كان فؤاد يكتب إلى صديقه سعيد بين كل أسبوع وأسبوع، يجد إلى ذلك باعثا من كتاب قرأه أو حادث شهده أو قضية حققها أو منظر رآه، وكانت ردود صاحبه قليلة ولكنها إذا أتت إليه ملأت فراغ وقته حتى يعيد إليه الكتابة مرة أخرى، وكان سعيد في كل كتاب يبعث به إليه يثير مسألة تحرك فيه فكرة أو أفكارا، فكأن تلك المكاتبة قد أصبحت سلسلة تفصل بعضها عن بعض فترات من زمن، وهي إذا اجتمعت كانت حديثا موصولا.
وجاء أحد هذه الكتب إلى فؤاد في مطلع الربيع ينبئه صاحبه في حاشيته أنه قد اعتزم العودة إلى الإسكندرية، لقد ضاق أهله بالريف وما فيه من ظلمة في الليل وركود في النهار، إذا شاء الذي يعيش فيه أن يشرب ماء كان عليه أن يحمله ويصفيه، وإذا أراد شراء دواء كان لا بد له من سفر طويل لكي يشتريه، وأما الحياة فيه فلا يقدر عليها إلا من عزم على أن يقطع ما بينه وبين الحياة.
وكان عجب فؤاد شديدا من ذلك النبأ، وإن امتزج عنده العجب بالسرور، كانت الإسكندرية أشق على الناس مقاما من سائر المدائن، فإن المعركة الطاحنة كانت ما تزال تدور في شمال أفريقيا، وكانت الغارات تتوالى على شواطئ الإسكندرية، فلم يفكر أهلها بعد في العودة إليها، ولكن مهما يكن من خطر تلك الغارات فقد كان في استطاعة فؤاد أن يذهب إلى ذلك الشاطئ كل أسبوع فيمتع نفسه بحديث صديقه حينا وبرؤية علية التي لم يرها منذ شهور طويلة.
على أنه بعث إلى صديقه يسأله هل يؤثر الإقامة في القاهرة، فإنها كانت أقل تعرضا للأخطار، وما ينبغي له ولأهله أن يدفعهم التبرم بالريف إلى مثل هذه المخاطرة، ولكن رد سعيد كان قاطعا حاسما، فإن علية قد بلغت من السآمة ما لا يستطيع شيء أن يزيله عنها إلا شواطئ الإسكندرية.
إذن فهي علية التي كانت أشدهم ضيقا بحياة الريف، وهي التي كانت في الإسكندرية تقضي أكثر فراغها في خدمة المساكين والمشاركة في جمعيات البر.
وتبسم في شيء من السخرية، ولكنها كانت سخرية هادئة ليس فيها سوى وخزة من الدعابة.
وكتب إلى سعيد ينبئه بأنه سوف يزورهم بالإسكندرية؛ حتى يشاركهم بعض المشاركة في التعريض لأخطار قنابل الأعداء، ومضت أسابيع بعد ذلك وفؤاد يتلهف إلى سماع نبأ انتقال الأسرة الصديقة إلى الإسكندرية، وتمثلت له مناظر تلك المدينة أكثر سحرا، وهواؤها أعظم صفاء، وصيفها المقبل أبدع رواء رغم ما يحيط بها من المخاطر، فما يكون أسعده إذا اختلس من أواخر الأسابيع خلسا يقضيها هناك فيفوز فيها بنزهات على رمال الشاطئ أو جولات فيما يجاور المدينة من المنازه أو الصحارى في صحبة علية وأخيها، فما كاد سعيد يبعث إليه نبأ انتقال أسرته إلى الإسكندرية حتى بادر إليه ليقضي معه ومع أسرته يوما بديعا، فسافر في يوم من شهر يونيو، وكان الشاطئ خاليا إلا من قلائل منثورين على الرمال كأنهم بقية من عالم مندثر، وكان السكون عميقا في ساعة الأصيل عندما ذهب ليلقي على الشاطئ أول نظرة بعد عودته إليه، ألا ما كان أكبر الفرق بينه وبين ما رآه في المرة السابقة بين الجموع التي كانت تسير على الطريق متزاحمة صاخبة مرحة!
كانت السماء على عهدها زرقاء صافية، وكانت حدائق زيزينيا ولوران تضحك متبرجة في ألوان أزهارها، وكانت أوراق الأشجار وأغصانها تهتز يانعة عميقة الخضرة بعد أن غسلت الأمطار عنها غبارها في الشتاء والربيع، وكان هواء البحر ما زال يفوح برائحة العشب، تلك الرائحة التي كانت تحمل إليه أبعد الذكريات التي حجبها الماضي وراء غلالة من الضباب، ونزل آخر الأمر إلى شاطئ سيدي بشر فرأى الرمال على عهدها صفراء لامعة تحت أشعة الأصيل، وكانت مياه البحر تتهادى نحو البر في رفق تحت هبات النسيم الرفيق، ولكن العالم السحري لم يكن هناك، لم يذهب فكر فؤاد في ذلك السكون الصامت إلا إلى صورة علية التي لم تكن على الشاطئ الخالي، وجعل ينظر إلى المقاصير الخشبية وهي أنيقة خالية كأنها حسناء منبوذة، وسار يقلب عينيه على جوانب الشاطئ لا يدري عمن يبحث فيها.
وكان موعده مع صاحبه مساء في البيت على العشاء؛ ليحتفلوا بأول التقاء بعد تلك الغيبة، فجلس حينا على مقصف الشاطئ يشرب فنجانا من الشاي، ومد بصره إلى الأفق لا لكي يتأمل سحابه الذي كان يخطر في ذيوله الزاهية، بل ليتمثل كيف يلقاها وكيف يحدثها إذا حان وقت لقياها، وجعل يدبر في نفسه عبارات الإعجاب بالصور التي لا شك أن مناظر الريف حملتها على تصويرها، فلئن كانت لم تستطع الامتزاج بأهل القرى وانتهاز فرصة إقامتها بينهم لتفيض عليهم من رحمة قلبها، فإن ذلك عبء لا يقوى عليه مثلها، ولكن الريف في حقوله وشمسه وفي قراه وأكواخه وفي مراعي برسيمه وأجران قمحه يعرض على أهل الفن عالما واسعا ليجولوا بفنهم فيه.
وذهب في المساء إلى البيت على ربوته في محطة السراي، فدق جرسه وانتظر في لهفة مدة ثوان حتى فتح الخادم النوبي الباب، ودخل إلى البهو الفسيح وكانت الأضواء تأتلق في أركانه ومن فوقه، وهب سعيد من بين الجلوس مرحبا في حماسة، وفتح لصاحبه ذراعيه، ودخل فؤاد ينظر حوله فرأى علية في ركن تنظر إليه باسمة، ثم مدت يدها نحوه في بشاشة فسلمت وقالت: زمن طويل يا فؤاد!
Página desconocida