفارس، فيكون من كل هذا عذر لإخواننا الشعراء ورفقائنا الأدباء، ويكون سكوتهم من الجبن أبعد، وإلى الحزم أقرب.
ولكن ألا يجب يا صديقي السيد حسن أن يكون لعصرنا من طريف الاستعارات، وحديث المجازات، ما يرفع ذكرنا في الأواخر، ويلحقنا بالأوائل ممن لبسوا لكل حالة لبوسها فصرحوا تارة، ولمحوا أخرى ، ونالوا بالمثل الخرافي، ما لم ينالوا بالشعر الحماسي، أفكانوا بقومهم ناهضين، لأعدائهم قاتلين؟
فهبني اعتذرت عما نسبت إليهم من الجبن، ورجعت عما وصفتهم به من الخوف، أتراني لا أنعتهم بضيق الحيلة، وضعف الوسيلة، وأنهم لا يعرفون من القول إلا أظهره، ومن الشعر إلا أشهره، وأن مقاتلهم بادية، ومطاعنهم ظاهرة، حتى لا سلامة لحياتهم، إلا بسكوتهم، ولا داعي لحتفهم، غير نطقهم.
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت
فدل عليها صوتها حية النهر
لعلك يا صديقي تذكر ما فعل الأعرابي الأسير، ولعلك تذكر ما أرسل الرجل مع عبديه، إلى طفلتيه، وما قال القبعثري للحجاج، وما أجاب به عبد المسيح خالد بن الوليد، ثم لعلك ولعلك ...
أتريد يا صديقي أن لا تكون لنا شخصية معروفة، وأن لا يعثر القارئ في الآداب العربية على طرفة أبدعناها، أو بدعة أحدثناها، كأن القول لا يخرج من التصريح، إلى التلميح، وكأن الزمن لم يلجئنا إلى الإشارة بعد العبارة، أو كأننا لا نعرف مقامات الكلام، ومقتضيات الخصام.
لك يا صديقي أن تعتذر عن إخوانك، وعلي أن أشكر لك هذه الغيرة، ولكن حذار أن تظن أنا عملنا كل ما يمكن، وفعلنا كل ما يستطاع.
ولقد عجبت من قولك: «إن لك بيانا ولسانا، فإن قلت قلنا، وإن سكت سكتنا»، كأنك تحسبني ألومكم ولا ألوم نفسي.
ألا فلتعلم وليعلم إخوانك، أن التبعة واقعة علي وعليكم، وأننا جميعا في جنب الوطن مفرطون، ولمجد النيل ناسون.
ما أنصفتك جفوني وهي دامية
ولا وفى لك قلبي وهو يحترق
10
جن الظلام فما يزاح
يا ويلنا! أين الصباح
ليل كأن نجومه
يطلعن في كبدي جراح
يا من أتاح لي الأسى
برد الفؤاد متى يتاح؟
قلب أساه لاعج
لولا تحجبه لفاح
ما بال دمي يستبا
ح وحاجتي ليست تباح؟
ويلي على غيد المنى
يحرجن في صدر براح
لهفي على الحق الصرا
ح يغوله ظلم صراح
حق أضيع مشهرا
أبصرت صبحا حين لاح
كم موعد مثل الطلا
ء يزين وجنات القباح
لا تخدعن فما حدي
ث القاسطين سوى مزاح
شيم البغايا منطق
حلو إلى وجه وقاح
عهد السياسة كاذب
لله درك يا سجاح
يا رحمة للشرق ما
يلقى من الداء المتاح
زأر ابن غيل فانثنى
رقصا لنغمته وصاح
لذوي العدالة شرعة
تقضي بعسف واجتياح
الحق في حد السيو
ف وعند أطراف الرماح
كتمت شريعة «مدفع»
خان «الرصاص» بها فباح
اهتف بحقك عاديا
وعلى عزيمتك النجاح
دون الحقوق ونيلها
أن يلتقي كبشا نطاح
وهنا لسائل حقه
الحق شيء يستباح
قد كان ركن مرة
للعدل مرفوعا فطاح
لي عند أهلي دعوة
إن المحب له اقتراح
يا أهل دعوة مشفق
لم يأل عن طلب الصلاح
للمجد عند سراتكم
طول اجتناب واطراح
حسب السري مقامه
ما بين غانية وراح
الثغر يبسم عن ندى
للثغر يبسم عن أقاح
غيد ملاح هجننا
ما لي وللغيد الملاح؟
كم سوأة حين اغتدى
نيطت به أو حين راح
مال مباح كله
يشقى به عرض مباح
أين الملاجئ تبتنى
غرا كمعليها فساح؟
من لليتيم كأنه
من ضعفه غصن يراح
أودى أبوه وأمه
فبكاهما دهرا وناح
شلو تناهبه الضنى
فكأنه نهب يباح
إن ذل تحت همومه
فبما يرى وله جماح
لم يجترح إثما فع
د وجوده منه اجتراح
يا ليت كل معذب
يودى إذا كان استراح
تقذى بمرآه العيو
ن فما تراه سوى التماح
كم مترف غصت به
عيناه أعرض أو أشاح
لا شيء من حاجاته
يقضى سوى الماء القراح
يعيى برد جوابه
فتجيب أدمعه الفصاح
متساقط من هزله
طير يهاض له جناح
دار البلاد، دواوه
لو يبذلون، هو السماح
يا شرق جدا إنه
جد سيفضي للنجاح
إن ضاع حق فالجدى
باق وعزمك والمراح
من يستميلك عن ندى
من يزدهيك إلى افتضاح؟
بيض النضار ضوامن
للنجح عن بيض الصفاح
ذما لمال ذاهب
في القمر تذروه الرياح
النبل عند سراتنا
كأس وغانية رداح
كافح بجد مغامر
إن الحياة هي الكفاح
تلك الطيور سجينة
ستروح مطلقة السراح
حسن القاياتي
11
قد علم القراء ما كان لمقالاتنا «دواعي الشعر» من الأثر في أنفس الشعراء ، وقد قرءوا ما كتبه عنها بعض أدباء بورسعيد، وما خطه أدباء القاهرة، فضلا عما لم تنشره «الأفكار» من الكلمات المتطرفة، والأقوال المتعمدة، من شعر أو نثر، ثم ما دار بيني وبين السيد حسن القاياتي من الأخذ والرد، وما كان من إرساله بتلك القصيدة الرشيقة التي يخيل إلي أنها قدت من قد «إحسان»:
تكر فلا تزداد إلا ملاحة
إذا رازت الشعر الشفاه العوامل
علم القراء كل ذلك، وعلموا أننا أسرفنا في نقد الشعراء، وتأنيب الأدباء، فكان حقا علينا أن نشيد بذكر من استجابوا إلى ما دعونا إليه، ونرفع من شأن من نهضوا إلى ما حضضنا عليه؛ حبا في الأدب أن يكثر الراغبون في تشييد دعائمه، ورحمة للوطن أن يغفل الذائدون عن ذماره، والحامون لحقيقته. •••
فمن ذلك ما أرسله إلينا الأستاذ البارع سيد أفندي محمد مدير الكلية الأهلية وهي رواية شعرية، سماها الوطنية، كلها غرر ودرر، وطرائف ولطائف، نود لو عني بمثلها الشعراء، وكلف بأشباهها الأدباء، فرحموا الشبيبة من الأغاني الهزلية، وعودوهم على الأغاني الجدية، واستغنوا عن الروايات الفرنسوية بالروايات المصرية؛ فإن ذلك للأمة أنفع وأمتع، وبها أولى وأجدر.
فما جاء في تلك الرواية على لسان مصر الأبيات الآتية:
أنا الوطن الأثيل المجد مصر
أنا البلد المحبب في البلاد
تناسى الدهر منزلتي وأنحى
علي ونال شعبي باضطهاد
فعونك رب في الجلى فإني
بعونك قوتي وبك اعتضادي
لقد أملت آمالا جساما
وفي الآمال ترويح الفؤاد
فأوزعني النهوض إلى مكاني
وخذ بيدي وألهمني سدادي •••
ألست كنانة لك إن يسئني
مسيء فالبلاء لمن يعادي
فها أنا ذا منيت بمن أراهم
تمادوا في الإساءة والعناد
فعشت بهم على مضض زمانا
كأني بين أشواك القتاد
وذقت مرارة الأحزان حتى
لبست بعهدهم ثوب الحداد
جزوني شرهم وهم ضيوف
فكيف بهم إذا ملكوا قيادي
وأترك للقارئ الحكم على هذا الشعر، وأجزم له أن فيما تركت خيرا مما ذكرت، ولعل صاحب هذه الرواية يتفضل بنشرها بين أفراد الأمة الكريمة، ويعمل على أن تمثل في القرى والحواضر ، فإن ذلك من عزم الأمور.
وكذلك أرسل إلي صاحب الفضيلة السيد «أ. س» قصيدة ممتعة، يستنهض بها الهمم الفاترة، ويستحث العزائم الخائرة، نذكر للقراء بعض شذراتها النقية إعظاما لما للسيد صاحبها من غيرة على الوطن، وإجلالا لما له من وفاء للبلاد.
فمنها قوله في وصف أهل الشرق:
سبقتهم أمم تجد إلى العلا
في الغرب لم يلحق بها إعياء
وهم إذا قرع العصا ذو مطمع
ضربت عليهم ذلة وشقاء
أو كلما مستهم يد غاصب
سقطوا كذلك يفعل الجبناء
فكأنهم لم يسر في أعراقهم
من سابقيهم غيرة وإباء
يترقبون سفاهة إسعادهم
وهم ببذل نفوسهم بخلاء
ثم قال في وصف الغافلين من أهل مصر:
وبمصر قوم، يا لمصر وأرضها
منهم! وهم - زعموا - لها أبناء!
لبسوا لها ثوب الصديق وربما
قد كان خيرا منهم الأعداء
عبثت أكف الطامعين بها فلم
تعبأ وترفع رأسها الرؤساء
أنهتهم عن بر مصر عقولهم؟
فليهن مصر أولئك العقلاء!
ما أن تفيد علومهم شيئا وهم
بطريق حفظ كيانهم جهلاء
فالعلم حقا علم ما تبنى به
بين الأنام سيادة وعلاء
أولاة مصر وأنتم أبناؤها
لم يبق فيكم للبلاد رجاء
أغريتم الخطب الجسيم ونمتم
فلنوم عافية لكم وهناء
أرأيتم أمما تباع وتشترى
ها أنتم بيع بكم وشراء
أيسركم أن يصبحن بنوكم
وهم عبيد في الورى وإماء؟
ولقد أعجبنا بقوله في أول القصيدة:
أفمسلمون وأمة شلاء
لا ميتون ولا هم أحياء
قد أثقلوا الإسلام عن وثباته
وهم عليه معرة وبلاء
في كل دهر سقطة عرفت لهم
وبكل قطر منهم غوغاء
وإني لأتمنى أن يكثر الشعر في تذكير المسلمين بعهدهم الغابر، ومجدهم الداثر، عسى الله أن يجعل من هذه الشعوب قوة تنصر العلم والمدنية، وتحرس السلم والحرية؛ فقد كانوا في القديم سادة المشرقين وقادة المغربين، وكانوا غرة في جبين الدهر، ودرة في تاج الزمن. وإني لأرجو - إن عاد للإسلام مجده وفخاره، ورد إليه عزمه وشبابه - أن نعيد للسلم سيرته الأولى، ونلبسه ثوبه الذي لا يبلى، وعقده الذي لا ينحل.
وأول هذا الأمر نحن أساته
وآخره حتى يعود كما بدا
12
وفي الأحباب مختص بوجد
وآخر يدعي معه اشتراكا
إذا اشتبكت دموع في خدود
تبين من بكى ممن تباكى
كل الناس يدعون الحب، وقل منهم من يعرفه، وإنما مثلهم كمثل ذلك الذي نزل ضيفا عند «جميل» فجعل يأكل ويبث وجدا به حتى أتى على الزاد كله، فقال جميل وهو يتهكم بصبابته ويهزأ من غرامه:
وأعجبني من جعفر أن جعفرا
يلح على قرصي ويبكي على جمل
فلو كنت عذري العلاقة لم تكن
بطينا وأنساك الهوى كثرة الأكل
فمن ذا الذي عرف الصبابة، أو قدر الهوى حق قدره؟
أليس كل ما لدينا من ذلك تلك الطرف القليلة، التي نتناقلها جيلا بعد جيل عن أولئك الشهداء الذين قضوا نحبهم في الحب، ثم مات الهوى من بعدهم كأن لم يكن شيئا مذكورا؟
أما - والله - إني لأعيذك أيها القارئ أن تحسب تلك الأسفار العديدة التي ملئت بالنسيب، ثروة للأدب والشعر؛ فإنما هي صدى أولئك الشعراء الذين وفوا لربهم، فأنعموا النظر في تعرف الجمال، وتفهم الصبابة، ويا بعد ما بين المحكي والحاكي.
كان الحارث بن خالد المخزومي من أحسن الناس تشبيبا، ويزعمون - مع ذلك - أنه كان يقول النسيب تظرفا ولا يعتقده، وكان أكثر شعره في عائشة بنت طلحة، فلما قتل عنها مصعب بن الزبير، قيل له: لو خطبتها، فقال: إني لأكره أن يتوهم الناس أني كنت معتقدا لما أقوله فيها.
فيا عجبا، أحسب ذلك الرجل أن من الشرف أن يقول بلسانه ما ليس في قلبه، وأن من الضعة أن يكون قلبه مرشدا للسانه؟!
لقد اعتاد الشعراء - من عهد بعيد - أن يبدءوا قصائد المديح بالنسيب، فكثر لذلك المتعشقون، وتعدد المتظرفون.
إذا كان مدح، فالنسيب المقدم
أكل فتى قد قال شعرا متيم!
ولا أنكر أن يكون لكل شاعر صبوة، ولكني أعرف - مع ذلك - أن ليس الهوى في كل حين بلذاع، فخير للشاعر أن يكون وفق قلبه، ينسب إن اشتاق للنسيب، ويفتتح قصائده بما قيلت له، إن خبت نار وجده، أو دب السلو في هواه .
قالت سكينة بنت الحسين لعروة بن أذينة - وكان من الزاهدين: أأنت الذي تزعم أنك غير عاشق، وأنت تقول:
قالت، وأبثثتها وجدي فبحت به
قد كنت عندي تحب الستر فاستتر
ألست تبصر من حولي؟ فقلت لها
غطى هواك وما ألقى على بصري
والله ما خرج هذا من قلب سليم قط!
ولو أن سكينة سمعت قوله:
إذا وجدت أوار الحب في كبدي
ذهبت نحو سقاء الماء أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره
فمن لنار على الأحشاء تتقد
لرحمته في وجده، ورثت له في هواه.
وهنا ألفت نظر القارئ إلى خطأ كتاب التراجم، فيما يزعمون من عشق الفرزدق وخلو جرير، في حين أن جريرا كان حلو النسيب، وكان الفرزدق فاتر التشبيب، فيا قوم:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
جعل اللسان على الفؤاد دليلا
فكيف تزعمون أن جريرا لم يعشق وهو القائل:
ما للمنازل لا تجيب حزينا
أصممن أم قدم البلى فبلينا
لا، بل بلين فهجن داء ساكنا
لمتيم وأثرن منه دفينا
راحوا العشية روحة مذكورة
إن متن متنا. أو حيين، حيينا
إن الذين غدوا بلبك غادروا
وشلا بعينك ما يزال معينا
غيضن من عبراتهن وقلن لي
ماذا لقيت من الهوى ولقينا
وكان يقول: والله لولا ما شغلت به من هذه الكلاب لشببت تشبيبا تحن منه العجوز إلى شبابها والجمال إلى أعطانها!
أم كيف تزعمون أن أبا العتاهية كان يقول النسيب تظرفا لا عن عشق وهو القائل في بعض قصائده:
يا من تفرد بالجمال فما ترى
عيني على أحد سواه جمالا
أكثرت في قولي عليك من الرقى
وضربت في شعري لك الأمثالا
فأبيت إلا جفوة وقطيعة
وأبيت إلا نشوة ودلالا
بالله قولي إن سألتك واصدقي
أوجدت قتلي في الكتاب حلالا
أم لا ففيم جفوتني وظلمتني
وجعلتني للعالمين نكالا؟
كم لائم لو كنت أسمع عذله
قد لامني ونهى وعد وقالا
ولعلكم فتنتم بما يذكر من براءته من الحب وإبائه النسيب لما أمره بذلك الرشيد، ولعمري لقد كان من أصدق الناس حبا، وأمتنهم صبابة، ثم عاد أنصفهم لنفسه وللأدب، فإن الرجل كان كبر، حينما أشار عليه الرشيد بالنسيب، والكبر يودي بالحب، ويذهب بالصبابة.
وكان المهدي قد ضربه مائة سوط لقوله:
ألا إن ظبيا للخليفة صادني
وما لي على ظبي الخليفة من عدوى
وقال: أبي يتمرس، ولحرمي يتعرض، وبنسائي يعبث؟ ونفاه إلى الكوفة.
