83

Puerta de la Luna

باب القمر

Géneros

نهضت هرميون ولمياء إلى الحارث تقبلانه وتبكيان وتعتذران إليه، ثم تعرضان عليه أن تذهبا معه، على أن يغفر لهما الأسقف الحنث باليمين، ولكن الحارث أبى قائلا: إن العزم صح على سفره بولده وتلميذه حتى حين، وهو يرجو ألا يغيب عنهما طويلا، ورأى الأسقف وجاهة الرأي فأقره، وشكر لهرميون ولاءها، وللحارث عفوه، ودعا لهما بالرضا، وعلى هذا ودعهم الحارث ومضى يسقط من جفنيه دمعة.

ذهبت هرميون إلى غرفتها، وألقت نفسها على الفراش خائرة القوى تتحدر دموعها، وذهبت لمياء في وجدها إلى إحدى الكوى المطلة على رحبة الدار تراقب العير، وتتزود لقلبها بنظرة إلى من تحب وهو يغيب عنها، وقد استبان لها خطؤها في أنها لم تهون على والدتها النقلة حتى لا تحرم جوار ورقة؛ ورأت قلبها يندك تحت ذلك ويهلع، وهي تعنف نفسها على تسرعها، وكانت ترجو أن يلتفت ورقة صوب الكوة التي تطل منها؛ لتحادثه حديث الوجد بنظراتها، ولكنها لم تجده التفت، بل استمر بربط الحمول ويستعد للرحيل، كأنما ليس في الدار قلب يتمنى أن يتسع ويلتقطه من رحبة الدار في غفلة الناس ويخبئه بين ألفافه، وفيما هي على هذا الحال رأت ورقة مال إلى أستاذه الحارث يستأذنه في توديع السيدتين، فأشار له الحارث نحو الدار آذنا، ولكن النضر التفت واعترض على هذا قائلا: لا حاجة إلى التوديع! إن الوقت قصير. قال الحارث: دع الفتى يودع سيدته. من الإجرام أن تمنع أحدا أداء واجبه. قال النضر: أي واجب هذا؟ فلم يأبه ورقة لكلامه، وجرى نحو الدار والنضر يناديه من ورائه بصوت المنذر الناهي، ولكنه كان قد صعد. فلما رأى هرميون طريحة الفراش جثا على ركبتيه وتناول يديها يقلبهما ويبكي وهو يقول: برغمي يا سيدتي أن أفارقك، ولكن هذه مشيئة الله. ادعي الله يا سيدتي أن يجعل هذا الفراق إلى لقاء قريب. كان يقول هذا والنضر يناديه ويستعجله، ويقطع عليه الوداع بكلماته وهو مستمر في توديعه، ولكنه نهض يقول: أنا عند حسن ظنك بي يا سيدتي، ولدك وصديقك وأخو لمياء. فأخذت تبكي بكاء مرا لم يسع ورقة وقد انفطر له قلبه إلا أن يتناول رأسها ويقبل شعرها. فشهقت لمياء عند ذلك شهقة أذعرت أمها فأنهضتها من فراشها، وإذا هي ترى ابنتها متعلقة برقبة ورقة تقول له: لا تفارقنا. كل ذلك والنضر ينادي. فاستودعهما الله ونزل يمسح دموعه، ولكن النضر تلقاه بالشتائم المقذعة بين سمع الناس أجمعين، والحارث لا يملك أن يصون تلميذه؛ لئلا يتخذ ولده هذا عذرا له في العود إلى مكة، ولكنه قال له: حسبك يا نضر. إن هذا الفتى بار بسيدتيه. قال له النضر: إنهما لا تريانه خادما، بل كفؤا وضريبا، وسترى عاقبة مكارمك. قال الحارث: ولا أنا. إنه ولدي وتلميذي وصاحب الكرامة عندي. فشكر له ورقة بره بنظرة ملئت عرفانا بالجميل، وسار مثقل القلب إلى الحمول كظيما يفكر في نهاية استفزاز النضر إياه وإهانته التي لا تنقطع. لم يكن له من سبيل إلا أن يكظم، وإلا أن يتقبل الأذى إذا أراد أن يكون مع الحارث، ولم يكن له إلا أن يسكت؛ لأن الحارث نفسه يسكت، ولم يكن له إلا أن يشرد أسباب نفور النضر من أبيه، ما دام أبوه يتوخى قصدا من ذلك: هو إبعاد هذا الفتى الشرير عن أذى رسول الله، ولكن لماذا يحتمل هو والحارث وهرميون ولمياء كل هذا الأذى؟ لماذا لا يريح رسول الله من عدو مبين لا ترجى له الهداية؟ وفي استطاعته أن يضربه بسيفه ضربة غير ظالمة تقطع لسانه، وترد أوصال السعادة التي قطعها بيديه كما كانت. الجواب لأنه ابن أستاذه الحارث البار به الذي طالما نظر إليه نظرات الاستشفاع أن يعف ويعفو من أجله، ويعرض عن جهله من أجله. أجل سيبقى على هذا الخلق من أجل أستاذه فلن يعفو عنه أستاذه إذا هو قتله أو أهانه ردا لاعتداء أو دفاعا عن النفس، أو احتفاظا بكرامة. الوالد والد ومحال أن يعذر من يؤذي ابنه ولو كان الابن ظالما مفتريا. نعم يرى ولده أوغر صدر من أذاه، ولكنه لا يعذره في أذيته، وهو لا يطيق أن يجعل لنفسه في فؤاد الحارث شبحا مظلما يلعنه كلما تمخض به قلبه. إذن فليستمر على خطة الإعراض عن سفاهة النضر وأذاه، ويعمل على تألفه في كرامة عسى أن ينقلب ودودا، أو يبصره الله بما يجب.

