وتدسس رجال الأمن في كل مكان لعلهم يجدون أثرا للقاتل فلم يستطيعوا شيئا، كأنه قد سدد طعنته ثم ساخ في الأرض أو طار في السماء.
ووجدت حول الجثة آثار أقدام مختلطة بآثار المواشي والأغنام فوق الطريق الترب، ولكن لم يكن هناك ما ينم عن عنف أو صراع أو دفاع.
وقد جرت العادة في مثل هذه الجريمة أن يسارع الأهل والأتباع إلى الاتهام والرجم بالغيب، فيسوقون الظنون جزافا إلى كل من تتعلق بهم شبهة من قريب أو من بعيد، ولكن أهل القتيل وأتباعه كانوا ذاهلين لا يهتدون إلى رأي، ولا يزيدون على أن يهزوا رءوسهم واجمين كلما وجه إليهم المحقق سؤالا، وامتنع أهل القرية كذلك عن الاتهام كأنهم كانوا جميعا شركاء في مؤامرة لتغطية القاتل، فهم يلوذون بالصمت في عناد عجيب، وحاول فؤاد أن يستدرجهم للإيماء إلى وجهة قد تفيده في الاهتداء إلى أول خيط من الحقيقة فلم يستطع شيئا، وكان في كل مذاهبه في التحقيق يخشى أن تأتي من أحد إشارة إلى اسم تعويضة، وكان يحس ارتياحا عظيما كلما انقضت شهادة الشاهد بغير أن يورد ذكرها أو يشير إلى شيء يتصل بها، ولكنه لم يجد آخر الأمر بدا من مواجهة واجبه القاسي الذي يحتم عليه ألا يدع وجهة بغير أن يتجه عليها، ومرت بخاطره صورة الأعرابية الحسناء التي طالما أعجب بحسنها وظرفها وذكائها، وسأل نفسه: أليس واجبه أن يحقق معها لعلها تكون هي القاتلة؟
لقد كانت هي الجديرة بأن ترتكب مثل تلك الجريمة التي يحيط بها الغموض وتوحي حقائقها بوجود امرأة، ألم يكن في تسلل ميسور من بيته وحده تحت ستار الظلام ما يوحي بأن في الأمر امرأة؟
ولقد عرف فؤاد فيما سبق له علمه من أخبار قوية أن «ميسور» كان يضمر في نفسه رغبة خبيثة نحو تعويضة، وما كان أحراها أن تدفعه عن نفسها بخنجرها، فقد كانت تغضب أحيانا فكأنها قطة برية في غضبتها.
ولكن أكان فؤاد ليقوى على أن يطلبها للتحقيق أو يسوقها إلى العقوبة؛ لأنها قتلت مثل ميسور؟
وقضى ليلة مسهدة عندما وجد واجبه يحتم عليه أن ينحي عاطفته ويقسو على نفسه ويطلب تلك الفتاة لكي يستمع إلى أقوالها، فتمثلت له بقامتها المعتدلة وتكوينها البديع وعينيها السوداوين وضفائرها السوداء الحريرية التي كانت تضطرب فوق صدرها، وهي تخطر رشيقة في حلقة السمر، وسمع صدى صوتها العذب يرن في أذنه إذ كانت تناديه: يا حاج فؤاد، وتبتسم له في خفر، متطلعة إليه كما تتطلع إلى خلقة محبوبة من غير عالمها، عادت إليه صور تعويضة في تلك الليلة مختلفة في مواضع شتى، فكان قلبه الحزين يتوجع كلما تمثل الغد الذي سوف يدعوها فيه ليسألها، وفي ظهر ضميره أنها قد تكون هي القاتلة.
وماذا كان يستطيع أن يفعل لو وجدها المجرمة حقا؟ ماذا كان يصنع بحياته إذا هو أمر بالقبض عليها وأقام الدليل على جنايتها، ثم قام ليترافع في قضيتها طالبا من القضاء أن يسفك دمها عقابا لها على قتل ميسور؟ أما كان في قرارة قلبه يرحمها لو كانت هي القاتلة حقا؟ وود لو خلع عن نفسه صفة النيابة ولبس عباءة المحامي لكي يقوم مدافعا عنها، لو ظهر أنها قد أغمدت خنجرها في قلب ذلك الرجل الشنيع الذي كان - بلا شك - هو العامل على نفي قوية صاحبها، وسأل نفسه: ما تلك العدالة التي تحتمل أن يتنازعها جانبان: أحدهما يمثل سلطة القانون فيطلب من القضاء أن يسطو بلا رحمة ويقطع بلا هوادة، والثاني يمثل العدالة فيقف مدافعا عن الجريمة يملأ المحكمة بصوته الجهوري مطالبا بالبراءة مدافعا عن مرتكب الجريمة؟! حقا إن كل أمور الإنسان لا تتصل بالحق إلا بمقدار ما يراه الإنسان حقا، وقد يكون الحق عند البعض باطلا عند البعض الآخر، وقد يكون الخير في نظر قوم شرا في نظر قوم آخرين، هذه تعويضة التي يخشى أن تكون هي القاتلة، وهو نفسه ينظر نحوها بعينين مختلفتين، يسمي إحداهما واجبه ويسمي الأخرى قلبه، وما هما سوى اسمين يخفيان تحتهما معنى آخر، وهو أن الإنسان غير جدير بحمل أمانة الحقيقة.
ولكن مهما يكن من أمر فؤاد فإنه سافر إلى النجيلة في اليوم التالي، وقد عزم على أن يؤدي واجبه وإن كان قاسيا، وأن يتجرع مرارة الحياة الصارمة حتى ثمالتها، فسأل العمدة أن يأتي إليه بتعويضة، وكان قلبه عند ذلك يهبط به كأنه قطعة من رصاص في حوض ماء، وأرهف أذنيه يستمع إلى جواب العمدة الذي كان أمامه واقفا، ألا ما أعجب الأقدار في عبثاتها وصدماتها! فإن الرجل أجاب قائلا: ليست تعويضة هنا ولا يعرف أحد مكانها.
وكاد فؤاد يثب عن مقعده فرحا لولا أنه تماسك فأخرج منديلا مسح به قطرات من العرق تقاطرت من جبينه.
Página desconocida