ثم تلطف أبو العتاهة حتى اتصل بالرشيد في خلافة أبيه، وتمكن من قلبه، وبلغ المهدي خبره فأحضره وأنبه على ما قال من النسيب بعد نهيه عنه، فيا لله من ظلم العواطف.
ثم قال له: إن شئت أدبناك بضرب وجيع، لإقدامك على ما نهيت عنه وأعطيناك ثلاثين ألف درهم، جائزة على مدحك لنا، وإن شئت عفونا عنك فقط.
فقال: بل يضيف أمير المؤمنين إلى كريم عفوه جميل معروفه، ومكرمتان أكثر من واحدة، وأمير المؤمنين أولى من شفع نعمه، وأتم كرمه، فأمر له بثلاثين ألف درهم وعفا عنه.
ولما قدم الرشيد الرقة، أظهر أبو العتاهية الزهد والتصوف، وترك الغزل، فأمره الرشيد أن يتغزل، فأبى، فأمر بحبسه، ثم نمى إليه بعد أيام أنه سمعه يتغنى بقوله:
خليلي ما لي لا تزال مضرتي
تكون على الأقدار حتما من الحتم
كفاك بحق الله ما قد ظلمتني
فهذا مقام المستجير من الظلم
ألا في سبيل الله جسمي وقوتي
ألا مسعد حتى أنوح على جسمي
فأمر بإحضاره وقال: بالأمس ينهاك أمير المؤمنين المهدي عن الغزل فتأبى إلا لجاجا ومحكا، واليوم آمرك به فتأبى جرءة وإقداما.
فقال: يا أمير المؤمنين إن الحسنات يذهبن السيئات.
كنت أقول الغزل ولي شباب وجدة، وبي حراك وقوة، وأنا اليوم شيخ ضعيف لا يحسن بمثلي التصابي.
مرحى، مرحى يا أبا العتاهية، إنك - والله - لحازم ندب، عصيت الخليفة وأطعت الأدب، والأدب خير من الامتثال.
خرجت على الرشيد، فلم تقل بلسانك ما ليس في قلبك، ولم يستطع الشعراء أن يخرجوا على تلك العادة القديمة، من استهلاك المديح بالنسيب، فكان ما نراه من القول الذي لا لب له، والشعر الذي لا روح فيه، ولو أنهم أطاعوا ضمائرهم عند حرارة الصبابة ، فقالوا في ذلك ما شاءت لهم المشاعر والأهواء، ثم سكتوا عند خمودها؛ لكانوا في الأولى صادقين، وفي الثانية منصفين.
في عالم السياسة
إلى الدكتور ولسن
إن الهدايا التي راعتك قد ضمنت
ذهاب عقلك لما غرك الذهب
سيقت إليك فلم يحرج بها شرف
يذود عنك ولا دين ولا حسب
عهدي بقومك لا يرضون عن رجل
أجل ما يبتغيه المال والنشب
فالق العقاب على ما نلت من تحف
تشكو الجمارك بلواها وتنتحب
إلى حضرة المحترم الدكتور ولسن
لعمري لئن أمسيت بالسقم ساهرا
تخال الفراش الغض من وهج الجمر
فقد أسهرت يمناك بالأمس أمة
رأت غبنها فيما قضيت من الأمر
فمت غير محمود وإن شئت فلتعش
حليف الضنى بين المهانة والثبر
الحديث ذو شجون
جاءني كتاب خاص بتوقيع «علي الشايب» يذكر كاتبه أنه يخاطبني لأول مرة، ويرجوني أن لا أرد على الآنسة منيرة، ويود لو قصرت جهودي على بسط «مدامع العشاق» التي تنشر منها جريدة «الصباح» رسائل وجيزة لا تشفي الغليل، وقد بلغ من أدب الكاتب أن ترك لي الحرية في العمل بنصيحة أسداها إلي طوعا؛ لصداقة روحية قديمة العهد بالوجود. وبالأمس لقيني صديقي «عبد المجيد عيسى البيه» وأخبرني أنه طرب للمعركة التي قامت بيني وبين الآنسة منيرة على قدم وساق.
ومما يجمل ذكره أن الأديب علي الشايب يريد أن أعنى بمدامع العشاق في حين أن الصديق عبد المجيد البيه يريد أن أعنى بالرد على الآنسة منيرة لأصرف عن مدامع العشاق، وكان يود صديقي عبد المجيد أن يكون لهذه الأبحاث الطريفة بديل، هو البحث في الزهد والقناعة والعفاف - هدانا الله وإياه إلى سواء السبيل.
وأعود إلى خطاب الأديب علي الشايب، فأشكر له غيرته على صديق لم تؤلف بينه وبينه غير الأواصر الأدبية، وتلك - والله - سجية كريمة هي الغرة في جبين الغرائز والطباع، غير أني مع الشكر لغضبته الشريفة أؤكد له أني تلقيت خطاب الآنسة منيرة بأحسن قبول، وكدت أذوب خجلا وحياء لعتابها الرقيق. وأنا الذي ما زلت أعض بنان الندم على كلمة قاسية وجهتها إلى الآنسة مي الكاتبة المجيدة، وأنا أنقد خطبة أمين الريحاني في جريدة الأفكار، وكم فرحت حين انتصر لها كاتب في جريدة النظام قائلا: إن أدبي في خطاب الآنسة مي لا يتناسب مع الليسانس في الآداب.
لا خيل عندك تهديها ولا مال
فليحسن النطق إن لم يحسن الحال
حقا إنها لجرأة غريبة أن يخاطب المرء سيدة أو فتاة، فيحاول الغض من مقامها الذي أعزه الله بالرفق والوداعة والجمال، فما أقساني يا صديقي وما أقساك! تريد أن لا أرد على الآنسة منيرة؛ لأنها تتطاول ظلما على طلبة الحقوق، وأريد أن تطمئن، وأن تقرأ قول حافظ بك إبراهيم:
وكيف يضيع للطلاب حق
وهم في مصر طلاب الحقوق
وقديما قال معاوية: إنهن يغلبن الكرام، ويغلبهن اللئام، وأنا لست بلئيم حتى أغلب الآنسة منيرة، فاللهم اشهد أنني مغلوب.
الأمان! الأمان! سلمت سيفي
وطويت اللواء تسليم راغم
بيد أني ألاحظ - بكل أدب وإجلال - أن الآنسة منيرة تعجلت بالحكم على كتابة ابن المقفع «إذ تعتقد أن كتابته ثقيلة معقدة»، مع أن أسلوبه بريء من الثقل والتعقيد، وإنني أتمنى لو عني طلاب الأدب جميعا بقراءة كتب ابن المقفع؛ إذ كان تعبيره أدق تعبير بعد القرآن المجيد، وإني لأشبهه بالصيدلي البارع الذي يحكم الجمع بين أجزاء الدواء بحيث لو حذف جزء لأصبح الدواء ضارا أو غير مفيد، وقد يتعذر أن تجد في كتب ابن المقفع جملة تنقصها كلمة، أو يمكن الاستغناء فيها عن كلمة، وحبذا لو رجعت إليه الآنسة منيرة مرة ثانية لتعرف صدق ما أقول.
وإني لناقل هنا نماذج من أسلوبه الدقيق متعة للقارئين، قال ابن المقفع يصف المغرمين بالنساء: «ومن العجب أن الرجل الذي لا بأس بلبه ورأيه يرى المرأة من بعيد متلففة في ثيابها، فيصور لها في قلبه الحسن والجمال، حتى تعلق بها نفسه من غير رؤية ولا خبر مخبر، ثم لعله يهجم منها على أقبح القبح وأدم الدمامة، فلا يعظه ذلك ولا يقطعه عن أمثالها، ولا يزال مشغوفا بما لم يذق، حتى لو لم يبق في الأرض غير امرأة واحدة لظن أن لها شأنا غير شأن ما ذاق، وهذا هو الحمق والشقاء والسفه.»
وقال في اختيار الصديق: «اجعل غاية تشبثك في مؤاخاة من تؤاخي ومواصلة من تواصل؛ توطين نفسك على أنه لا سبيل لك إلى قطيعة أخيك وإن ظهر لك منه ما تكره؛ فإنه ليس كالمملوك الذي تعتقه متى شئت، أو كالمرأة التي تطلقها إذا شئت، ولكنه عرضك ومروءتك، فإنما مروءة الرجل إخوانه وأخدانه. فإن عثر الناس على أنك قطعت رجلا من إخوانك وإن كنت معذورا، نزل ذلك عند أكثرهم بمنزلة الخيانة للإخاء والملال فيه، وإن أنت - مع ذلك - تصبرت على مقارته على غير الرضى عاد ذلك إلى العيب والنقيصة، فالاتئاد الاتئاد والتثبت التثبت.»
وقال عن فضيحة الأدعياء: «لا تكثر من ادعاء العلم في كل ما يعرض بينك وبين أصحابك؛ فإنك من ذلك بين فضيحتين، إما أن ينازعوك فيما ادعيت فيهجم منك على الجهل والصلف، وإما ألا ينازعوك ويخلوا في يديك ما ادعيت من الأمور فينكشف منك التصنع والمعجزة!
وإن أردت أن تلبس ثوب الوقار والجمال، وتتحلى بحلية المودة عند العامة، وتسلك الجدد الذي لا غبار فيه ولا عثار؛ فكن عالما كجاهل وناطقا كعيي، فأما العلم فيزينك، وأما قلة ادعائه فتنفي عنك الحسد، وأما المنطق - إذا احتجت إليه - فيبلغك حاجتك، وأما الصمت فيكسبك المحبة والوقار.»
هذه طريقة ابن المقفع في كتابه، وقد ترى فيها الآنسة منيرة ألفاظا غير مألوفه، ولكن ابن المقفع عن ذلك غير مسئول، فعلينا نحن أن نتألف اللغة حتى لا تصبح فيها كلمة غريبة. وإذا كانت الآنسة منيرة تأنف أن تتلقى من مثلي نصيحة بعد ما أفنيت شبابي في دراسة الآداب العربية والفرنسية؛ فلأوجه نصحي إلى من منحهم الله نعمة التواضع، وحبب إليهم الاستماع لما يقول الأدباء.
وإني لأحذر تلامذتي المتواضعين من الاغترار بالأساليب المزخرفة؛ فإن الفرح بالنقوش والزخارف في الفصاحة والبلاغة يدل على أن القارئ قليل الخبرة بمواطن الحسن في طرائق البيان، ومثل الأساليب الكتابية مثل الأشياء المعروضة للناظرين يفتن الطفل بأجملها لونا وأصغرها قيمة، ويعجب الرجل بأمتنها سبكا وأبرعها جودة. والكاتب المبدع هو الذي يجمع بين جمال اللفظ وجمال المعنى؛ كالصانع الموفق يجمع بين متانة المادة وجمال الصورة.
ويرحم الله شبابنا المسرفين الذين يجرون في الكتابة على غير هدى وفيهم - مع الأسف - طلبة المدارس العالية، ولكن هكذا قدر أن يكون لكل شيء في مصر ميزان إلا الشعر والنثر، وأن كل امرئ في مصر مسئول إلا الكتاب والشعراء، ولقد لقيني بالأمس صديقي الشيخ محمد الجعار فسألته: ماذا أبدعت من الشعر؟ فأنشدني هذا البيت في فتاة ذكر أنها في ميعة الشباب.
فرجت كربة نفسي
بنت عشرين وخمس
فعرفت أنه لم يحدد سنها بخمس وعشرين سنة إلا خضوعا للقافية، كما أطالت الآنسة منيرة خضوعا للرغبة في الانتقام من المخلص زكي مبارك.
الأدب الجديد
أكنت تحسبنا في حاجة إلى أن نبني دارا جديدة للبرلمان لو أن قصر «اللابيرانت» موجود؟ إننا لو فعلنا ذلك لكنا من المسرفين، وهل ترى من الحزم أن نبني قناطر أخرى بمحاذاة القناطر الخيرية وهي ما هي في متانة البناء؟ وهل ترى من حسن الإدارة أن نحفر مجرى آخر للنيل يساير فرع رشيد أو فرع دمياط، على حين لم يشك أحد الظمأ بالقرب من هذين الفرعين؟ وهل تجد من الرأي أن يبنى مسجد جديد فوق القلعة وإن كان مسجد محمد علي يسع أضعاف المصلين هناك؟
الأمر واحد أيها القارئ في عالم المحسوسات وفي عالم المعقولات، فما بالنا نبني ما لا حاجة إليه في الآداب باسم التجديد والإبداع؟ وأريد أن أقدم لك هذا الموضوع بشيء من التفصيل، هل تذكر أن النقاد الأقدمين فضلوا جريرا على الفرزدق؛ لأن هذا ماتت امرأته «النوار» فلم يبكها إلا بقصيدة جرير في بكاء امرأته:
لولا الحياء لهاجني استعبار
ولزرت قبرك والحبيب يزار
وهذا لا يدل عندي على أن الفرزدق أضعف من جرير في الرثاء، ولكنه يدل على حبه للقصد وبغضه للإسراف؛ وإلا فما الحاجة إلى أن ينظم في رثاء امرأته قصيدة جديدة وأمامه قصيدة جرير تساعده على البكاء.
إن عرائس الشعر في عالم المعقولات تشبه الأنهار في عالم المحسوسات، فكما لا يجوز أن تحفر نهرا جديدا تتلف في سبيله ما شئت من المباني والمزارع من غير حاجة ماسة؛ لا يجوز أن تنشئ قصيدة جديدة تسهر من أجلها ليلك من غير سبب معقول، وليس معنى التجديد والإبداع أن تزيد أو تنقص ما أجاد فيه من قبلك الكتاب والشعراء، وإنما تكون مبدعا حين تنشئ آثارا جديدة فيما غفل عنه الأقدمون أو قصر فيه المحدثون. ولأضرب لك الأمثال:
ألم تشك مرة غدر الصديق؟ ألم تحاول النيل من أخ كان وفاؤه طيب الحياة، ثم عاد غدره نكد الحياة؟ فإن كنت وقفت هذا الموقف في حياتك الوجدانية، فهل تذكر أنك فزعت بعد نية القطيعة إلى الصفح الجميل؟
كثير منا عالج هذا الموقف العصيب، ثم هم بأن يحبر عنه رسالة، أو ينظم فيه قصيدة، ولكن ألا يكون من العبث أن يفعل ذلك وقد سبقه الشريف الرضي إلى الغاية القصوى في استبقاء الصديق؟
وإليك ما قال الشريف:
وكم صاحب كالرمح زاغت كعوبه
أبى بعد طول الغمز أن يتقوما
تقبلت منه ظاهرا متبلجا
وأدمج دوني باطنا متجهما
ولو أنني كشفته عن ضميره
أقمت على ما بيننا اليوم مأتما
كعضو رمت فيه الليالي بقادح
ومن حمل العضو الأليم تألما
إذا أمر الطب اللبيب بقطعه
أقول عسى أضنا به ولعلما
صبرت على إيلامه خوف نقصه
ومن لام من لا يرعوي كان ألوما
هي الكف مض تركها بعد دائها
وإن قطعت شانت ذراعا ومعصما
دع المرء مطويا على ما ذممته
ولا تنشر الداء العضال فتندما
إذا العضو لم يؤلمك إلا قطعته
على مضض لم تبق لحما ولا دما
خبرني بربك ما الذي ينقص هذه الصورة الشعرية حتى تحاول بناءها من جديد؟ وما الذي بقي في نفسك بعد هذا التفصيل حتى تتورط في الفضول؟ إذن فلتكن هذه القطعة أنشودتك حين يبدو لك ما يسوء من صديق قديم.
وبعد هذا، أتذكر أنك ظمئت إلى بعض الثغور، وأنك حين وردت عدت وأنت صديان هائم ، ثم هممت بأن تقول شعرا في هذا المعنى الجميل؟
قل الحق، فكلنا ظماء، ولكن هل وجدت أبدع من قول ابن الرومي:
أعانقه والنفس بعد مشوقة
إليه وهل بعد العناق تدان
وألثم فاه كي تزول حرارتي
فيشتد ما ألقى من الهيمان
ولم يك مقدار الذي بي من الجوى
ليرويه ما تلثم الشفتان
كأن فؤادي ليس يشفي غليله
سوى أن يرى الروحين يمتزجان
وماذا عسى أن تصنع إذا حاولت بسط هذا المعنى البديع؟ إنك لا بد مفسده إذا أقدمت على هذه المحاولة، ويجب أن تعلم أن الثوب حين يلابس الجسم لا يجمل به بعد ذلك أن يتسع ولا يحسن به أن يضيق، وكذلك الصورة الشعرية حين تلابس المعنى المراد.