الفصل الثالث والعشرون

يمين النضر

بلغوا صنعاء ونزلوا وقضوا فيها ثلاثة أشهر كانوا يجتمعون فيها كل يوم بولاتها وأحبارها وعلمائها، ويستمتعون بخيراتها، ولكن ورقة لم يبتسم في كل تلك الأيام مرة واحدة؛ لأنه كان حزينا لفراق لمياء، وكان يقضي أوقات فراغه يفكر فيها، ثم يغلبه الحنين واليأس فيسقط دمعتين كبيرتين يهدأ على أثرهما قلبه فينام مفكرا فيها، وهو في تلك الأثناء يؤدي فرض العتاب الذي أوجبه عقله على نفسه فيقول: أيتها النفس المغرية في أكثر أمورك بما لا يجمل. لماذا تضعفين مني وتؤملينني ما لا يؤمل؟ وما لا يصلح لي أن أرجوه؟ لا تخادعيني! لست كفؤا للمياء. ما أمي كهرميون، ولا أبي كالحارث، وإن من الكنود والجحود أن أرفع نفسي إلى حيث أبيح لها أن أؤمل لمياء عروسا لي وسكنا. هي فرحة أمها وفخر أبيها ، ولن يرضيا لي بها. إنهما لم يذكرا لي شيئا من هذا حتى فيما كان ينهمر به قلبهما من عواطف البر لي. نعم إنهما ينعتاني بالبنوة ويرياني كذلك، ولكنهما ينضحان عن طبيعة الخير، لا الجهل ونسيان ما في ذلك من الأذى لنفسهما. وإن من الخسران أن يجهل الإنسان قدر نفسه، أو يغالط قلبه فيحكم بأسباب شيء لشيء آخر، ولا يزال على هذا حتى يعلو الصبح، فيذهب إلى الماء؛ ليتوضأ ويصلي صلاة الضحى، ويدعو الله أن يلهمه الصبر فيلهمه على الأثر، ويذهب إلى أستاذه؛ ليكون في خدمته وصحبته. حتى إذا خلا إلى نفسه عاد إلى مثل ما كان فيه لا يفارقه حتى يتوضأ للعصر ويصلي ويدعو ويصرف الله عنه همه، ويعود إلى أستاذه وصحبته، ويرافقه في زياراته وسهراته وارتياداته الأسواق.

وكان كلما مر في السوق ورأى شيئا مما يحسن أن يهدى إلى النساء - لفت إليه نظر الحارث في خفية عن ولده؛ ليشتريه ويرسله إلى هرميون أو لمياء هدية منه، أو يحفظه لديه حتى يعود فيكون هدية القادم، وقصده من ذلك أن يرد إلى قلب الحارث ما يكون النضر قد سلبه من العطف على امرأته وابنته؛ لأنه كان كثير الذم لهما والإنكار لما يسميه عقوقهما، وكان الحارث يبتسم لورقة كأنه يقول له: إني أدرك قصدك النبيل يا بني؛ ويأمره على الفور أن يشتريه له، ويتصرف فيه؛ إما بأن يرسله على الفور، أو يبقيه لديه حتى يعود فيكون كما أراد ... وإنما كان يكلف ورقة شراءه عنه؛ لكيلا يلفت إليه نظر ولده، فيتدخل في شأنه، أو يجعله سببا لشجار جديد. بيد أن ورقة كان إذا اشتراه أعد كتابا رقيقا إلى هرميون بالرومية يمضيه الحارث، ويرسله مع الهدية مع برد الأحبار الذاهبين إلى بلاد القدس أو العراق مارة بنجران. فقد كانت هذه البرد تسير بغير انقطاع فيما بين مدائن كسرى وأتباعه من حكام اليمن.

