Maravillas de la Imaginación
بدائع الخيال
Géneros
مضى عليه حولان لم ينقطع أثناءهما يوما واحدا عن نقل الماء وسقي الأعواد، ولكنها كانت على حالها السابق لم تتغير مطلقا، وبينما كان ذات يوم جالسا في كهفه سمع وقع حوافر جواد وصوت إنسان يغني، فقام إلى الباب ليستطلع الأمر، وإذا به يرى شابا مفتول العضل، عليه سيما الشراسة والشر، فسأله ابن العراب عن نفسه، وعن وجهة قصده، فأجابه الرجل وقد أمسك بزمام فرسه يوقفه: «أنا لص أقطع الطريق على الناس، وكلما قتلت إنسانا كلما ازددت ابتهاجا، فأردد على الدوام الأناشيد التي تردد صداها هذه الجبال.»
ففكر ابن العراب في نفسه يقول: «هذا رجل قد جبل على الإجرام، وطبع على محض الشر، فكيف السبيل إلى إرشاده؟ إنه من السهل إرشاد أولئك الذين يأتون إلي بمحض إرادتهم يعترفون لي بذنوبهم، ويطلبون الصفح والغفران، ولكن كيف الطريق إلى نزع ما كمن في نفس هذا اللص من الشر وهو يفتخر بذنوبه ويتيه عجبا بما يقترفه من الآثام؟!» ثم فكر ثانية وقال في نفسه: «رباه كيف العمل؟ فقد يأوي هذا اللص إلى جهة قريبة من الكهف فيوقع الرعب في قلوب زائريه، وبذلك تضيع الثمرة، فلا أدري كيف أعيش بعدها.» ثم التفت إلى اللص وخاطبه قائلا: «اعلم يا هذا أن الناس يحضرون عندي يلتمسون التوبة والغفران باعترافهم عن ذنوبهم، فلا يفتخرون بها مثلك، فأقلع أنت أيضا عن شرورك وآثامك والتمس التوبة قبل فوات الفرصة إن كنت ممن يخافون الله، وإن لم تك ثمة ندامة في قلبك فلا تقترب هذه الجهة؛ لأن ذلك يوقع الرعب في قلوب الذين يفدون علي، فإن لم ترعو فإن الله كفيل بعقابك.»
فأجابه اللص: «أنا لا أخاف الله ولا أصغي لهذيانك؛ إذ ليس لك علي أقل سلطان، أنت تعيش بزهدك ، وأنا أعيش باللصوصية، فكلانا يعمل ليعيش، وإذن فالغاية واحدة وإن اختلفت الواسطة، وحري بك أن تدخر ما في نفسك من النصائح للعجائز اللواتي يحضرن مجلسك، أما أنا فلا أخدع بزخارف الأقوال، ولكن بما أنك ذكرتني بعقاب الله فلا يشرق صباح الغد حتى أكون قتلت نفسين ذكرى لهذه النصيحة، وكان بودي أن أقتلك، ولكن لا أريد ذلك الآن، والويل لك إن اعترضت طريقي بعد اليوم.»
ما كاد اللص يتم حديثه ووعيده حتى لوى عنان فرسه وغاب عن الأنظار، ولم يسمع له خبر بعد ذلك، فأقام ابن العراب في كهفه ثمانية أعوام أخرى في هدوء وسلام. •••
جلس ابن العراب في كهفه ذات مساء بعد أن فرغ من سقي الأعواد كعادته مترقبا قدوم زائر، ولكن لم يحضر إليه أحد ذلك المساء، فاكتأب لذلك واستولت على نفسه الهموم والأحزان، وأخذ يفكر في معيشته الجديدة في الكهف، ثم تذكر قول اللص، وكيف عاب عليه التعيش بالزهد والمسكنة، فأنب نفسه ورجع يوبخ ضميره قائلا: «ويح نفسي! ما أشقاها! جئت هنا لأكفر عن خطيئتي، وإذا بي أضاعف ذنوبي وآثامي، نعم قد صدق اللص في قوله: «كلانا يعمل ليعيش؛ أنت بزهدك، وأنا بسفك الدماء، وقتل نفوس الأبرياء.» ليست هذه هي المعيشة التي أتمسك بها لأكفر عن سيئات نفسي، ولم تكن هذه الخطة التي أنتهجها كفيلة بغسل آثامي بماء الطهر والتوبة، فقد كان علي أن أكتفي باليسير من الخبز، ولكن ملك الغرور علي نفسي فأصبحت أرتاح لمدح الناس إياي بالزهد والتقوى، وها أنا ذا قد استولى علي الهم؛ لأني لم أجد بين يدي من يتقرب إلي بالمدح والثناء، كلا، كلا! علي أن أفر من وجه الناس وألتمس المعيشة في ركن آخر من هذه الغابة حيث لا يصل إلي أحد منهم.»
وما وصل من حديث نفسه إلى هذا الحد حتى قام من مكانه وعلى وجهه أمارات العزم الصادق، ثم احتمل سلة الخبز، وأمسك محراثه بيمينه ليحفر لنفسه كهفا آخر في ركن مهجور من الغابة، وفيما هو في طريقه قابله اللص ؛ ففزع منه ابن العراب وولى الأدبار، إلا أن اللص أسرع فأمسك به وسأله عن قصده، فأجابه أنه يريد اعتزال الناس في ركن من الغابة، فعاد اللص وسأله: «ومن أين لك ما تتبلغ به إذا أنت اعتزلتهم؟»
فقال: «ذلك لا يهمني، بل أعيش بما يقدره لي رب العالمين.»
فسكت اللص ثم أعمل بمهمازه في الجواد واختفى بين أشجار الغابة.
فقال ابن العراب في نفسه: «ما علي لو نصحته مرة ثانية؟! فإنه اليوم ألين عريكة من ذي قبل.» ثم صاح بأعلى صوته: «ما زال أمامك متسع من الوقت للتوبة والندامة فارجع عن غيك يا هذا.» فرجع إليه اللص مشهرا خنجره يريد قتله، ففر ابن العراب من بين يديه وأخذ يعدو في الغابة بملء فروجه، فوقف اللص عن ملاحقته واكتفى بقوله: «هذه هي المرة الثانية وأنت تقف في وجهي أيها العجوز، فحذار؛ فإنك لا تفلت من يدي في المرة الثالثة.»
وفي مساء ذات اليوم عندما ذهب ابن العراب ليسقي الأعواد كعادته كانت إحداها - وهي الأولى - موضع إعجابه واندهاشه؛ لأنه رآها قد اخضر عودها، ودبت الحياة فيها، وافترت عن شجرة تفاح صغيرة، فأشرق جبينه، وعاد إليه الأمل، وقد أيقن أنه سائر في سبيل التكفير عن خطاياه، ونظر ذات يوم إلى السلة التي احتملها من الكهف السابق وإذا بها فارغة ليس بها شيء من الخبز، فتسلل إلى الغابة يبحث عن نبات أو ثمر يعيش عليه، وإذا به يرى سلة أخرى من الخبز معلقة على أحد الأغصان، فأخذها وعاد إلى كهفه وعاش عليها مدة من الزمان لا يعكر صفو حياته إلا وعيد اللص؛ إذ كلما تذكر تهديده ترتجف أعضاؤه فرقا؛ خوفا من أن يقضي اللص عليه قبل تكفير ذنوبه، إلا أنه فكر في نفسه ذات يوم فقال: «أنا أجرمت، ومع ذلك أهاب الموت، ألا يمكن أن تكون إرادة المولى أن أكفر عن خطيئتي بالموت؟»
Página desconocida