وهل تذكر أنك هجرت بعض البيوت غير قال ولا صادف، ثم أقبلت على بعض البيوت غير عاشق ولا وامق، وأنك عجبت لترك حبيبك إرضاء لبغيضك، حين أقبلت على بيت عدوك وأوليت بيت حبيبك الصدود؟ وهل تجد في مثل هذا الموقف أجمل من قول الأحوص:
يا بيت عاتكة الذي أتعزل
حذر العدى وبه الفؤاد موكل
أصبحت أمنحك الصدود وإنني
قسما إليك مع الصدود لأميل
فصددت عنك وما صددت لبغضة
أخشى مقالة كاشح لا يعقل
وتجنبي بيت الحبيب أوده
أرضى البغيض به حديث معضل
ولئن صددت لأنت لولا رقبتي
أهوى من اللائي أزور وأدخل
فما الذي فات الشاعر في هذا الموقف حتى تضع له غير هذه الأبيات؟ ففي البيت الأول خلاصة الحديث، وفي الأبيات التالية إيضاح وتفصيل، ولعلك لا تجد أحكم من قوله:
وتجنبي بيت الحبيب أوده
أرضى البغيض به حديث معضل
وهل تذكر أن صديقا لج في عتابك وكنت في وده من الأوفياء، وأنك أردت إقناعه بأن الحياة قصيرة، وأن الحزم كل الحزم في الانصراف عن العتب واغتنام أوقات الصفاء؟
هذا معنى فطري يجول في جميع النفوس، ولكن هل تجد فيه أجمع من قول سعيد بن حميد:
أقلل عتابك فالبقاء قليل
والدهر يعدل تارة ويميل
لم أبك من زمن ذممت صروفه
إلا بكيت عليه حين يزول
ولكل نائبة ألمت مدة
ولكل حال أقبلت تحويل
والمنتمون إلى الإخاء جماعة
إن حصلوا أفناهم التحصيل
فلئن سبقت لتبكين بحسرة
وليكثرن علي منك عويل
ولتفجعن بمخلص لك وامق
حبل الوفاء بحبله موصول
ولئن سبقت - ولا سبقت - ليمضين
من لا يشاكله لدي خليل
وليذهبن بهاء كل مودة
وليفقدن جمالها المأهول
وأراك تكلف بالعتاب وودنا
باق عليه من الوفاء دليل
ولعل أيام الحياة قصيرة
فعلام يكثر عتبنا ويطول
ألم تر إلى الشاعر وقد سد في وجه صديقه منافذ الفراق؟ ألم تر إليه وقد تحسر على أيام كان يظنها ظوالم وهو الآن يبكيها بالدمع السخين؟ فما معنى ذلك؟ أليست هذه دعوة رفيقة إلى اغتنام الصفو العتيد؟ ولا تنس خوفه من أن يموت أحد الصديقين فتكون قاصمة الظهر، وغائلة الفؤاد؟ وتأمل رفقه في قوله:
ولئن سبقت - ولا سبقت - ليمضين
من لا يشاكله لدى خليل
بربك هل تجد أرفق من هذا الدعاء؟ وهل ترك لك الشاعر شيئا تقوله في هذا الباب؟ إذا لا تحاول أن تضع شعرا جديدا في هذا المعنى الذي وفاه سعيد بن حميد حتى لا يقبل المزيد.
ولا أشك - أيها القارئ - في أنك رزئت مرة برجل أكول، فإن لم يكن ذلك فاعلم أنه سيكون، وأني مقدم لك قول ابن هانئ الأندلسي في هذا المخلوق:
يا ليت شعري إذا أوما إلى فمه
أحلقه لهوات أم ميادين
كأنها وخبيث الزاد يضرمها
جهنم قذفت فيها الشياطين
تبارك الله! ما أمضى أسنته
كأنما كل فك منه طاحون
أين الأسنة أم أين الصوارم أم
أين الخناجر أم أين السكاكين
كأنما الحمل المشوي في يده
ذو النون في الماء لما عضه النون
يخفض الوز من قرن إلى قدم
وللبلاعيم تطريب وتلحين
كأنما كل ركن من طبائعه
نار وفي كل عضو منه كانون
كأنما في الحشا من خمل معدته
قرنفل وجواريش وكمون
قوموا بنا فلقد ريعت خواطرنا
وجاذبتنا أعنتها البراذين
هذه نماذج من الأدب القديم، وقد قدمت لك أن من العقل أن ننتفع بما للأسلاف من الأدب الممتع الرصين، ومن الأدب ما صار ميراثا للإنسانية جمعاء، فلننتفع به كما هو ولنعفه من التغيير والتبديل، وإذا شئنا أن يكون لنا أدب جديد فليكن في موضوعات جديدة لم يتناولها الأقدمون، وإلا أضعنا ما طمحوا إليه من الخلود، وأسأنا الانتفاع بما قدموا من جهود.
رفقا بالورق والحبر والمطابع يا حملة الأقلام، لا تكونوا أبواقا للقدماء، بل كونوا شيئا يذكره التاريخ، لا خير في الكاتب إن حرم الصدق والأمانة، وليس في السارقين صادق أمين، اكتبوا بأنفسكم ولأنفسكم، فإن لم تستطيعوا ففي الأدب القديم ما يروي ظمأكم - لو تعلمون!
الطبيعة والإنسان
كل ما وجد في الإنسان، أو خلق له، أو أحاط به يبلى ويتغير ويبيد، فهو يمشي من الربيع إلى الخريف، والقوانين، والعادات، والفنون الجميلة والممالك؛ كل هذه تنتقل من الجدة إلى البلى ومن الشروق إلى الغروب، وأحيانا تخترم وهي في عنفوان الشباب!
ومع ذلك فإن الطبيعة تظل متمتعة بالثبات والخلود، على الرغم من وفرة الاستحالة والتطور والانقلاب.
معربة
حديث القط
عزم القط، بعد أن هزم الفيران، في موقعة الصحراء، وبعد أن يئس من اغترارهم به، واقترابهم منه، أن يزور بيت الله الحرام؛ ليكفر عن سيئاته الماضية، وليمهد لحياته القابلة، بأداء فريضة الحج، فوزع المنشور الآتي على الفيران:
لما تبيناه من قبح الظلم وحسن العدل، ولما عرفناه من دمامة الرذيلة ووسامة الفضيلة؛ قد رأينا أن نؤم الديار الحجازية لأداء تلك الفريضة الإسلامية.
وإذ كنا قد أفرطنا في تعذيبكم، وأسرفنا في تقتيلكم؛ فإنا نرى من واجب التوبة ولازم الأوبة، أن نعتذر إلى جنابكم، لنسلم من دعائكم، فإن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، ولا يغني عن الظالم - إن لم يسمح المظلوم - رجع ولا متاب، فتفضلوا بالسماح، ليطيب الرواح، فننال الفلاح.
فلما قرءوه كانت هذه المحاورة:
الأول :
سجع جميل.
الثاني :
وفعل قبيح.
الثالث :
أفلح إن صدق.
الرابع :
لطالما ظلم.
الخامس :
عفا الله عما سلف.
السادس :
تصحبه السلامة.
السابع :
فلنودعه من بعيد؛ فإن العهد بظلمه قريب، وإننا نخشى إن واجهناه بالتوديع، أن يكون نصيبنا القتل الذريع.
الجميع :
هذا هو الرأي.
ذهب القط إلى مكة، فأقبل على الله بلسانه، وأعرض عنه بجنانه، ثم عاد بباطن متجهم، وظاهر متبلج، فانقطع إلى التبتل والعبادة والتقشف والزهاد، فدار بين الفيران هذا الحديث:
الأول :
حقا إن الحج يكفر ما قبله.
الثاني :
إلا القتل والظلم (هتاف) !
الثالث :
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء .
الرابع :
لمن يشاء! (تصفيق حاد) .
الخامس :
إنه يقيم الصلاة.
السادس :
ويؤتي الزكاة.
السابع :
سبحان مقلب القلوب.
الثامن :
سبحان غفار الذنوب.
التاسع :
هلم نصافحه!
العاشر :
هذا أقل ما يجب.
الثاني :
انتظروا أيها السادة، حتى أقف على دخيلة أمره وطوية نفسه؛ فإنه لا يصح للعاقل، أن يغتر بالظواهر، ويترك الجواهر، وإن هذا القط قد خدعنا حينا من الدهر، فأولى أن لا نغتر به آخر العمر.
الثالث :
لا داعي لهذا الحذر.
الرابع :
اسكت يا جاهل؛ فإنك لا تعرف مكر القطط، ولا سيما الصالحين من شيوخهم، والقانتين من كهولهم.
الثامن :
لعنهم الله أجمعين (هتاف) .
الأول :
فليذهب أحدنا لاختباره.
الجميع :
هذا أسلم.
ثم اختاروا من بينهم فأرا دقيق الفهم، غزير العلم، كان قد زار الديار الأوروبية، والأقطار الأمريكية، وتلقى الفلسفة الهندية، مما جعله أكفأ من كثير من القطط، لولا قلة المال وندرة السلاح، وهما عماد القوة، وسناد النجدة.
فما زال يمشي تارة على بطنه، وأخرى على رجله، يرفع رأسه حينا، ويخفضه حينا، وهو في كل ذلك خائف وجل، حتى صار على مقربة منه، وكان القط في تلك اللحظة يقرأ ورد الصبح، ويتلو حزب أول النهار.
فقال الفار بصوت منخفض: حج مبرور.
فأنصت القط، وقال في نفسه: كأني أسمع صوت فأر، فلأعرف مكانه، يا لها من فرصة يجب أن أستعد له.
غير أن الفأر طال صمته، فاستأنف القط التلاوة، فجمع الفأر قوته مرة ثانية، وقال بصوت أرفع من الأول: حج مبرور، وسعي مشكور.
فعرف القط ناحية الصوت، فهرع نحوه، فلاذ الفار بالفرار.
وصل الفأر إلى رفاقه وقد امتقع لونه وانصدعت كبده، فالتفوا حوله لينظروا ما شأنه ، فإذا به يحتضر.
قال أحدهم وهو يودعه: كيف رأيت القط، أيها الأخ المحترم، فنظر إليه نظرته الأخيرة ثم قال: تسألني عن القط، الوجه وجه حاج، والفعل فعل شيطان! «وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يعقلون.»
طفلة الحسناء
يا طفلة الحسناء
والدرة العصماء
ما طرفك النعسان
وخدك الفتان
إلا بقايا الأم
ذات اللثات الحم •••
أشبهتها في الدل
وجفنها المعتل
وردفها الثقيل
وخصرها النحيل
فاستوصفيها الحبا
واستودعيها الربا
فقد تناهى العمر
ونال من الدهر •••
يا زهرة في العين
ونغمة في الأذن
وطفلة في المنظر
وغادة في المخبر
لا مسك الغرام
فإنه ظلام!
مقاصد الشعراء
نريد بمقاصد الشعراء: الغايات النبيلة التي يسعون إليها في الحياة، وبعبارة أوضح: الصور الجميلة التي تتمثلها أرواحهم كلما هموا بضرب الأمثال للناس. ولست أريد في هذه الكلمة أن أنتزع صورة للشاعرية الحقة، من بين ما قرأت من شعراء العرب والفرنجة؛ فإن ذلك وإن صح أن يكون هاديا لبعض العقول، فإنه كثير في الكتب المختارة من دواوين ومجاميع، وهو - على الجملة - في مقدور كثير من عشاق الأدب والبيان.
لم يعرف الأدباء ولا العلماء - إلا قليلا منهم - معنى الشعر في القرآن، أو ما يقصد العرب من وصف النبي بأنه شاعر، أو الصورة التي تمثلوها حينما ظنوا القرآن قصيدة طويلة، وحسبوا أن النبي شاعر مطيل. ويخطئ من يظن أنهم كانوا مستهزئين بالنبي حين وصفوه بالشاعرية؛ فإن الشعر كان عندهم في منزلة فوق الإعزاز والإجلال، ولكنهم أرادوا أن يصفوه بالعبقرية، وأن يجعلوا رسالته في صف الأماني العالية التي لا يتخيلها إلا الشعراء، وأن يجعلوا لأنفسهم عذرا في التخلف إذا رأوا في الشريعة تكليفا فوق الوسع، ثم استحبوا العمى على الهدى، فما يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس.
وأريد أن أقول: إنهم يرون في الشعر شرعة خاصة يلزم باتباعها من سمت نفسه إلى إدراك ما يوحي به الشاعر المجيد، فهم يشيرون على النبي بأن يبحث عن طائفة من الناس تفهم كما يفهم، ويكون مرأى الحياة في إدراكها كمرآها في إدراكه ، ويلذ لها من التكاليف العصيبة ما يلذ له.
أما هم فإنهم بفضل سلامتهم من جنون الشعراء - والنبوغ نوع من الجنون - غير مكلفين باتباع ما يبعد الشعر وأهله من أنظمة الحياة العالية، وكذلك يرون التشريع الخاص غير التشريع العام، ويرون في شريعة النبي دقة تسمو بها إلى الشرائع النظرية، وتبعدها عن الشرائع العملية، وإنهم لفي ضلال مبين.
الشعر في نظر العرب يدعو إلى شريف الخلال، وكريم الخصال أو يبدع صورا للذائذ الحسية والمعنوية، فالحق العالي الصرح، والباطل الواهي الأساس، والفضيلة الرفيعة، والرذيلة الوضيعة؛ كل أولئك مما يقع تحت حس الشاعر المبدع، فهو فاضل إن دعا إلى الفضيلة، وناقص إن زين الرذيلة، وهو - على كل حال - معروف بالقدرة على وصف ما يدعو إليه العقل، أو يرنو له القلب، وللناس فيما يعشقون مذاهب.
أقول ذلك لئلا يحسب واهم أني أجعل الشعراء، في درجة الأنبياء، ولكني كذلك أرجو أن لا يتخلف عني بعض القراء فيما فهمناه معا من أن الشعر إنما يضع الأمثلة العالية، فالشاعر إما صانع قادر، أو واصف ماهر والناس مختلفون في اتباعه، فمنهم من يتبعه أحسن أم أساء؛ لأن الحياة عندهم ذات ألوان، والشاعر يصف ألوانها الدميمة والوسيمة، وهم يريدون أن يتذوقوا كل مظاهر الحياة، ومنهم من يتبعه إن أخطأ ويصدف عنه إن أساء، وهؤلاء المخلدون إلى الحياة الوادعة، والصادفون عن الحياة العاملة.
وهم لا يقرءون كل شعر كالصنف الأول ليقفوا على أنواع المدركات، من حق واضح، أو باطل فاضح، ولكنهم يعكفون على طائفة من الشعر الذي انفصمت عراه، وتفككت وصاله؛ ليتم لهم التناسب بين ما تعمل أيديهم وما تقرأ ألسنتهم، وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون.
ومن الناس من يتبع الشعر الداعي إلى الحق، ويرى فيه نغمة من نغمات النبوة، وعلامة من علامات الرسالة، والشعراء عنده لا يتفاوتون بما تفاوتوا به عند غيره من الرغبة في الفضيلة، أو الميل إلى الرذيلة، ولكنهم يتفاضلون بتقديرهم للفضائل، وتصويرهم للمحامد، فهو يفضل بعض الشعراء على بعض، كما فضل الله بعض الأنبياء على بعض وهؤلاء الشعراء وتابعوهم من بناة المجد هم الذين عناهم أبو تمام حين قال:
ولو لا بناة الشعر في الناس ما درى
بناة الندى من أين تبنى المكارم
ولا يتوهمن قارئ أن اختلاف الشعراء في مذاهبهم الأخلاقية، مما يؤثر عليهم في الحكم من الناحية اللغوية، فإن أبا نواس في خمرياته، أفصح من أبي العتاهية في زهدياته، ولكن هناك وجها آخر للمفاضلة، وهو أن للغواية دركات، كما أن للهداية درجات، فالمثل العالي للخلاعة إنما يدركه الشعراء الخلعاء، والمثل الأعلى للنبالة إنما يدركه الشعراء النبلاء، ولكل شعر موضع، ولكل مقام مقال، فليس للشاعر أن يلبس روح الخليع حينما يريد أن يكون قدوة في المكارم، وليس له أن يلبس روح النبيل حين يريد أن يكون عمدة في المآثم، وإنما يلبس لكل حال لبوسها من جد وهزل، فيتعالى في الجد حتى يقال: نبي مرسل أو حكيم موفق، ويتراجع في الهزل حتى يقال: ماجن مازح، أو ذو صبوة خليع.
إذا جد حين البأس أغناك جده
وذو باطل إن شئت أرضاك باطله
وليس يخفى على القارئ أني هنا، إنما أحكم على أنواع الشعر وطوائف الشعراء، ولست أدعو إلى طريقة معينة أو مذهب خاص؛ فإن لذلك بحثا غير هذا البحث، وأريد أن أسأل القارئ بعد ما سلف من البيان هل الشعر في «مشروع ملنر» من الجد أو الهزل؟ وهل الشعراء فيه من الخلعاء أو الحكماء؟ •••
قرأنا للشاعر المجيد أحمد بك شوقي قصيدة في هذه الاتفاقية، كان نصفها الأول النسيب، وهو يتطلب الإسراف في الخلاعة؛ فلذلك راقنا منه أن يذكر أن قلبه لم يقلع عن الغواية وهو أشيب، وأن سرب الغواني لعب بلبه فأضله سواء السبيل، راقنا ذلك كله؛ لأنا نستملح كل ما يأتي عن طريق القلب، ولأن النسيب من الأشيب عنوان ظرفه، ولأن هذا المثل مما يتأسى به المسرفون في الصبابة وهم أحداث، ولا ننكر أن هذا مقبول ولو إنصافا للفن، وإن كنا نود لو وصف شوقي نفسه بما وصف به ابن الصمة أخاه حين قال:
صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه
فلما علاه قال للباطل ابعد
وكان النصف الثاني بيانا لرأيه في مشروع الاتفاق، ولا يستطيع من قرط قصيدة شوقي تلك بكلمة موجزة أن يدعي أن الحكم على هذا المشروع مما يدخل في طائفة الحكم على عتق الخمر، وصفاء الكأس، وحلاوة العين، وجمال الأنف، ورشاقة القد؛ إلى غير ذلك من الأوصاف الظاهرة لمحاسن النساء أو الأشجار أو الأنهار أو الجبال، وإنما هو حكم على آمال أمة تختلف أطماعها السياسية باختلاف عقول أبنائها البررة من علماء وحكماء وشعراء، وباختلاف الآمال ضعفا وقوة يوصف الرجل بأنه قوي أو ضعيف.