هكذا ساروا في صنعاء، وكانت أسعد أوقات الحارث وورقة وقت خلوهما لنفسيهما في غيبة النضر ، ولم يكن الحارث ليخفي هذا، ولكن ورقة كان على عادته مؤدبا كريما، فلا يذكر النضر لا بخير ولا شر، وإنما كان يدعو الله له بالهدى.

وكان ورقة معروفا في صنعاء وجيرتها وفي كل مكان بأنه غلام الحارث أو ولد الحارث؛ لأنه كان منه بمنزلة مبهمة لا تدل عليه صراحة. تارة يرونه قائما في خدمته قيام العبد لسيده بحاجته، وأخرى يرونه جالسا معه يذاكره ويحادثه ويباسطه مجالسة الند للند والولد لأبيه، وهو على الحالين في عزة ووقار وتوقير.

كان بعضهم يراه غلاما للحارث فيناديه بذلك، أو يعرفه إلى الناس به وهو لا يتأذى ولا يعترض، بل يشعر في قرارة نفسه بشيء من الرضا إذ يجيء هذا التعريف أو ذاك النداء دليلا على أنه لم يقصر في خدمة أستاذه، وأنه لم تبطره منزلته فتجعله في غير مظهر الغلام من مولاه، ومنهم من لم يره معه إلا في مجالس الأعيان يتذاكرون، فإذا ناداه ناداه بابن الحارث، فيتقبل التسمية؛ لكيلا يشغل الناس بأمره، ثم يعتذر إلى الحارث من صنعه فيثني عليه أدبه مع الجلساء؛ بل كان الحارث نفسه يدعوه أمام الناس يا بني، وكأنه يفخر أن يكون مثله ولدا له؛ لأنه كان يسمع الثناء عاطرا عليه من جميع الأفواه. على أن ورقة كثيرا ما كان يصحح للناس خطأهم إذا وجد في السكوت أذى لكرامة أستاذه أو منزلته. فيقول لهم: إنه ليس إلا تلميذا من أتباع الحارث، وأنه يدعى ورقة بن صليح فيعرف الأمر من يسمعه، ومنهم نعيم الصيدلاني الذي كان الحارث قد جمعه به وعرفه إليه، وأوصاه أن يلزمه في أوقات فراغه؛ ليعرف منه تجارة العقاقير. ومع ذلك فقد كانت تغلب التسمية عليه، ويعود من عرف حقيقته إلى ندائه بالنسبة إلى الحارث، حتى إذا يئس منهم وبدا ذلك عليه قال له الحارث: أقصر عن دأبك وتقبل كل تسمية، فصار يتقبلها إلا في كبار المواقف.

ولكن حدث أن اجتمع الحارث وولده وورقة في مجلس كان فيه ورقة محل الإكرام الأبين من الناس، وكانوا ينادونه في الحديث بابن الحارث، ويخصونه بالرعاية؛ فحسده النضر على منزلته، وتملكه الغيظ في المجلس، ولكنه لم يجرؤ أن يفصح عنه، فما إن بلغوا دارهم حتى انفجر النضر في ورقة سابا وشاتما، وعد عليه جريمة، وأذى متعمدا أن يتقبل تسميتهم إياه بابن الحارث، وكلما هم الحارث يبين لولده وجه عذر الفتى، وأن الأمر أهون مما يجد له، أو هم ورقة يعتذر وينيب - زاد النضر في سبه وأذاه وتعييره، حتى بكى ورقة. فحزن الحارث لهذا حزنا شديدا، ودعا على ولده وشتمه ففار مرجل شره، وأقسم باللات والعزى لا يبقي ورقة مع أبيه بعد يومه، وجرد السيف وأنذر ورقة بالقتل إن لم يخرج على الفور، فوقف الحارث دون الفتى؛ ليحميه، والتفت إليه يقول: اذهب يا ورقة من فورك إلى نعيم الصيدلاني وخذ ثيابك معك. هكذا قدر الله لي أن أحرم الولد والحبيب.

Página desconocida