Maravillas de la Imaginación
بدائع الخيال
Géneros
من هم الذين يجب الثقة بهم أو الابتعاد عنهم؟ (3)
كيف يتسنى له معرفة أهم الأشياء التي يشتغل بها؟
وما كاد هذا يذاع في المدائن حتى تقاطر إليه العلماء من كل صوب، إلا أنهم ذهبوا في إجاباتهم مذاهب شتى.
فقال أحدهم إجابة عن السؤال الأول: «إذا أراد الإنسان أن يعرف حقيقة الوقت المناسب لبدء كل عمل فما عليه إلا أن يخط جدولا يكتب فيه أسماء الأيام والشهور والسنين محسوبة مقدما، ويواظب تماما على العمل به، وبذلك يمكنه أن يؤدي كل عمل في وقته المعين.» وقال آخرون: «إن من المحال لأي إنسان أن يتنبأ بالوقت المناسب لكل شيء، وإنما الواجب عليه أن يراقب بكل دقة وانتباه مجرى سير الأحوال التي تحيط به، ومتى علم ذلك صار من السهل عليه معرفة أي الأشياء أكثر أهمية؛ فيبدأ بها في وقتها.» إلا أن بعضهم اعترض عليهم فقال: «مهما يكن الملك يقظا وواعيا لكل ما يحدث حوله فإنه لا يتوصل لمعرفة ذلك إلا بعقده مجلسا يتضمن كبار العلماء والعقلاء؛ ليساعدوه بأفكارهم على تحديد الوقت المناسب.» فرد عليهم آخرون بأن هناك كثيرا من المسائل التي يجب البت فيها في الحال، ولا يمكن إرجاؤها حتى ينظر فيها المجلس؛ فالطريقة المثلى لمعرفة ذلك هي التنبؤ بحوادث المستقبل، وبما أن هذا لا يفقهه إلا السحرة فالأجدر بالإنسان مشاورتهم في الأمر.
وكان ما أصاب الإجابة عن السؤال الثاني من الاختلاف لا يقل عما أصاب سابقه؛ فقال أحدهم: «إن أنفع الناس للملك وأجدرهم بثقته هم وزراؤه ومستشاروه.» وقال آخرون: «الكهنة ورؤساء الدين.» وقال ثالث: «نطس الأطباء.» وقال رابع: «إن المحاربين وطائفة المجاهدين هم الأكثر ضرورة للملك دون سواهم.»
أما السؤال الثالث فكان نصيب الإجابة عنه من تباين الآراء كذلك ما لا يقل عن سابقيه، فأجاب بعضهم بأن أنفع الأشياء للملك هو العلم، وقال ثان المهارة في الفنون الحربية، وقال غيره الاشتغال بالأمور الدينية.
ولما رأى الملك اختلاف العلماء وتباين أفكارهم؛ لم يقتنع بإجابتهم، فلم ير أحدا منهم جديرا بالجائزة المعدة، ولما لم يجد الملك ضالته المنشودة في من وفد إلى حضرته من العلماء، وكانت رغبته تزداد في الوقوف على أجوبة صحيحة لأسئلته الهامة؛ عمد إلى المفاوضة مع ناسك مشهور بوافر عقله وغزير حكمته فقام لوقته وارتدى ملابس بسيطة؛ لأن هذا الناسك لا يقابل إلا العامة، ثم سار نحو الغابة التي اتخذها ذلك العابد مسكنا لا يبرحه، ولما دنا من صومعته ترجل عن جواده، وذهب إليه وحيدا تاركا وراءه جنده وحراسه.