ولئن كان الشاعر حرا في اختيار النوع الذي يحبه من الحياة؛ فإنه غير حر أو غير مقتدى به في الدعوة إلى نوع من الحياة لا يتلاءم مع ماضي الشعب الذي ولد فيه، والوطن الذي درج منه، وهو عرضة لأن يوصف بضعف العزيمة، وخمود النفس، وركود الطبع، وأهل لأن ينكر عليه ماضيه الأغر، وسابقه المحجل، وأقل ما يجد الناقد فيه من العيوب أن شعره ليس شريعة عامة للشعب، وأنه بدلا من أن يتعالى إلى أبكار الأماني فهو يتسفل إلى ثيبات النوازع، فهو يدعو الناهضين إلى السقوط، ولا يحض الساقطين على النهوض. وهل أوجب للعتب من أن يختص شوقي بك جريدة الأخبار بتلك القصيدة التي لا تسوغ إلا لدى النفوس الضعيفة، ولا يبسم لها إلا من يئس من روح الله؟
إنه لا يصح لمثلي أن يلفت نظر شوقي بك إلى آمال المتنبي، ولا مطامع دانونزيو؛ فإنه بهما أعلم، وبفضلهما أعرف. ولكن ألا يصح أن نرسل دمعة واحدة في توديع الآداب العربية؟
لقد بلغ ضعف النفوس مبلغا لا يستهان به حتى لقد كتب «شاعر» يعرفني وأعرفه قطعة في مدح المشروع ولم يجرؤ على التصريح باسمه، ولكني عرفته بسيما شعره، وسأعاتبه بعد حين، فأين هذا المحتجب من الذي قال:
الليل والخيل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
إنكم لا تجهلون فضل المثال الأكمل في رءوس الوطنيين، كما لم يجهل العرب فضل المثل الأعلى في الشعر، الذي حسبوا القرآن نوعا منه، فهل يهديكم الله من بعد كما هداهم من قبل؟!
في سبيل الوفاء
فتنت بشعري مرة فجمعته في كراس خاص، ثم عدت إليه في هذه الأيام فلم يرقني منه غير القليل، ومن بين ما زهدت فيه قصائد قلتها في تكريم فريق من أساتذتي في الأزهر والجامعة المصرية، ولكني رأيت من الوفاء أن أذكر مقتطفات من تلك القصائد المهجورة؛ تحية لأولئك الأساتذة الأجلاء.
قلت في تكريم الأستاذ الشيخ مصطفى القاياتي قصيدة جاء فيها:
نصيب الأعادي منك لو يعلمونه
نصيب الجزوع الظامئات من الجود
فلا تترك الآداب يابن مليكها
إلى الدهر تسقى من أراقمه الربد
وكن غوثها حتى ترف كأنما
تحس من القايات طيب صبا نجد
وقلت في تكريم الأستاذ الشيخ سيد المرصفي قصيدة جاء فيها:
بربك هل أبقيت للناس نتفة
من الفضل أم آثرت نفسك بالحسن
فإني أراهم يبتغون إلى العلا
مسالك لا تهدي اللبيب ولا تغني
هو الأزهر المعمور ضم شتاتنا
فمن تابع للسالفين ومفتن
حسبنا العلا وقفا على كل مقتد
فضعنا وضيعنا الكمال على الذهن
وقد عرف الأسلاف قيمة عقلهم
فباتوا على علم وبتنا على ظن
أعذني من أهل الخمول فإنني
أرى قربهم يدعو الشجاع إلى الجبن
ولا تنسني من فضل نصحك لحظة
فلست عن النصح الجميل بمستغن
وقلت في تكريم الأستاذ الشيخ يوسف الدجوي قصيدة جاء فيها:
إمام تقلد خير الخلال
فجود السحاب وعز القنن
وظرف الأديب ونبل الأريب
وحكم اللبيب ووعظ الزمن
ورشد ابن رشد وحزم ابن حزم
ورأي الإمام وفقه الحسن
يجمل بالرشد إما أقام
ويتبعه الرشد إما ظعن
كأن لشانيه من حلمه
دروعا تقيه عقاب الإحن
وقلت في توديع الأستاذ الشيخ محمد المهدي حين اعتزل التدريس بالجامعة المصرية قصيدة جاء فيها:
وما كانت الآداب إلا طرائفا
من الشعر أو ما يستجاد من النثر
فأبرزها المهدي عذراء غضة
تأود تحت الحلي في الحلل الخضر
مباحث لو غذي زهير ببعضها
لأضحت قوافيه أجل من السحر
ولو فقه النيل المبارك كنهها
لحول ذياك المزيج إلى خمر
ولو أذن الدهر العبوس لبعضها
لأصبحت الأيام ضاحكة الثغر
ولو عرفت مصر المفداة قدرها
لباتت لما يلقي البيان على جمر
فيا واحدا عز البيان بفضله
على طول ما لاقى البيان من الهجر
لبعدك في الأحشاء نار ذكية
تفتت من كبدي وتأكل من صدري
صبرت عليها يعلم الله راغما
على حين لا غوث يؤمل من حر
ولما رأيت الصبر ليس بنافعي
عمدت إلى همي أحمله شعري
وقد بقي شعر كثير قلته في تكريم أساتذتي والتودد إلى أصدقائي وزملائي، ولكن الحوادث لعبت به كما تلعب العواصف بالأزهار.
وكم وددت لو استطعت نشر ما يمثل الوفاء في نفس لم توصم يوما بنسيان الجميل، ولكن ما الحيلة وقد تغير رأيي في بعض شعري وعبثت الليالي ببعضه؟ فمعذرة إلى كل من يحسب من أساتذتي وأصدقائي وزملائي أني أغفلته عمدا في هذا الكتاب.
ومن يدري؟ لعلي منسي من جميع هؤلاء.
الأزهر الشريف
في نهاية السكة الجديدة، من الناحية الشرقية على يمين السائر، حارة ضيقة توصل إلى مسجد جامع عتيق، هو الأزهر الشريف.
لا خلاف بيني وبين أهل مصر، في أن هذا هو الأزهر، فقد زاره بعضهم لطلب العلم، وزاره آخرون ابتغاء الاستطلاع، ومن لم يره منهم لا يجهل أنه في هذا الموضع وعلى تلك الحال.
ولكني على يقين من أن الأجانب في شك منه، فإنهم يسمعون في بلادهم، أن الأزهر أكبر الجامعات الشرقية، ومن أعظم المساجد الجامعة الإسلامية، وأنه إن لم يكن أجمل مكان في الشرق، فهو جدير بعناية الأمراء، ورعاية العظماء فلا بد أن يكون قريبا من جامعات برلين ومدارس مونبلييه، وما إلى ذلك من تلك المعاهد، التي ورثت عن منشئيه العلم، وتلقت عن مبدعيه البيان.
لا يهمني أصدق الأوروبيون أن هذا هو الأزهر، إيمانا بإغفالنا له وانصرافنا عنه، أم حسبوه مكانا غير هذا المكان، ولو في سماء الخيال، ظنا منهم أن المصريين أكرم من أن يهملوا مسجدا جامعا مثل هذا المسجد الجامع، وأجل من أن يغفلوا معهدا كهذا المعهد .
نعم لا يهمني ذلك ؛ لأني لا أشك في أن هذا هو الأزهر، الذي نفتخر به، ونغضب له - وإن كنا عنه معرضين.
تدخل في هذا المسجد الجامع، فلا يروقك فيه شيء، أرض منخفضة، وسقف غير مرفوع، وأعمدة قصيرة كأعمدة المقابر، وحيطان قاتمة كحيطان الأجداث، ونوافذ بخيلة بالضوء، ضنينة بالهواء، ومصابيح ضئيلة، لا تقتل الظلمة، ولا تكشف الغمة، وهو أحوج إلى أكبر منها في النهار المبصر، فكيف به في الليل المظلم، لا فرش له إلا الحصير الممزق والتراب المكدس، والناس فيه ما بين آمل غير واجد، أو زارع غير حاصد، لا طمع لهم في مناصب الحكومة، ولا أمل لهم في إسعاد الأمة، وقد يئسوا من إنصاف الوزراء، وإنجاد الأمراء.
ثم تراهم لا يصدقون أن لهم شيوخا يعطفون عليهم، أو رجالا يرأفون بهم، فهم لا يعرفون آباء غير آبائهم، ولا أعماما غير أعمامهم، وكذلك ينكرون جميعا قول الشاعر:
أقدم أستاذي على نفس والدي
وإن نالني من والدي العز والشرف
فذاك مربي الروح والروح جوهر
وهذا مربي الجسم والجسم كالصدف
إنهم لا يعرفون هذا الشعر؛ لأن الشيخ الذي سلف، والشيخ الذي خلف؛ لم يرفعا عنهم شيئا من الضر، ولم يسوقا إليهم نوعا من الخير، فهم اليوم مثلهم بالأمس، أكثر شقاء وهما، وأكبر عناء وغما؛ لأنهم يرون الناس في تقدم، ويرون أنفسهم في تأخر، ويرون المدارس يعمها العدل، والأزهر يخصه الظلم.
ثم يرون لكل شهادة أثرا في الحياة، وقيمة في الوجود، ويرون شهادتهم ورقة لا كالورق، فهي مزينة، ولكن بالمواعيد الكاذبة، ومزخرفة، ولكن بالأيمان الحانثة، حتى كأنها قطعة من معاهدة الصلح لا يضمن لمن أنصفته سلام، ولا يرجى لمن نصرته قيام، وحتى كأن مجلس المشيخة هو مجلس الشيوخ، وهم قد شبعوا من المجد الموهوم، والشرف المعدوم، فما عادوا يصدقون بأن شهادة الأهلية أو شهادة العالمية، حرز من الفقر، وأمان من الدهر.
ثم هم فكروا طويلا في انتسابهم إلى الأمة المصرية والسلالة العربية، ولولا أن الأجانب يصفو عيشهم على ضفاف النيل، وفي سفح الأهرام؛ لظنوا أنفسهم من الجاليات الأوروبية أو الأمريكية.
وقد بحثوا كذلك في سبب شقائهم، ومصدر بلائهم، فلم يهتدوا إلى موجب صحيح، أو داع معقول، اللهم إلا حياء ظنه الناس من الجبن، وحلما حسبوه من الذلة، وهم لا يستطيعون أن يرجعوا ذلك إلى حبهم للوطن وعشقهم للحرية، وبغضهم للظلم، فإن ذلك مشترك بين عامة الناس وشائع في كافة الأجناس.
فلم يبق إلا أن يكون الأزهر شقيق الهم، وحليف الغم، لا يدخله امرؤ إلا تقوس ظهره، وتقوض عمره، ولا يفزع إليه فتى إلا تزعزع كيانه، وتضعضع بنيانه.
وهو - بفضل إغفال الحكومة - جدير بأن يقتل كل شاب تضمه جدرانه، ويذهب بكل بصر ينظر فيه صفحة من كتاب، أو فقرة من خطاب، وكذلك لن يزال - بفضل الشيوخ - مبعثا لظلم العواطف، وقتل المشاعر، يقرءون فيه العلم، فيتعرفون به الظلم، ويتدارسون فيه أخبار الأسلاف، فيئنون من جور الأخلاف.
كانت مدة الدراسة في الأزهر الذي وصفناه اثني عشر عاما، فرأت المشيخة أنها لا تكفي لتضييع العمر، وتقويس الظهر، فزادتها أعواما ثلاثة فصارت خمسة عشر.
من هذا يشكو إخواننا طلبة الأقسام النظامية، في المعاهد الدينية، وقد رأت لجنتنا الجديدة، أن لا تنام لها عين، ولا يهدأ لها قلب، حتى ترجع المشيخة عن هذا القرار الظالم، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.
2
إن طلاب الأزهر لا يعرفون غير متاعب الحياة؛ فهم في سني الدراسة يعانون الآلام بين الكتب المعقدة، والدروس المتعددة، ثم إذا اجتازوا عقبات الامتحان، بعد العمر الطويل، والهم الجزيل، دخلوا في حياة لا حظ لهم فيها غير حظ الأعزل من النصر، في ميدان كله رماح طوال، وسيوف صقال ... وهل بعد ذبول الأغصان، وكلال الأجفان وتقوس الظهر، وتقوض العمر؛ غرض يرجى نواله، أو هم يبتغى زواله.
هؤلاء هم الأزهريون الذين كانوا يملئون البلاد علما وحكمة لو أتيح لهم التغلب على مصاعب النظام القديم والحديث، هؤلاء هم الأزهريون الذين كانوا مادة الحياة العلمية في عصر الظلمات، وهم أصل النور في هذا العهد الجديد، هؤلاء الأزهريون ينادون بملء أفواههم أن خذوا بيدنا أيها القائمون بالأمر، فلا يستمع لهم أحد، ولكن أيغلب اليأس الرجاء ويغدو الأمل صريع القنوط؟ إن هذا لبعيد.
3
نقول الآن - وسنظل على هذا الرأي حتى حين - إن النبوغ الذي امتاز به بعض الأزهريين في الزمن القديم أو الحديث، ليس أثرا من آثار الإدارة التي تولاها زعماؤه الأقدمون أو المحدثون، ولكنه أثر من آثار الذكاء الذي انفرد به بعض الشبان الذين هيأت لهم ظروف خاصة أن يخرجوا على التقاليد البالية، وأن يشاركوا جمهور المبدعين في العلم والأدب، وأن يتركوا لأنفسهم أثرا يذكرون به في العالمين.
فإن كنت في شك من صواب هذا الرأي فاقرأ - إن شئت - تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وانظر كيف تأثر بالتعاليم الحديثة حتى صار علما يهتدى به، أو احضر دروس الأستاذ الشيخ يوسف الدجوي؛ لترى كيف استعان الفلسفة الحديثة، لفهم الفلسفة القديمة، أو خالط النابغين من علماء الأزهر الآن، فإنك لن ترى نبوغهم مصبوغا بصبغة العلوم التي يتلقونها في ذلك المعهد القديم، بل تراه مطبوعا بطابع الزمن الذي يعيش فيه، والذي كان يجب أن يكون التعليم في الأزهر مصبوغا به ومطبوعا عليه لو وجد هذا المعهد من يعنى به من زعماء الإصلاح.
في الأزهر الآن جماعة من عشاق النهوض، تراهم إذا زرت الجامعة المصرية أو مدرسة الأزهر الفرنسوية، تراهم فلا تشعر بغير الإعجاب بهم والإعظام لهم، ولكنك تشعر بعد ذلك بكثير من الألم الممزوج بالإشفاق إذا قيل لك: إن هؤلاء قد يحسبهم زملاؤهم وأشياخهم غير مهتدين.
وقد زعمت ليلى بأني فاجر
لنفسي تقاها أو عليها فجورها
هؤلاء الشواذ - فيما يرى بعض الشيوخ - هم زينة الأزهر في القديم والحديث، وهم الذين اضطروا القائمين بالأمر في المعاهد الدينية إلى أن يتأملوا قول علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه: «علموا أبناءكم؛ فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم»، وهم الذين تذهب نفسهم حسرات كلما رأوا وقوف الأزهر عند مبدئه العهيد، وشهدوا الزمن يمشي بأهله إلى ذرى المجد الشامخ، ألا إن التقدم حركة، فويل للواقفين.
كل ما في الأزهر من علم، وكل ما فيه من أدب؛ إنما هو من آثار الذكاء الذي قبره الزمن في تلك البقعة المحجوبة عن النور والضياء، وليس لتلك الإدارة المهدمة الجوانب غير ما نراه من عموم الجمود، وشمول الخمود، فمتى يبعث الله لهذا البيت العتيق من يأخذ بيده من تلك الهوة التي تردى فيها بفضل ما لأبنائه من عقوق؟ ومتى يتحقق الأمل في عشرين ألفا من الرجال قضى عليهم الجد العاثر والنجم الآفل، أن يكونوا وقودا للهيب الهمجية؟
اللهم غفرا! يزهر العلم في كل بلد، ويتقدم أهله في كل قطر، ويكون حظ الأزهر من بين جامعات العالم كحظ مصر من بين الأمم، ثم يعيش الأزهريون عيشة النائمين، لا هم أحياء فينتفعوا بما في الكون من مظاهر الحياة، ولا هم أموات فيحظوا بما بعد الموت من نعيم.
تلك آمالنا قضى عليها الإهمال، وهذي آلامنا يضاعفها إصرار «المصلحين» على دفننا أحياء في تربة اليأس القاتل، ولكنا سندفنهم - بحول الله - فيما ندفن من بقايا الخمول، فهل أدلكم على سبيل النجاة أيها الرفاق المتألمون؟
عليكم بالنظر في كتب المتقدمين من الشرقيين، والمتأخرين من الغربيين، ثم اتركوا الحثالة التي جاءت بين هذين العهدين لحضرات الزاهدين في التجديد، إنكم إن فعلتم ذلك ظهرتم عليهم، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
4
لقد آن للأمة المصرية أن تنظر في نظام الأزهر وحياة الأزهريين؛ فإنه لم يبق شيء من خرافات العصر المنصرم، يوم كان الناس يظنون أن الأزهر باب الرحمة، ويوم كانوا يحسبون أن الجلوس في حلقات العلم ضمان من الفقر وأمان من النار، ويوم كان العامة ينسبون لشيخ الجامع حركات الأفلاك ونظام الكواكب؛ كل ذلك قد تبدل، وأصبح الناس أمام أمر واقع، وهو أن الأزهر معهد علمي يجب أن ينال من الأنظمة النافعة ما يضمن له البقاء والثبات.
جالس من شئت من العلماء، وحادث من أردت من الطلاب، فلن تجد غير اليأس القاتل، والهم الشامل، ولن ترى لهم من أمل في غير الحياة الثانية، وهم الذين خلقوا ليكونوا زينة الآخرة والأولى.
هل تتفضل المشيخة الجليلة فترينا قائمة الأعمال التي أصلحت بها نظام الأزهر في العهد الأخير؟ وهل يتفضل القائمون بالأمر فيفصحوا لنا عن نياتهم في الإصلاح المنشود؟ وهل هم جماعة منهم بدرس نظام الجامعات، حتى يعرفوا ما هم عليه، وما يحتاجون إليه؟ وهل راقبوا الله في النفوس التي قضى عليها أن تكون تحت إدارتهم؟ وهل فكروا في نتائج التهاون الذي يرتعون في أرجائه الفسيحة؟ ثم هل آن لهم أن يعرفوا أن الأزهر إنما أنشئ ليكون مصدرا للسعادة، لا منبعا للشقاء؟
أيروقكم أن نحسبكم مشغولين بما أسبغ الله عليكم من النعمة، كما يتحدث بذلك من يتأمل في حاضر الأزهر وماضيه، فهل أنتم ناظرون فيما مني به هذا المعهد من التأخر والانحطاط؟ وهل تبيض وجوهكم أمام الله وأمام الناس وأمام التاريخ بما تعتزمون المضي فيه من إلحاق الأزهر بالجامعات التي سامته بما سلف حتى سمت عليه؟ وهل نجد في المستقبل الباسم، ما ننسى به هذا الحاضر العابس؟
لقد طفح الكيل وأغرقت الأماني في بحور اليأس، وأصبح الأزهريون وكأنهم من أمة غير هذه الأمة، وقطر غير هذا القطر، وإلا فلماذا يحرمون وحدهم مما يتمتع به غيرهم من الأمل الضاحك والعيش الوادع؟
هذه كلمات نكتبها ونحن آسفون، وكنا نود لو أن شيوخنا أغنونا عن التفكير في غير العلم، ولكنهم أرادوا أن لا نقرأ صحيفة في كتاب إلا ونحن محزونون، وأن لا نخط سطرا في صحيفة إلا ونحن متألمون.
فيا رب هل إلا بك النصر يرتجى
عليهم وهل إلا عليك المعول
5
رغب المسيو فرناند فور الأستاذ بجامعة باريس ورئيس الجامعة التي استقدمت لامتحان الحقوق الفرنسوية بمصر أن يزور الأزهر الشريف، فسألني حضرة أستاذي المسيو باباني المحامي أن أرافقه في هذه الزيارة، فقبلت ذلك، واقترحت تأخير الزيارة أسبوعا حتى يعود الطلبة إلى الدروس، وكانوا - إذ ذاك - في مسامحة المولد النبوي، وحددنا للزيارة يوم 27 نوفمبر سنة 1920، في اليوم الثاني من عودة الدراسة، وكنت أظن أن الدروس إن لم تكن تكاملت في اليوم الأول فلا بد أن تتكامل في اليوم الثاني، ولكن خاب هذا الأمل وتبين أن الأزهر لا يزال مطلق العنان، وأن الطلبة إلى الكسل مخلدون!
دخلنا الأزهر بعد الظهر، ثم مشينا معا بعد أن تبودلت التحيات بين القادمين والمستقبلين، وكنت عزمت أن أتأمل نظرات هؤلاء الزائرين لهذا البيت العتيق؛ عساني أعرف ما نحن عليه، وما نحن في حاجة إليه، ولكني لم أمش بضع خطوات حتى خيل إلي أن هذا المعهد بقية من بقايا العصور الذواهب، وأنه يجب علي أن أفهم هؤلاء الناس أن الجامع الذي يجوسون خلاله ليس معهدا للعلم، ولا مسجدا للصلاة، ولكنه طرفة عادية «أنتيكة» يؤمها المتشوقون لآثار الزمان الغابر.
وما ظنك أيها القارئ بمسجد ليس فيه من الحصير ما يقي الجالسين عنت الرطوبة التي تكمن في مثل هذا المكان الذي ينخفض عن الشارع مترين في بعض نواحيه؟ وماذا عسى أن أجيب به هؤلاء الزائرين إذا قال قائلهم: ما بال طلبة العلم عندكم يجلسون على الحجر العاري من الغطاء؟ وكيف أصبر على نظراتهم إلى الطلبة الذين يتململون من قسوة المكان الذي يجلسون فيه ساعات وهو قاتل؟
وكم تمنيت وقتئذ لو أن أعضاء المجلس الأعلى للأزهر والمعاهد الدينية حضروا هذه الزيارة الجميلة؛ ليشرحوا لهؤلاء الأجانب السبب في جعل الأزهر مقبرة لطائفة كبيرة من الطلاب، ولعل منهم من درس في الجامعات الأوروبية أو الأمريكية ورأى في أبهة تلك الجامعات ما يصرف الطلبة عن العلم الصحيح، فيبين للزائرين فضل الخشونة على العلم! ويكشف الغطاء عن الصلة بين الظلمة التي تغشى جوانب الأزهر وبين نور العلم الذي يهديه للناس!
هاتوا شبابي أيها الرؤساء؛ فقد ذهبت به أيام الأزهر السوداء، هاتوا أملي فقد ذوت أغصانه في ذلك البيت العتيق.
كانت هذه الخطرات تمرح في ثنيات نفسي وأنا أصحب أولئك الزائرين، وكنت كلما غلب علي الخجل لبعض دلائل الإهمال، أرفع بصري إليهم وأقول بصوت خافت: «لقد فكر أولو الأمر في إصلاح الأزهر وسيفرشونه بالأبسطة الفارسية بعد حين»، غير أن هؤلاء الفرنسويين على جانب عظيم من أدب الخطاب فكانوا يقولون: «إن التجهم الذي يستقبل به الأزهر زائريه قطعة من جماله؛ لأنه يمثل عهدا من عهود التاريخ.»
مرحى مرحى! يسركم منظر الأزهر؛ لأنكم ترون فيه مظهرا من مظاهر الحضارة القديمة، وما يضيركم لو أصبح المشرق كله رواية تاريخية تقرءون حديثها في كتب الغرب، وتنظرون أشخاصها في مصر وفي فارس.
6
وإن تعجب فعجب قول بعض الأزهريين: اجتهد في أن تفهم أن الأزهر أقدم جامعة علمية، ألا فلتطمئنوا من هذه الناحية، فقد أفهمتهم أن الحضارة الشرقية أصل للحضارة الغربية، وأن الأزهر مصدر العلم الذي ينعمون به الآن ... ولكن هل أستطيع أن أقول لهم: إن نظام الأزهر خير من نظام السوربون، وإن الحصير الممزق الذي يجلس عليه الطلبة هنا خير من الأرائك التي تتكئون عليها هناك، وإن الأحجار المنثورة حول الأزهر، يتعثر فيها الطلبة في الغدو والرواح، أجمل من الحدائق المحدقة بالسوربون يشم شذاها الطلبة في الضحى والأصيل، وإن الكتب المملوءة بالأغلاط، والتي ترد البصر وهو حسير، أنفع من الكتب الممتعة النفيسة التي يقرأها الفرنسيون؟ وهل أستطيع أن أقول: إن جامعة الأزهر في بؤسها الشامل، خير من جامعة باريس في نعيمها السابل؟!
حقا إن فينا من يقنع من المجد بالطلل الدارس، والرسم الطامس، وفينا من يرضى باللفظ وإن باد معناه، ويقنع بالاسم وإن ضاع مسماه، فيا رحمة الله لهذه الأمة الآفلة النجم العازبة الحلم!
7
مشينا ننظر ذات اليمين وذات الشمال؛ لنتبين في وجوه الطلاب دلائل الجد والنشاط، وأنا أعلم أنه ليس للطالب الأزهري مثيل في صبره على أعباء الحياة العلمية، وكذلك راقنا منظر أولئك الجادين في البحث والتنقيب، وسرني أن لهؤلاء الفرنسويين معرفة باللغة العربية حتى لا يصح لديهم أن الكتب التي بأيدي الطلاب تماثل ما في شكل الأزهر من الغلظة والجفاء.
ولقد بدا لنا أن نزور دار الكتب الأزهرية، وكانت الساعة لم تصل إلى النصف بعد الظهر، ففوجئنا بأن المكتبة أغلقت، وأن لا سبيل إلى زيارتها إلا في ضحى الغد؟ فأخذت أفكر في أمر هذه المكتبة التي لا يتمتع بها أحد من الناس، والتي تشبه دار الآثار في أن لا حظ لأحد منها إلا أن ينظر ما اشتملت عليه بدون أن تنالها يمناه، أستغفر الله، بل تشبه الرسوم الدوارس، ليس للمرء من حظ إلا أن يعرج عليها في الغدو والرواح.
8
عدنا في اليوم الثاني مبكرين لزيارة المكتبة الأزهرية، فدخل الزائرون وهم يتحرقون شوقا إلى الوقوف على حركة التأليف عند العلماء، وأخذوا يسألون عن الكتب القديمة والمؤلفات الحديثة، فقلنا لهم: إن هذه المصنفات يغلب عليها القدم إلا بعضا منها؛ مثل كتاب التوحيد للأستاذ الشيخ حسين والي، ولكن الأزهريين لا يعرفون شيئا عنه؛ لأنه في رأيهم قد خلص المسائل العلمية من المناقشات اللفظية، وهم لا يزالون مضطرين إلى طرائق البحث القديمة ليجتازوا الامتحان.
وهنا أكل إليك - أيها القارئ - وصف ما يجده مثلي من الخجل في مثل هذا الموقف، فقد تعرف أن الفرنسويين يعدون الكتاب قديما إذا مرت عليه ست سنوات، وهم لا يرضون عن العالم إلا إذا ترك ثروة علمية، فأما علماء الأزهر فقلما يعنون بالتأليف، وكذلك كانت المكتبة خالية من كل ما يصل بين الماضي والحاضر.
9
كنت رأيت أن لا أتم وصف زيارة أولئك الفرنسويين للأزهر الشريف؛ مجاراة لمن يرون في هذا الوصف خروجا على الأدب ومروقا من الوفاء، لولا أن لقيني بعض العلماء وشرح لي ما في التغاضي عن النقد من الفساد العاجل والكساد الآجل، ورغب في أن أذكر هذه الزيارة بالتفصيل، وأنا أذكر هنا ملاحظة واحدة وأعتذر عن البقية، فإن النفوس لم تتهيأ بعد لأن تتقبل كل ما ينفع، وتتجنب كل ما يضر، وخذ من جذع ما أعطاك.
كان هؤلاء الناس يسألون برفق عما لم يهتدوا إلى فهم معناه، ولقد تعرف أن كل ما في الأزهر يستوقف النظر حتى كأنه كتلة من ألغاز الحياة لا يفهمها إلا من كتب عليه أن يكون جزءا متصلا بهذه الجماعة التي تتكون منها مجموعة الشقاء، وكذلك كنت أعرف مواقع الألم من نفوس الأزهريين، ومواضع العجب من أفكار الفرنسويين؛ لأن التنافر ظاهر بين معاهد العلم هنا وهناك، ولأني أعرف الفرق بين حياتين تتفجر من إحداهما ينابيع الأمل الباسم، والعيش الوادع، وتثور من أخراهما براكين اليأس والقنوط.
ما مررنا بدرس من تلك الدروس إلا وجدنا من بين الطلبة من هجم على رأسه الشيب وانقض على ظهره التقوس، وآذن نجم شبابه بالأفول، ويكاد المسيو فور يتبين بيده ما رأت عيناه، ثم يقبل علي ويقول: أصحيح ما أرى من أن ثلث الأزهريين فارقوا سواد الشباب؟ وهل تجدب أرض العلم عندكم حتى يشيب المرء وهو ينتظر الإزهار والإثمار؟ ومتى يخلص هؤلاء من التحصيل حتى يفرغوا لتعليم الجهال؟
كان يقدم إلي هذه الأسئلة وهو يبتسم، فبدا لي أن أنشده قول ابن الرومي:
شاب رأسي ولات حين مشيب
وعجيب الزمان غير عجيب
قد يشيب الفتى وليس عجيبا
أن يرى النور في القضيب الرطيب
فأخذ يحاورني ويقول: إني لا أشك في أن فيهم من جاوز السبعين، فأقسمت بالله جهد يميني أنهم شباب، وأن نظام الأزهر هو الذي عجل لهم المشيب، ثم هممت أن أذكر له الحديث «اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد»، ولكني لم أشأ أن أدله على أن نظام الأزهر مما يرضى عنه الله ورسوله، وإلا كنت من الخاطئين.
تلكم هي حالنا أيها السادة العلماء، وهذا هو حظنا أيها الإخوة الطلاب، فهل فيكم من فتى نغالب به هذه الشدائد، ونصارع بعزمه تلك النوائب؟ وهل يسمع القائمون بالأمر هذا الصوت الذي بح من طول النداء؟
القلب الذاهب
رويدك أيها القلب
فقد أودى بك الحب
وقد أصبحت لا تسلو
فلو أصبحت لا تصبو
وبين القلب والعين
سجالا كانت الحرب
فتذكيه ويبكيها
لعمرك إنه خطب
لقد أسرفت في حبي
كذلك يفعل الصب
وأصفيت الهوى حبا
له من دله حجب
فمنه الصد والبعد
ومني العفو والقرب
فلو عاتبته يوما
لزاد عناده العتب
وقد راسلته جهدي
فضاعت عنده الكتب
فصبرا أيها القلب
على ما يفعل الحب
فكل مدله خل
وكل معشق خب
فكن يا سيدي برا
بصب ما له ذنب
لئن ضيعتني قلبي
فأنت الروح والقلب
وإن آثرت إبعادي
ولم يشفع لي الحب
فإن عقابكم عدل
وإن عذابكم عذب
أمراضنا الاجتماعية
نادي العفاف
في كل يوم تتألف جماعة، وتتفرق جماعة، والقوم عندنا لا يجتمعون إلا إذا كرثتهم ضائقة مالية أو نضب لديهم معين الثراء، فأما إذا انفرط عقد الأخلاق وتمزق ثوب الشرف وجف ماء الفضيلة، وغربت شمس المكارم، وشاب رأس الوقار؛ فإنهم قلما يحفلون بما يلحق الأمة من خزي الرذيلة ودنس الغواية، وكذلك يعنى ساداتنا وكبراؤنا بما يملأ الجيوب، ويغفلون عما يملأ الرءوس علما والقلوب حلما.
وبعد، فهل سمعت أن فضيلة الشيخ يوسف الدجوي فكر في إنشاء ناد يسمى «نادي العفاف» في أكتوبر سنة 1920؟ أؤكد لك أنه كان شيء من ذلك، ولكن أين هو وأين آثاره، فإذا كان الشيخ الدجوي - في علمه وأدبه وتقاه - يقول ولا يفعل؛ فعلى الدنيا العفاء.
أطباء الشعب
جلس جماعة يسمرون في بعض الأندية، وكان فيهم فتى يشكو ألما في الأمعاء، فبدا لهم أن يسألوه عما يتلوى منه - في أكثر اللحظات - فرأى أن يسألهم هو عن طبيب يصف له - وجها لوجه - ما يقاسيه من علة وما يعانيه من بلاء.
قال قائل منهم لو ذهبت إلى الدكتور فلان لاستأصل منك الداء، وقال آخر: بل الدكتور فلان أبصر بمواقع الأدواء، قال ثالث: فلان خير منهما جميعا؛ لأنه فضلا عن مساواته لهم في الخبرة والكفاءة؛ يمتاز بالتساهل في تقدير متاعب العلاج؛ إذ لا يطلب أكثر من أربعين جنيها في العملية الجراحية، وقد يتسامح فيقبل من الفقير خمسة وثلاثين، فأما صاحب العزة فلان فإنه يأخذ جنيها في كلمة يفوه بها جوابا على سؤال المريض، وقد لا يرضيه الأجر بعد ذلك فيرفض محاربة الداء.