قرب الملك منه فوجده يحفر في الأرض أمام كوخه، فلما وقعت عينا الناسك عليه حياه واستمر في عمله، وبالنسبة لضعف جسمه ونحوله كان كلما جرف بمجرفته قطعة من الأرض علت زفراته وتصعدت أنفاسه، فتقدم نحوه الملك مخاطبا إياه: «إني أتيت إليك أيها الناسك العاقل ملتمسا منك الإجابة عن ثلاثة أسئلة، فهلا توليني سرورا بتحقيق أمنيتي؟» فأصغى إليه الناسك، إلا أنه لم يجبه بكلمة واحدة واستأنف الحفر، فزاد الملك قائلا: «إني لأخالك قد تعبت الآن فأذن لي بالاشتغال برهة حتى تستعيض بعض قوتك.» فشكره الناسك وأعطاه المجرفة وجلس هو ليستريح، وبعد أن جرف الملك مرتين توقف وأعاد أسئلته ثانيا، فلم يعره الناسك أقل انتباه ولم ينبس ببنت شفة، وقام لوقته ومد يده للمجرفة يطلبها من الملك إلا أن هذا أبى أن يعطيه إياها، واستمر في الحفر حتى مضت ساعتان وابتدأ قرص الشمس أن يختفي وراء الأشجار، وإذ ذاك توقف الملك عن العمل وقال للناسك: «إني قصدتك أيها الحكيم لتجيبني على أسئلتي، فإن لم يكن لك علم بها فأخبرني حتى أنصرف وأعود من حيث أتيت.» فقال الناسك بلهجة تدل على الاهتمام: «التفت، ألا ترى رجلا مقبلا يعدو نحونا؟! ها هو! يجب أن نعرف أولا من هو.» فالتفت الملك فرأى رجلا ذا لحية طويلة يتقدم مسرعا نحوهما واضعا كلتا يديه على بطنه، والدم يسيل من تحتهما.
ما كاد هذا الغريب يصل حيث يجلس الملك حتى خر على الأرض يصرخ من الألم ويئن أنات متواصلة، ففك الملك والناسك ثيابه المضرجة بالدماء، وألفيا جرحا بليغا يتدفق منه الدم، فعني به الملك، وضمد جراحه بمنديله ومنشفة كانت عند الناسك، ولكن مع كل هذا لم تقف حركة خروج الدم؛ لذلك كان الملك نفسه يزيح العصابة ويمتص الدم بحرارة زائدة، ويغسل الجرح مرات عديدة، ثم يعيد إليه الضمادة ثانية، وهكذا حتى انقطع الدم وانتعش الرجل، وطلب جرعة ماء، فأحضر الملك له الوعاء وأسقاه منه كفايته، وفي ذلك الوقت مالت الشمس إلى المغيب وأقبل الليل بنسماته الباردة، فحمل الملك والناسك الجريح وأدخلاه الكوخ، وما كادا يوسدانه الفراش حتى أطبق عينيه واستغرق في سبات عميق، أما الملك فقد أعيته مشقة العمل وأنهكه تعب الحركة، فجثا لوقته عند مدخل الكوخ، واستسلم أيضا لنوم هادئ طويل.
مضت تلك الليلة ونام الملك فيها ملء جفنيه، ولما استيقظ في الصباح أراد أن يعيد إلى ذاكرته حوادث الليلة الماضية، إلا أنه قبل أن يتذكر أين هو، ومن ذاك الغريب النائم على الفراش الناظر إليه بعينين براقتين؛ سمع صوتا ضعيفا يقول: «سامحني.» فعلم أنه صوت ذلك الغريب الجريح، فالتفت إليه وقال: «يلوح لي أن ليس بيني وبينك سابق معرفة؛ فعلام تطلب مسامحتي؟!» فقال: «نعم، إنك لا تعرفني، ولكني أعرفك حق المعرفة، فأنا عدوك الألد الذي حلف لينتقمن منك؛ لأنك أعدمت أخاه، واغتصبت أملاكه، وقد علمت بمجيئك إلى هنا منفردا، فعزمت على قتلك عند أوبتك، ولكني عندما رأيتك لم ترجع وقد انقضى اليوم خرجت من مكمني لأفتش عنك عسى أن ألتقي بك، وإذا بحراسك قد عرفوني، فأطلقوا علي بعض غداراتهم وأصابوني، فهربت من أمامهم والدم يتدفق والآلام تزداد، حتى رماني الله بين يديك؛ فضمدت جرحي، وعطفت علي، فما أطهر قلبك وأرق عواطفك! يا رباه! إني أتيت لأقتلك، ولكنك أنقذتني من الموت وبعثت في الحياة ثانية، فلأشكرنك ما حييت، ولن أنسى هاتيك الأيادي البيضاء ما دام في عرق ينبض، ولي لسان ينطق، ولأكونن لك الخادم المطيع والعبد الأمين ما دمت أستنشق نسمات الحياة، وسآمر أولادي أن يقتفوا أثري من بعدي؛ فنوقف حياتنا جميعا لخدمة الملك.»
Página desconocida