قال صاحبنا - وهو يكاد يتميز من الغيظ: ويحكم! لست أسأل عن هؤلاء، إنما أسأل عن أطباء الشعب، أما من ذكرتم فهم أطباء العائلات، قال بعض الحاضرين: يبدو من هذا الفرق في الوصف أنك خبير بطبقات الأطباء، قال المسكين: لا والله، ولكن سمعت جودت بك يقول لرفيقه فهمي بك: أرسل لي طبيبكم الخاص؛ فقد طردنا طبيبنا بالأمس، فعلمت أن هناك أطباء يطردون كما يطرد الخدم، وغلب على ظني أنهم من هذا الصنف الذي تقولون: إنه «غالي جدا» في تقدير متاعب العلاج، فأما أطباء الشعب فهم أمثال حضرة الدكتور محمد عبد الحي الذي يعالج العمال مجانا، ويمشي بنفسه لإسعاف الفقراء.
حبر على ورق
تسمع أن في مصر أندية، فيبدو لك أن تؤم واحدا من تلك الينابيع التي يتفجر منها العلم والأدب، فلا يكاد يطمئن بك المجلس حتى تعرف أن ليس فيها غير اللهو واللعب، فإذا سألت: ألا توجد محاضرات عامة في الأدب والأخلاق؟ نظر إليك السكرتير نظرة مريبة ثم قال: كيف لا وهذا قانون النادي يحتم على المنتدين إلقاء الخطب والمحاضرات في الآداب والفنون، ثم رجع يقدم لك لائحة فيها ما تشتهي الأنفس من نوازع الآمال وخواطر الأماني، فتعلم أن النادي يقول ما لا يفعل ويكتب ما لا يقول.
وكذلك الحال في الأزهر الشريف (قانون مطبوع على ورق أبيض صقيل، ومواد منظمة كأسنان المشط، وآمال طوال عراض، وحقوق وواجبات، وعقوبات ومكافآت، وإرشادات وملاحظات ومذكرات وتقريرات).
ثم تبحث عن ثمرة ذلك كله في نفوس الطلبة والعلماء فلا تجد شيئا.
التطور الحديث
الابن :
إن هذا النادي المختلط مما يقضي به التطور الحديث.
الأب :
أوكلما جن الأجانب في اللهو والفسوق فصار أحدهم «كالطور» لا يميز بين الضار والنافع جاريتموهم أنتم في هذا «التطور»؟
الابن :
لا تكن يا أبت أضحوكة الضاحك وسخرية الساخر، ها أنا ذا أشرح لك معنى التطور في كلمة وجيزة، كان الناس - فيما سلف - لا يتحولون عما فطروا عليه ولا يخالفون عن أمر الدين والأخلاق، وهذا هو طور الجمود، ثم خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلوات واتبعوا الشهوات، ولهم مع ذلك آمال عظام كالتفوق على الغربيين في الألعاب الرياضية.
وهذا بالطبع مما يقربنا من الاستقلال، فأنا لا أشك في أنك سمعت أن الأجانب يرموننا بالجمود، والتعصب، ولا سبب لذلك غير الوقوف عند حد الشرع وعدم النزول في ميدان الحياة التي تتطلب شيئا من الوقار وأشياء من المجون، وهذا ضروري في تكوين الأمم. ولو أن حضرة الوالد عرف كيف كان نبذ القديم سببا في نهوض الأمم الغربية لأقرنا على هذا التجديد.
الأب :
تشربون الخمر في النادي وقد نهى عنها القرآن، وتلابسون فيها الغادات والغلمان، وتسرفون في الغواية حتى تعودوا كالأنعام أو أضل سبيلا، وتصرون - مع ذلك - على الانتساب إلى آدم وحواء، كلا ثم كلا ليس للتطور معنى إلا أنكم أطوار.
الابن :
هناك فرق يا أبت بين كلمة أطوار، وكلمة تيران، ويظهر أن حضرتك تريد ...
الأب :
اخرس، اخرس (ثم انصرف وهو محزون) .
كلام شرف
في هذا البلد طائفة من أرباب الصناعات تود الإنسانية لو أناخ الدهر عليها بكلكله فعادوا هشيما تذروه الرياح، حتى لا يدنس الشرف المصري بما ينقضون من عهود ويخلفون من وعود.
تنظر إلى ثوبك فتراه وقد آذنت أيامه بالرحيل، فتذهب إلى تاجر مصري لتشتري منه قطعة من القماش تتقي بها البرد، فيقسم بالله والوطن أنه يرضى منك بالربح القليل، حتى إذا نزلت على حكمه أرهقك بالثمن الذي يفزع منه جيبك وتفرق منه دراهمك المعدودة. فإذا قلت له: هذا إسراف، قال لك: كلام شرف، ليس لي من ربح فيما بعته إياك، ثم تذهب إلى الخياط فيعدك بلبسه بعد أسبوع، فتقول: أرجو أن لا تهمل فإن البرد شديد، فيقول لك: كلام شرف، فتعود بعد الأسبوع فيقول لك: تعال في الغد، فإذا نظرت إليه نظرة عتب قال لك من جديد: «كلام شرف»، فتعود في اليوم التالي فيقول لك: تعال بعد ساعة، فإذا غضبت قابل الغضب بمثله وهو يقول: «نحن أناس لنا ذمة!»
تبحث مسألة أو تضم كلمة إلى كلمة، فيبدو لك أن تطبعها في إحدى المطابع، فلا تدخل على مدير المطبعة حتى يبدأك بالتأفف من اختلال الأنظمة الاجتماعية قبل أن تبدأه بالتحية، فيصح لديك أن هذا رجل أمين، ويؤكد ذلك «لطفه» في تحديد الموعد وتقدير النفقات، ثم تعود بعد حلول الأجل فيتفضل عليك بوعد جديد، فإذا قلت: «أخشى المطل»، قال لك: «كلام شرف» ثم يخلف، ثم تعود إلى تأنيبه فيدافعك وهو يصيح: «كلام شرف.»
يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون .
ظالم يتظلم
رمانا الدهر - فيما رمانا به - بقوم يحبون أن يملئوا الدنيا صخبا وشغبا، وعذرهم في ذلك أنهم يحبون الصراحة ويقدسون القول الصريح، ويسمون هذا بالنقد، وإذا أراد امرؤ أن يتوجه إليهم ولو بكلمة نصح استنكروها منه وعدوها مناوأة وحبا للشخصية، فإذا قلت: إني لم أخرج عن الدائرة التي أبحتم لأنفسكم العمل فيما تحتويه. قالوا: ليس لك أن تعمل كما نعمل فإننا نخدم المصلحة العامة وأنت تخدم المصلحة الخاصة. فإن قلت: إني أيضا أعمل للمصلحة العامة، هموا بأن يخرجوا من ثيابهم، وقالوا: إنما أنت من أوساط الناس، وإنما يعمل للمصلحة العامة أصحاب المصالح في البلد أمثال سعادة فلان وفلان، فإذا قلت لهم: إنكم تدورون حول المصلحة الخاصة من حيث لا تشعرون، لووا عنك وجوههم وأصروا واستكبروا استكبارا.
عجيب أمر هؤلاء، لا يعملون ولا يتركون الناس يعملون، يبسطون ألسنتهم فيمن هم أطهر منهم ذمة، ثم إذا لمح إليهم كاتب ببعض سيئاتهم القديمة تدرعوا بسيئاتهم الحديثة، فيا عجبا هل يستر القار بالقار، أو يكشف الظلام بالظلام؟
تحية!
تجمل بالسماح ودع ملامي
وكن عون المحب المستهام
ففي «أسيوط» لو تدري حبيب
هجرت لبعده طيب المنام
أسيت له يحن إلى لقائي
ودون مرامه كيد اللئام
إذا ما الليل جن ونام صحبي
مشت نار التذكر في عظامي
سلام أيها النائي سلام
وهل يغني عن اللقيا سلامي
لوعة!
لأصبحت نهب الأسى والحزن
لجسم أقام وقلب ظعن
فيا ويحهم يزمعون الرحيل
وما زودوني سواء الشجن
دموع تحدر فوق الخدود
كصوب الغمام إذا ما هتن
وقلب يقلب بين الضلوع
بعيد القرار فقيد السكن
وأصبحت الرأس مرعى المشيب
قليل السرور كثير الحزن
لعمري لئن شبت قبل الأوان
لقد شاب حظي وشاب الزمن
كأن الشعور عراها البياض
سهام الردى أو خيوط الكفن
وأنكى عدوك في النائبات
عدو تقاصر عنه الجنن
وإن الشباب إذا ما انقضى
لكالحلم أقلع عنه الوسن
ليالي الاعتقال
حضرة الأخ أنيس أفندي ميخائيل
وصل خطابك البديع، بعد عشرين يوما قضاها تحت أثقال الرقابة، ولم يصلني قبله في معتقل «سيدي بشر» غير خطاب الأخ الشيخ عبد المجيد زهران، فما أوفاه يا صديقي وما أوفاك.
سأضرب صفحا عن الدمعة التي سكبتها على القرطاس؛ لأن مثلي لا يبكى له، ولا يبكى عليه، وإنما خلقت لأكون مثلا في الشمم والإباء. ولو كان بي حب الدعة والطمأنينة لما مكثت في المعتقل هذه الشهور الطوال، فقد فكر القوم في مساومتي لأول لحظة وطئت فيها ثكنة قصر النيل، ولكني أقذيت عيونهم؛ حين أريتهم كيف يطيب الشقاء في سبيل البلاد، وأقسم لو سلم المصريون جميعا وخرج مصطفى كامل من قبره فصافح الإنجليز؛ لما كان في ذلك ما يزحزحني قيد أنملة عن معاداتهم حتى يكون الجلاء وأعيذك أن تحسب أن جلاءهم عن مصر إن تم ونحن أحياء ينسينا ما فعلوا بنا وبأهلينا منذ كان الاحتلال.
أترك ذلك، وأحدثك عما يجول بصدري في هذه الظلمات، أنا حزين يا أنيس، وكيف لا أحزن وفي المعتقلين أنفسهم أنصار لمشروع ملنر الذي يعرضه الآن أعضاء الوفد بين التصفيق والهتاف، يا ويلتاه! حتى المعتقلين المعذبين يصدقون بأن إنجلترة منحتهم الاستقلال! متى تتم هذه الألعوبة فأخرج من بين هذه الأسلاك لأساعد الحزب الوطني في الغارة الشعواء التي شنها علي أولئك الشياطين الذي مكنتهم الليالي من ناصية هذا الشعب الوديع.
ليست إنجلتره هي العدو الوحيد للأمة المصرية، بل هناك عدو آخر لا يزال يبطش بالأمة غير وان ولا راحم، ألا وهو الجهل، هذا هو العدو اللدود الذي تستعين به إنجلتره لاغتصاب وادي النيل، ولولاه لما رحب المرحبون بأعضاء الوفد حين جاءوا لعرض مشروع ملنر، بل لولاه لحقت على هؤلاء كلمة العذاب، وسأعرف ما أصنع حين أعود إلى القاهرة - ولو بعد حين - سأعرف كيف أحارب الجهل، وكيف أصب الصواعق على رءوس من يستغلون جهل الأمة فينالون به ما لهم من سيئ الأغراض، ومنكر الشهوات، والله بصير بما يعملون.
تسألني عن ليالي الاعتقال، وأجيبك بأنها ليال سوداء، لا فرق بين أنصافها والسرار، ويكفي أن أذكر لك أن هذه الليلة ليلة العيد، ومنذ لحظة كان الأستاذ الشيخ عبد الباقي سرور يبتسم ويقول: لقد استرحت هذه الليلة من أولادي، فما يفك عمامتي أحد، ولا يضحك من صلاتي إنسان.
وكان الشيخ محمد يوسف يرفأ قميصه وهو ينشد قول ابن الأحنف:
رحمتا للغريب بالبلد النا
زح ماذا بنفسه صنعا
فارق أحبابه فما انتفعوا
بالعيش من بعده وما انتفعا
وكان الشيخ شافعي البنا يلاعب الشمعة وهو يتغنى بقول المتنبي:
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد
أما الأحبة فالبيداء دونهمو
فليت دونك بيدا دونها بيد
أما أنا فكنت أترنم بقولي:
ليالي النيل واللذات ذاهبة
وجدي عليكن أشجاني فأضناني
لو يرجع الدهر لي منكن واحدة
في سنتريس ويدني بعض خلاني
إذا تبين دهري كيف يرحمني
من ظلم همي ومن عدوان أحزاني
وبمناسبة سنتريس أذكر أني أرسلت خطابا للأخ الشيخ أحمد الدكروري أصف به شوقي إلى مغاني ذلك البلد الجميل، أين أنا من سنتريس؟ وأين مني سنتريس؟
بلد صحبت به الشبيبة والصبا
ولبست ثوب اللهو وهو جديد
فإذا تمثل في الضمير رأيته
وعليه أغصان الشباب تميد
حسبك هذا يا أنيس، ولا تنس أن تزور الشيخ عبد العزيز صقر، وأن تكاتب الأخ العزيز محمد أفندي محمود حسين، فأما الشيخ علي مبارك فسأعرف كيف أناقشه الحساب.
وأعود إلى الثورة الخطيرة التي تشب في جوانحي كلما فكرت فيما يعمل الإنكليز لقهر الأمة المصرية، لبيك يا مصر، لن تموتي ونحن أحياء.
ملحوظة:
لا تذكر لأحد كيف وصلك هذا الخطاب فتشتد الرقابة على المعتقلين المعذبين.
حرقة ولوعة
أنت الذي علمتني
يا سيدي بر الصديق
وتركتني في فتية
ما فيهمو بر رفيق
لم ألق بعدك منهمو
إلا الجفاء أو العقوق
حتى كأني لم أبت
منهم على عهد وثيق
وكأنهم لم يبصروا
في خلتي الحر الصدوق
فنسوا هواي ولم يفق
من ودهم قلبي المشوق
ونسوا طريف حديثنا
عند الصبوح أو الغبوق
ليت الهوى ما قادني
يوما إلى ذاك الطريق
أو ليتني لم أنخدع
جهلا بهاتيك البروق
بل ليتني بعد الذي
عانيت من صحبي أفيق •••
مولاي لو أبصرتني
لفزعت من دمعي الطليق
وشجاك جسمي ناحلا
وكأنه الطيف الطروق
أشكو إليك وإنما
يشكو المضيم إلى الشفيق
فارحم فديتك مهجة
أودى بها الحزن العميق
حزن يقطع في الحشا
فكأنه غدر الصديق
يا ويح قلبي لم يزل
يهفو به الروح الخفوق
وتقوده الذكرى إلى
عهد الهوى الغض الرفيق
أيام نمرح في الصبا
في ذلك العيش الأنيق
أيام نسقى في الهوى
والود كأسا من رحيق
تلك الليالي لم تدع
من بعدها حسنا يروق
كلا ولا خلت لنا
إلا الزفير أو الشهيق
مع الصورة
ولما عزني في الحب دهري
وأرغمني الزمان على نزوحي
ولم أعرف لرؤيتكم سبيلا
بعثت بصورتي من بعد روحي
ظلم العواطف
قيل لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أتقول الشعر في فقهك وورعك، فقال: لا بد للمصدور أن ينفث، وكان عبيد الله من وجوه الفقهاء الذين روي عنهم الفقه والحديث، وهو أحد الفقهاء السبعة من أهل المدينة، ومن شعره:
شققت القلب ثم ذررت فيه
هواك فليم فالتأم الفطور
تغلغل حب عثمة في فؤادي
فباديه مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شراب
ولا حزن ولم يبلغ سرور
إن الناس يجلون الفقهاء عن قول الشعر ولا سيما النسيب، ويرون بعدهم عنه وبراءتهم منه؛ من متممات فضلهم ومكملات مجدهم، وكان ذلك ظلما للعواطف وقتلا للشعور؛ فإن لبعض أولئك قلوبا نزاعة إلى الحسن، ونفوسا عشاقة للجمال، ومنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر وما جنحوا إلى السلوان.
ولئن خرج عبيد الله على الجفاة من معاصريه، فقال في الغزل ما قال، فإني لأحسبه كتمنا كثيرا من شجونه، وضن على الشعر بمكنون صدره مداراة للعامة من جيرته، والسذج من عارفيه، فإن الخوف من صغار العقول، والهرب من ثرثرة السفلة، لم يسلم منه نابه، في عصر من العصور أو قطر من الأقطار.
إن الأبيات القلائل التي نقلها الرواة إلينا من شعر عبيد الله لتحدث عن صبابة وتسفر عن غرام، ولو أن الرجل أوتي من قوة الإرادة وشجاعة الفؤاد ما يشرح به هواه ويمثل به خواطره لكان له من المواقف الحسان والمشاهد المبجلة ما يضمن له الخلود في الشعر الوجداني من عالم الآداب.
إن ظلم العواطف حرمنا كثيرا من نفثات الشعراء، وجعلنا نتصيد طرائف الشعر الوجداني من هنا وهناك، ثم لا نجد ما ينقع الغلة، ويشفي النفس؛ لما في أكثره من التلون المذهب للعاطفة، المميت للشعور.
ولو أن ذلك كان وقفا على الفقهاء لتجملهم بالزهد أو النساء لتحليهن بالعفاف؛ لهان الأمر وسهل، ولكنا وجدنا في أشهر الشعراء بالظرف وأعرفهم بالخلاعة من يمنون بالنهاة من أهلهم، فينزلون عند حكمهم ويصدعون بأمرهم فيتناسون الهوى ويصدفون عن الغرام.
هذا عمر بن أبي ربيعة، كان من أجرأ الناس على إذاعة هواه، وأبعدهم صيتا في الغواية، وطاعة الشباب، ثم ما برح أخوه الحارث يعظه وينهاه، حتى كان من ذلك أن أعطاه ألف دينار على أن لا يقول شعرا، فقال: «أما ما دمت بمكة فلا أقدر، ولكني أخرج إلى اليمن.» فلما سار إلى هناك لم تدعه نفسه وقول الشعر، فقال:
هيهات من أمة الوهاب منزلنا
إذا حللنا بسيف البحر من عدن
واحتل أهلك أجيادا فليس لنا
إلا التذكر أو حظ من الحزن
لا داركم دارنا يا وهب إن نزحت
نواك عنا ولا أوطانكم وطني
يا وهب إن يك قد شط البعاد بكم
وفرق الشمل منا صرف ذا الزمن
فكم وكم من حديث قد خلوت به
في مسمع منكمو أو منظر حسن
بل ما نسيت ببطن الخيف موقفها
وموقفي وكلانا ثم ذو شجن
وقولها للثريا يوم ذي خشب
والدمع منها على الخدين ذو سنن
بالله قولي له في غير معتبة
ماذا أردت بطول المكث في يمن
إن كنت حاولت دنيا أو نعمت بها
فما أخذت بترك الحج من ثمن
ويذكرون أن أخاه لما سمع هذا الشعر يئس من صلاحه وقال: قد فتك أخي وغدر.
والذي أراه أن عمر بن أبي ربيعة، ما كان له أن يذهب إلى اليمن، دفعا للوم أخيه فحسب، فإن الرجل طالما نهاه النهاة فلم ينته ولم يرجع، وكان بينه وبين أخيه ما يشعر بتهاونه بنصحه، وسخريته من عذله، بدليل ما يذكرون من أخذه ألف دينار من أخيه، في حين أنه كان من أكثر الناس مالا ووفرا، وأعظمهم تيها وكبرا، ولكن الرجل كان يحاول أن يتناسى صبابته، ويتغاضى عن هواه، حتى كان من أمره أن حلف لا يقول بيتا من الشعر إلا أعتق رقبة، نهيا للنفس عن الهوى، وكبحا لها عن الغواية وكان من المسرفين.
فر ابن أبي ربيعة إلى اليمن ليبعد عن ملعب صباه، ومرتع شبابه، فيودع بذلك الشعر، ويسرح النسيب، ثم غلب على أمره فقال نونيته السالفة طوعا لأمر الفؤاد.
كان ابن أبي ربيعة من أصبح الناس وجها، وكان عشقه شبيها بعشق الملوك، لتهافت الغواني عليه، والتفاف النساء حوله، فكان شعره لذلك ضائعا بين الأوصاف الظاهرة، والمحاسن البادية، فلا ترى له حسرة على فائت، ولا لهفة على مأمول، فلما صوح شبابه، وحان منه التذكر، نضب معين شعره، وتهدجت صبابته، برا بذلك القسم، ونزولا عند حكم المشيب، فكان نصيبه من الشعر الوجداني ضئيلا، لما ظلم عاطفته، وعق وجدانه وكان من القاسطين.
أنا لا أبخس ابن أبي ربيعة حظه من الشعر الوجداني، ولا أبعد أن يكون في ديوانه من هذا النوع شيء كثير، ولكني أقول: إن الرجل الذي يبهر الناس شعره في مجالس الأنس، ويروقهم حديثه عن اللهو واللعب، لجدير أن يقرح أجفانهم، ويفتت أكبادهم، لو بكى عهوده السوالف ومعاهده المقفرات.
ولكن أبى الجد العاثر إلا أن توضع هذه الأغلال في أعناق الشعراء فيمسون كالبلابل الموثقة الحبيسة، لا تستطيع التغريد، ولا تملك الترجيع.
وما عسى أن يكون حزن بشار وبثه، وقد نهاه المهدي عن التشبيب، وحال بينه وبين ما يشتهي من الغزل، ومداعبة النساء.
وإني ذاكر لك مثالا مختارا من شعره فيما يتعلق بالعواطف، ويختص بالوجدان، حتى تعرف أي خطب ألم بالشعر الوجداني، فأصبح ضئيلا في شعر هذا الرجل الكبير ، قال:
أيها الساقيان صبا شرابي
واسقياني من ريق بيضاء رود
إن دائي الظما وإن شفائي
شربة من رضاب ثغر برود
ولها مبسم كغر الأقاحي
وحديث كالوشي وشي البرود
نزلت في السواد من حبة القل
ب ونالت زيادة المستزيد
ثم قالت نلقاك بعد ليال
والليالي يبلين كل جديد
عندها الصبر عن لقاي وعندي
زفرات يأكلن قلب الحديد
لا أبالي من ضن عني بوصل
إن قضى الله منك لي يوم جود
فإنك لتبصر من خلال هذا الشعر، رجلا صادق الحب، متين الصبابة، ألح عليه ساقياه بالراح، فتعفف عنها، لا زهدا فيها، ولا نفورا منها، ولكن ذكرى حارة، ولوعات دخيلة، هاجت بصدره، وثارت بلبه؛ إذ ذكر صهباء الثغر ممن يهوى، وخمر الريق ممن يحب.
شغل الشاعر عن الراح بما ذكر من محاسن محبوبه، ولطائف معشوقه، فأخذ يذكر ما فعل الحب بقلبه، ونال الهم من نفسه.
نأسى عليكم إذا حثت مشعشعة
فينا الشمول وغنانا مغنينا
لا أكؤس الراح تبدي من شمائلنا
سيما ارتياح ولا الأوتار تلهينا
كان بشار من أظرف الناس غزلا، وأبدعهم نسيبا، ولكن قضى الله أن يحول المهدي بينه وبين التشبيب، فيضيع بذلك الشعر الوجداني من هذا النوع، فيما عسى أن يقول في ذكرى لياليه الخوالي، وعهوده السوالف، وقد ختمت زفراته المحرقة، وعبراته المغرقة، بكلمته الآتية:
يا منظرا حسنا رأيته
من وجه جارية فديته
لمعت إلي تسومني
ثوب الشباب وقد طويته
والله رب محمد
ما إن غدرت ولا نويته
أمسكت عنك وربما
عرض البلاء وما اتقيته
إن الخليفة قد أبى
وإذا أبى شيئا أبيته
ويشوقني بيت الحبي
ب إذا غدوت وأين بيته
قام الخليفة دونه
فصبرت عنه وما قليته
ونهاني الملك الهما
م عن النساء فما عصيته
بل قد وفيت ولم أضع
عهدا ولا رأيا رأيته
ثم انقضت حياة بشار الودية، وما عدت تسمع له غير أبيات فاترة في الأسف على ما حيل بينه وبين هواه، فنال اليأس من قلبه، والقنوط من ضميره، وعاد من الهالكين.
ولقد نال أبا نواس إمام الشعراء في وصف الخمر، ما نال بشارا إمامهم في وصف النساء، فقد نهاه الأمين عن شربها وحبسه ابن أبي الفضل من أجلها، ثم كلم فيه، فأخرجه على أن لا يشرب خمرا، ولا يقول فيها شعرا، فطالت حسراته وكثرت زفراته، ثم قال:
أيها الرائحان باللوم لوما
لا أذوق المدام إلا شميما
نالني بالملام فيها إمام
لا أرى لي خلافه مستقيما
فاصرفاها إلى سواي فإني
لست إلا على الحديث نديما
جل حظي منها إذا هي دارت
أن أراها وأن أشم النسيما
فكأني وما أزين منها
قعدي يزين التحكيما
كل عن حمله السلاح إلى الحر
ب فأوصى المطيق أن لا يقيما
وتعرف أن أبا نواس إن نهي عن الخمر فقد لا ينتهي، ولكنه لا بد مقلع عن وصفها؛ طاعة للإمام، وفي ذلك يقول:
عين الخليفة بي موكلة
عقد الحذار بطرفها طرفي
صحت علانيتي له وأرى
دين الضمير له على حرف
ولئن وعدتك تركها عدة
إني عليك لخائف خلفي
نهي أبو نواس عن الخمر فشربها سرا، ولكنه جامل الإمام بترك نعتها، والتحدث عن وصفها، فأصاب الأدب ما أصابه، وغشي الشعر ما غشيه، فإن أبا نواس - فيما أرى - أول الناس وآخرهم، في وصف الراح والسقاة.
ولو لم يقف في سبيله الأمين لأبان لنا من مذاهب القول، وطرق البيان ما كنا في حاجة إلى بعضه، ولكن الزمان للأدب ظلوم قهار.
ليس وصف الخمر والندامى، والكئوس والسقاة، ضربا من الشعر الوجداني، فإنها أوصاف محسة، ترجع في جملتها إلى ما ترى العين، ويذوق اللسان، ولكن طبع أبي نواس ومهارته، جعلا لتلك المعاني الخمرية صبغة خاصة، تشبه أن تكون من عمل القلب، وصنع الضمير.
قل شعر عبيد الله لما تخوف الجمهور، ونضب شعر ابن أبي ربيعة لما نهاه أخوه وذهبت لطائف بشار في الغزل لما منعه المهدي، وحرمنا بدائع أبي نواس في الخمر لما زجره الأمين.
فكان ذلك مما أوجب فقر الآداب العربية، وجعل حظ الشعر غاية في الضئول ونهاية في الخمود.
فيا ليت شعري أتشمل الحرية الأدب وتنتظم الشعر ، أم يعيش الشعراء أسرى الأوامر العالية، والزواجر الطاغية أبد الآبدين، ودهر الداهرين؟
كلمة
عن موشحات حضرة الزميل الشيخ محمد إبراهيم الجزيري:
مقطعات حسان
كفاتنات الخدود
كأنهن الغواني
يمسن في يوم عيد
أو خاطرات الأماني
يزرن قلب عميد
ما أجحد القلب إن لم
يحيها بالسجود
وأظلم الدهر إن لم
يجد لها بالخلود
الأمل الضائع
تأيمت حتى لامني كل صاحب
رجاء سليمى أن تئيم كما إمت
لئن بعت حظي منك يوما بغيره
لبئس إذا يوم التغابن ما بعت
كنت أصبر على بأساء الحياة، وأحتمل ما فيها من هم وغم، لو أن عندي بقية من الأمل أرفه بها أحزاني، وأدفع بها آلامي، ولكن حال القنوط دون الرجاء، وأتى اليأس دون الطمع، فلم يبق غير الجزع من مسعد ولا سوى النوح من شفاء.
فيا جيرة ما كان أهنأ وردهم، وأطيب عيشهم، ويا أحبابا ذقت الفرح بقربهم، وعرفت الهم لبعدهم، ويا من أفناني فراقهم وكان أحياني لقاؤهم، بربكم ما الذي لقيتم بعدي؟ فقد لقيت بعدكم ذلا وهوانا، وظلما وعدوانا، ومن عسى أن يكون قد ظفر بودكم، ونعم بحسنكم، فأصفاكم من الحب أجمله، ومن الأنس أكمله؟ فقد صحبت بعدكم من جحد نعمتي، وأنكر خلتي، ومن سقيته الشهد فسقاني الصاب، ومن أوليته القرب فأولاني القطيعة.
فيا ليت شعري من ألوم، أألوم نفسي على أن لم أعق في بركم أهلي وأخزاني، فأسير حيث سرتم، وأقيم حيث أقمتم؟
تفرق أهلي من مقيم وظاعن
فيا ليت شعري أي أهلي أتبع
أقام الذين لا أبالي فراقهم
وشط الذين بينهم أتوقع
أم ألومكم على أن تركتموني وحيدا وآثرتم وطنكم وأهلكم، ولم تبالوا بمن خلفتموه طريح حزنه، وأسير همه؟ أم ألوم قوما جعلتهم منكم بدلا فكانوا شر بدل، واتخذتهم من بعدكم ذخرا فكانوا كالهباء ورجوتهم حصنا أتقي به الدهر الخائن، والزمن الجائر، فإذا هم أذل من قراد بمنسم، وإذا المتفيئ ظلهم، والراجي برهم، يطمع في غير مطمع، ويلجأ إلى شر وزر؟
أم ألوم دهرا اضطركم إلى الرحلة فرحلتم، وحكم علي بالمقام فأقمت، ثم أمدنا من اليأس لبعد الدار، وشط المزار، ما جعل الأمل في التلاقي خائبا ورجاء التداني كاذبا؟
وقلما أبقي على ما أرى
يوشك أن ينعاني الناعي
ما أقتل اليأس لأهل الهوى
لا سيما من بعد إطماع
ما هذا الذي صنعتم؟ أخضعتم لليأس، وأذعنتم للقنوط، ولم ترهبوا العتاب؛ إذ لم تأملوا اللقاء، فزففتم تلك الشمس إلى غيري، وآثرتم بها سواي.
يا عز إن ضاعت عهودي عندكم
فأنا الذي استودعت غير أمين
أو عدت مغبونا فما أنا في الهوى
لكمو بأول عاشق مغبون
غلب اليأس عليكم فمللتم - ولا وفاء لملول - فكان منكم ما أقض المضجع، وأورث الجفن السهاد، فهل تعلمون ما صنع اليأس بنا، ونال القنوط منا؟ ولكن هيهات بعد اليوم أن ينفع العزاء.
هي الغاية القصوى فإن فات نيلها
فكل منى الدنيا علي حرام
تحت صورتي
ولما صار ود الناس ختلا
وأوحش ربعهم من بعد أنس
ولم أظفر على جهدي بحر
تركت هواهم وعشقت نفسي
في يوم العيد
إن الذي رد يوسف إلى يعقوب بعد أن ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم، والذي بشر زكريا بيحيى بعد أن بلغ من الكبر عتيا، والذي من على إبراهيم بولديه إسحاق ويعقوب، بعد أن شاخ ويئست زوجه؛ ليقدر على إمتاع أرواحنا برجع أيامنا، وإيناس قلوبنا بعودة أحبابنا.
وقد يجمع الله الشتيتين بعد ما
يظنان كل الظن ألا تلاقيا
هذه الشمس تشرق بعد غروبها، وهذا القمر يطلع بعد أفوله، وهذه الأشجار تخلع ثيابها في أواخر الخريف، وتلبس في أوائل الربيع ثيابا أروع وأنضر، وهذه السيوف يغشاها الصدأ فيكسوها زرقة وسوادا، ثم يعتادها صقالها فيعود لها بريقا ولمعانا، وهذه الغدران، تجف حينا، ويطغيها الحيا حينا، وها نحن أولاء نتشوف إلى عهودنا السوالف وأيامنا الخوالي.
أما يرحمنا الله فيجمع شملنا، ويرجع أنسنا، فنصبح في سلام آمنين؟ أوليس الذي من علينا بتلك العيشة الراضية، وهذه النعمة الضافية، بقادر على أن يعيدها ضاحكة باسمة، واضحة حسانة؟ بلى، وهو الرءوف الرحيم.
لقد كنت أخلدت إلى اليأس لولا أني رأيت فضل الله أوسع من أن لا ينالني منه غير تلك الأيام القلائل، ورأيت الله أعدل من أن يحكم علي بالشقاء الطويل في الهجر المديد، وعرفته - سبحانه - أكرم من أن يخيب السائل ويغفل دعاء المضطر.
فيا رب يا رب.
إن بين الحشا لهيب اشتياق
ليس يطفي جواه إلا التلاقي
فإن لم تدركني بقربهم ...!
فيا رب إن أهلك ولم ترو هامتي
بليلي أمت لا قبر أعطش من قبري
إنني ما جحدت نعمتك يوم رزقتني بهم، ولا جهلت حكمتك يوم أقصيتهم عني، وها أنا ذا أنتظر فضلك وطولك في ردهم إلي وعطفهم علي.
فلولا الثقة برحمتك، والإيمان بإحسانك لذهبت النفس عليهم حسرات وقطع القلب في آثارهم قطعا.
ولولا رجاء القلب أن يذهب النوى
لما حملته بينهن الأضالع
وأنت أيها العيد، أين مثيلك منذ خمس سنين؟!
لغيري حسنك وجمالك، ولي فيك البكاء والنحيب.
الشباب والمشيب
تمنى أناس أن يدوم شبابهم
وإني لأهوى أن يعجل لي شيبي
أخاف على نفسي العثار لأنني
رأيت الشباب الغض رينا على القلب
وما أنا راض أن تكون شبيبتي
طريدة قلبي إن بكيت على ذنبي
أهم بتأنيب الشباب وذمه
ليرحل محمودا فيمنعني صحبي
دعوني أهن خلا إلى الغي ساقني
فشرد من نومي وضاعف من كربي
بحسبي أني لا أزال مروعا
أبيت على هم، وأغدو على عتب
ولم تك نفسي كالنفوس يشوقها
سفاه الصبا بين المدامة والشرب
ولكنها نفس تحن إلى العلا
حنين الحوامي الهيم للخصر العذب
أفي الإنجليز مسلمون؟
إلى الأستاذ زكي مبارك
جاء في العدد 60 من صحيفة الأفكار الغراء: أن المستر بكتال أحد أحرار الإنجليز المسلمين ... إلخ، فهل في الإنجليز مسلمون؟ أو ما معنى ذلك؟
محمد قاسم
بشارع رأس التين بالإسكندرية
إن كنت تريد مسلما ينصر الحق، وينجد الصدق، فيعق أهله في بر الفضيلة ويمقت قومه إن صفقوا للرذيلة، فذلك ما لا تجود به الديار الأوروبية ولا تسمح به الأصول السكسونية، فغض الطرف عما هناك، وخذ من جذع ما أعطاك.
وإن كنت تريد مسلما ينصر الدين بقوله ، لا بفعله، ويحارب الظلم بلسانه، لا بسنانه، فإنك واجد آلافا من الإنجليز، ومئات من الفرنسيس
وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون * الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون . •••
في الغرب ملحدون، وفي الغرب مؤمنون، ولكنهم لا يكفرون إلا لتكفروا، ولا يؤمنون إلا لتغفلوا، فحذار من كفرهم؛ فإنه رذيلة، وحذار من إيمانهم؛ فإنه حيلة.
أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين .
ليالي سنتريس
ليالي النيل واللذات ذاهبة
وجدي عليكن أشجاني فأضناني
لو يرجع الدهر لي منكن واحدة
في سنتريس ويدني بعض خلاني
إذا تبين دهري كيف يرحمني
من ظلم همي ومن عدوان أحزاني
كم ليلة لي بذاك النهر سالفة
قضيتها بين غادات وولدان •••
وذي دلال هو الدنيا وزينتها
يردي الأسود بطرف منه نعسان
كأنما فعل عينيه بعاشقه
فعل المدامة في أعطاف نشوان
شربت من ريقه راحا مشعشعة
بخالص الود لم تمزج بسلوان
وكم حبيب براح الريق أسكرني
وكم جميل بورد الخد حياني •••
يا موقد النار في صدري مؤججة
وقاطنا بين أنهار وريحان
عرج علي فما نفسي بصابرة
على نواك وما طرفي بوسنان
مع الصورة
سكنت إلى النوى ونسيت صبا
نحيلا كاد يقتله الحنين
فلما لم يجد في الحب صبرا
ولم ترحم جوانحه الشجون
تفانى في النحول فلو تبدى
لما فطنت لخطرته العيون
وها هو كالخيال أتاك يسري
مخافة أن تظن به الظنون
فأكرم نزله وارحم ضناه
فإن فؤادك الحرم الأمين
في السياسة المصرية
لم نكن من الذين أدهشتهم الحوادث الأخيرة؛ لأننا لم نعتزم الجهاد إلا ونحن موقنون بأنه شاق طويل، ولطالما نهينا أولئك الذين كانوا يسرفون في الإبراق إلى الأمة بالبشرى تلو البشرى، كلما لاحت لهم ابتسامة من اللورد ملنر أو اللورد كرزون؛ ظنا منهم أنها ابتسامات أبوية أو أخوية لا تصدر إلا عن رغبة خالصة وقلب سليم، وما دروا أن للسياسة طرائق كطرائق الثعابين مشعبة معبدة، يحسبها الناظر أخاديد الماء الجاري، وهي مملوءة بالسم الزعاف.
حقا إننا لم نفزع من هذه الشدائد ولم تزدنا إلا يقينا بما وطنا عليه النفس منذ البداية، من أن المطلب العظيم يتطلب الجهد العظيم، ولو أننا استغربنا هذه الآلام المجددة لكان مثلنا مثل الجندي الذي يدخل الميدان وهو باسم، حتى إذا رأى بريق السيوف وسمع دوي المدافع، انقلب على عقبيه وهو يقول: لقد كنت أحسب الحرب لعبة جميلة، وكنت أظن النصر نتيجة لخطوة أو خطوتين في الميدان!
كان هذا مثلنا لو أننا حسبنا العمل للاستقلال لا يزيد عن عرض القضية هنا أو السمو بها إلى المفاوضة في وزارة الخارجية البريطانية، حتى إذا عبس الخصم بعد أن ابتسم، وخشن بعد أن لان، ضاقت علينا الأرض بما رحبت وظننا أن باب الجهاد أغلق، ثم نكصنا على الأعقاب.
أجل لقد كان من البلية أن يكتب في السياسة من يحاج خصومه بقوله: بيننا وبينكم شهر أكتوبر، فيا عجبا! أكان الاستقلال قطعة من القماش وصى بها ذلك الكاتب تاجرا من تجار لندن، فهي آتية في أول سفينة تقلع من هناك؟
والآن بعد أن تبين الرشد من الغي لا نجد بدا من النصح لقصار النظر، وضعاف العزائم، بأن يخلوا الطريق للسابقين الأولين من أساطين الوطنية وأبطال الجهاد؛ فإن الأمة لا تحتمل أكثر مما احتملت من «العمليات الجراحية» التي تولاها المبتدئون في علم التشريح.
إن الوطن في مجموعه كالجسم، فكما لا يستطيع امرؤ أن يصبر على من يحاول قطع رأسه أو بتر رجله، فكذلك لا تستطيع الوطنية المصرية أن تستسلم لمن يحاول التفريط في السودان أو قناة السويس. فليت شعري أي غاشية تلك التي قضت بأن ينسى السودان في المفاوضة الأولى والمفاوضة الثانية؟ وأي بلاء ذلك الذي طم حتى ساغ أن تصبح الأرض المصرية وكأنها ضيعة لبعض الناس يتصرف فيها متى شاء وكيف شاء؟
ألا فليعلم كل مشتغل بالقضية المصرية أنه لا يكتب لنفسه ولا لنظرائه، بل هناك شبان وأحداث ينطبع في نفوسهم ما يقرءون، فما أفظع الجرم الذي يجترمه الكتاب المولعون بنشر الدعوة إلى الرضى بالواقع، والقناعة بما يتناثر من موائد الاحتلال، إنهم يفسدون في كل يوم آلافا من النفوس التي كانت تصبح نفوس أبطال لو سلمت من وساوس الداعين للخذلان، ويدخلون اليأس في قلوب كانت لولاهم حافلة بالأماني والآمال. وعذر هؤلاء في أنفسهم أنهم يريدون أن يعيشوا وأن يظهروا. فيا للفضيحة، ألأجل أن تظهر جماعة بمظهر القوة والجاه مثلا تبدد الملايين من سكان وادي النيل بفضل التغرير والتضليل؟!
لقد جربنا هذه الأمة فوجدناها أسلس الأمم قيادا إذا وثقت بالقواد، ولم ننس تلك الأيام التي هدى الله فيها بعض النفوس، فانحازت إلى الداعين إلى مقاطعة ملنر من القائلين بدولية القضية المصرية، وكانت نتيجة تلك الدعوة أن خفت صوت الرضائيين ومن تسميهم السياسة اليوم بالمعتدلين، وظهرت الوطنية جليلة مهيبة وقفت بجانبها الجرائد الإنجليزية المحلية، تطيل الأنين والعويل.
ثم قدم ملنر وهو مستخف بالليل لم يبشر بقدومه البرق، ولم يعلن لمجيئه استقبال، وتجنب السائحون الإنجليز زيارة الأحياء الوطنية، لئلا يظن أنهم من حاشية اللورد ملنر فترتفع إليهم الأبصار الشواخص، ثم مكث اللورد بيننا أياما ظن فيها أن مصر بمائها وهوائها وسمائها وأرضها، ليست إلا مصرعا للظلم والاستبداد، وقد فزع إلى النيل يغدو فيه ويروح ليذهب عن نفسه اليأس والقنوط، فلم يكن النيل أرأف به ولا أرحم، فانقلب إلى أهله وهو حزين.
تلك أيام خلت، سنعيدها جذعة إذا استطعنا أن نقي شجرة الوطنية تلك الهمزات القديمة التي نخشى إن تكررت اليوم أن تحلحل الجذع، فإذا هو طريح، ونحن الذين كنا شجى في حلق الاستعمار حتى لم يزدرد ماء النيل، وهو سائغ الشراب؛ سنظل على ما عهد فينا من وطنية تضرب بها الأمثال حتى نلف في أكفاننا أطهارا أبرياء، لم يسمع منا الغاصب كلمة لينة، ولم يظفر منا بالتنازل عن شيء من الحق كثير أو قليل، وإذا وجد من الناس من يظن أن المجد كل المجد في أن يوقع على وثيقة يجري ذكرها في الأندية السياسية هنا أو هناك، فيحسب من رجال التاريخ وهو لو يعلم عبد ذليل؛ فإننا نؤمن من أعماق القلوب بأننا ما خلقنا لنشقى في سبيل السعادة القومية، ونزيد إيمانا بوجودنا الصحيح كلما أحاقت بنا الرزايا في هذا السبيل، وستظل قلوبنا كالزهر يبتسم كلما بكت من فوقه السماء، ولن يكون اغتباطنا بالبلايا قاصرا على البلايا التي يصبها علينا المستعمرون، بل ستظل قلوبنا مفتوحة لمثل ما تحملناه أيام المعارضة في مشروع ملنر من التهم المختلفة التي رمانا بها فريق من الذين انخدعوا بالوعود الكواذب، وسنقول وقتئذ ما قاله خاتم الأنبياء: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون.»
أين صفو الشباب؟
خليلي كفا من ملامكما عني
فإني أرى الأخطار قد بلغت مني
تريدان مني صبوة عامرية
ونشوة وضاح الأسارير مستغن
لقد كان هذا والشباب مشفع
لدى البيض والأيام غافلة عني
ألا رب ليل بت فيه منعما
بلينة الأطراف ساجية الجفن
تدار على الراح من لحظاتها
فسكر بلا خمر وخمر بلا دن
لعمري لقد أقصرت عن عبث الصبا
وودعت أيامي بمنعطف الحزن
وما كان بعدي - يعلم الله - عن قلى
ولكنها الأيام تقصي ولا تدني
بكيت على صفو الشباب لأنني
قضيت شبابي في مكافحة الحزن
ومالأت أهل العصر حتى بلوتهم
فلم ألق من حر ولم أرض عن خدن
داو همك بالبر
شكا ما به والهم يرسل دمعه
أفانين شتى من عقيق ومن در
فقلت له أسعف فقيرا وداوه
عسى يكشف الرحمن ما بك من ضر
في موقف التوديع
لم أجد فيما أعرف من فلسفة اللغة أصدق من كلمة «وداع»؛ فإنها مفترقة الحروف إذ كانت تؤذن بالفراق:
ومهجتي ساعة توديعه
تفرقت مثل حروف الوداع
فإن أردتم جمع تفريقها
فذاك موقوف على الاجتماع
الوداع، ما هذا الذي أجد عند كتابة هذه الكلمة؟ ما لي أغص بريقي حين أراها مسطورة في كتاب؟ أتراها قبست من قلوب المودعين فهي جمرة تلتهب ونار تشتعل؟ أم تراها أخذت من زفراتهم المتقطعة، فهي تقطع القلوب، وتفتت الأكباد؟ وما لي أراها محزنة مبكية؟ أتراها عين ما سمي بها، ونفس وما وضعت له؟ أم هي مقلوبة عن «أوعد» ففيها الإرهاب والتخويف؟
أما - والله - إنه ليخيل إلي أن واوها أخذت من الوجد، ودالها من الوعد، وألفها من الدار، وعينها من الدمع، فكان أولها لهيبا، وآخرها نحيبا، ثم كان افتراق حروفها نذير الفراق، فأخلف الوعد وبعدت الدار.
وكنا جميعا قبل أن تظهر النوى
بأنعم حالي غبطة وسرور
فما برح الواشون حتى بدت لنا
بطون الهوى مقلوبة لظهور
الوداع؟! يا عجبا! وهل أبقت مني مواقفه المشجيات، ومشاهده المبكيات، ما أقدر به على استحضارها وتصويرها، اللهم إلا ما أعرف من نومي المطرود، وهمي الممدود، وذلي الموجود، وعزمي المفقود، ودمعي المسكوب، وقلبي المحروب، وصبري المغلوب، ثم ما أغص به من شماتة العذال، وما أشجى له من رحمة الأحباب؟
فلرحمة المتوجعين حزازة
في النفس مثل شماتة الأعداء
وما أعاني من حسرة في صباحي، ولوعة في مسائي، حتى عدت أضنى من جفن الحبيب، وأقل من نوم الرقيب.
فيا فوز لو أبصرتني ما عرفتني
لطول نحولي بعدكم وشحوبي
الوداع، لعلي ما رأيت نعمة في نقمة، ومنحة في محنة، أو بؤسا في نعيم، وروحا في جحيم، إلا في موقف التوديع، ومشهد التشييع. فلو رأيتني حينذاك لرأيت يسراي على قلبي مخافة أن ينشق الصدر عنه، فإذا أنا صريع، ويمناي تتعرف معالم الترف ومعاهد النعيم، من حبيبي الراحل وأنيسي الظاعن، فإذا رأيت ثم رأيت وحشة وأنسا، ونعمة وبؤسا، ورأيت عينا لم تشغلها الدموع عن النظر، ولا أغناها النظر عن الدموع، فهي ناعمة بائسة، وآملة يائسة، وضاحكة باكية، وطائعة عاصية.
حجبوها حتى بدت لفراق
كان داء لعاشق ودواء
أضحك البين يوم ذاك وأبكى
كل ذي صبوة وسر وساء
فجعلنا الوداع فيه سلاما
وجعلنا الفراق فيه لقاء
الوداع، إنه كالعشق، يجعل الجبان شجاعا، والبخيل سخيا، فقد كنت أجبن عن لقاء من أهوى، فجرؤت يوم البين على سلامه، وحديثه وضمه وعناقه، وكان بخيلا بملاطفتي ومجاملتي، فسخا يوم ذاك، وحياني وفداني.
لم أنس إذ ودعته والتقى
ذا البدن الناعم والناحل
كأنما جسمي على جسمه
غصنان ذا غض وذا ذابل
يا رب ما أطيب ضمي له
إلي لولا أنه راحل
لقد كنت في شك من حبه إياي، ورفقه بي، وعطفه علي، فكنت أغالب الدمع، وأصانع الحزن، أما اليوم، فقد عرفت مكانتي عنده، ومنزلتي لديه، فلينزل الدمع غير مدافع، وليغلب الحزن غير منازع.
ووالله ما أدري أيغلبني الهوى
إذا جد جد البين أم أنا غالبه
فإن أستطع أغلب وإن يغلب الهوى
فمثل الذي لاقيت يغلب صاحبه
بعض الناس
أديب ملك الآداب حتى
لتنسى حين تذكره الوليدا
تخال نثيره درا نثيرا
وتحسب نظمه درا نضيدا
كأن حديثه نسمات صبح
حملن إلى أخي كلف بريدا
معاذ الحب أن ينساك قلب
يراك على الزمان أبا ودودا
وقد قل الوفاء وغاض حتى
لتحسب كل إنسان كنودا
ليهن المرء ترشده فيعلو
زهيرا في الإجادة أو لبيدا
ليهن المرء تصحبه فيمشي
على صلف كأن صحب الرشيدا
لئن كانت بنات الدهر سودا
وكان الدهر جبارا عنيدا
فقد ظفر الأنام بمصمئل
غدت غير الزمان له عبيدا
يشق غلائل الظلماء حسنا
ويهتك جنة البأساء جودا
الفزع إلى الحكمة
أيتها الحكمة، أنت وحدك القادرة على هدايتنا في مجاهل الحياة، أنت التي تحيين الفضيلة، وتميتين الرذيلة، وما عسى أن نكون إذا ضللنا إليك السبيل؟
أنت التي أنشأت المدائن حين ألهمت الناس في افتراقهم حب الاجتماع، أنت التي قربت بين منازلهم فعودتهم الاتحادات المقدسة، وأبدعت لهم اللغات والخطوط، أنت التي أمليت القوانين، وكونت الأخلاق وهذبت الشعوب.
إني لأبحث عن مأوى بالقرب منك أيتها الحكمة، وإني لأستمد منك المعونة. إلى هنا أنا مسرور باتباع وصاياك في بعض أعمالي، والآن ألقي بنفسي بين أحضانك، وإن يوما واحدا أمضيه في الخير - وفقا لما تأمرين - لخير وأبقى من الخلود الجاني.
إلى أية قوة نلجأ غير قوتك العاصمة؟ أنت التي تهبيننا طمأنينة الحياة، وترفعين عنا فزع الموت (معربة).
شيشرون
العام الفائت (1919)
يقولون عام روعتنا خطوبه
وسالت به منا الدماء الدوافق
فقلت لهم لا تتبعوه ملامة
فقد بعثت فيه الأماني الصوادق
Página desconocida