وإلا فما باله يختلس إليه تلك النظرات الجريئة الوقحة التي لم يعتد أحد من أمثاله أن يوجهها إليه؟
وعادت ألفاظ الرجل ترن في سمعه قاسية كأنه كان يوجه التهمة إليه قاصدا، وكاد يضحك ساخرا من نفسه كيف تنزل إلى مستوى مثل هذا الخلق، ولكنه مع ذلك اندفع في غير وعي يحاول أن يجد لنفسه مهربا، فسأل نفسه ألا يكون قوية الوديع قد انقلب إلى فطرته التي ساقت أخاه إلى السجن قبله؟ فما باله يبدأ تحقيقه بمثل هذا التحفز في نصرة فتى لا يعرف من أمره إلا الظاهر وقد فرقت بينهما سنون عدة؟ لقد أحس في يوم من الأيام نوعا من الرضى عن نفسه إذ حسب أنه ساعد ذلك الفتى على أن يستعيد أمله في الحياة الشريفة، وأحس سعادة صادقة عندما رآه في خيمته منذ أيام ينظر إلى الناس والحياة عاطفا سعيدا، ولكن أينبغي لمثله أن يغتر بمثل هذه المظاهر الخادعة؟ وأخذته هذه الخواطر على غرة حتى أذهلته، وجعلته يصرف كل همه إلى النظر في أمر نفسه وفي موقفه وفيما يخشى أن يقول هذا الشاهد وأمثاله عنه، وخيل إليه أنه قد بدأ التحقيق بما لا ينبغي للأمين على القانون أن يبدأ به تحقيقه، وكان يخالط كل وساوسه الثائرة ندم شديد على أنه أطاع نفسه في زيارة هذا الفتى الذي فارقه من سنين ولا يعرف ماذا طرأ عليه، أغره حديثه وهو يعرف أن الأحاديث هي مطية الأكاذيب والخداع؟ ألم ير أسفل الناس في النذالة وهم أعلى الناس أصواتا بالشرف وبالكرامة؟! فكيف لم يحترس في خطوته ولم يفكر في عاقبة تبذله؟
ثم زاد به الحنق فتصور أن ذلك الفتى وجه إهانة إلى كرامته؛ إذ خدعه بمظهره ودعاه إلى زيارته في تلك الجرأة، كأنه لا يريد سوى أن يرضي غروره ليذيع أهل الريف المجاور أنه أهل لزيارة مثله؛ فيكبر في أعينهم ويزداد صرامة في جرائمه.
ثم تذكر ما قاله أبوه منذ سنين إذ قال له: «إن هؤلاء يجمعون في قلوبهم الأضداد من الكرم والقسوة ومن الإنسانية والنذالة.»
وصار كل همه أن ينظر إلى نفسه فيلتمس لها من هذا الحرج مخلصا، وأطرق حينا يفكر فيما عساه يفعل في هذا الموقف المنكر، فلم يجد إلى الخلاص سبيلا إلا أن يعدل عن المضي في التحقيق وينفض منه يده نفضا.
وكان كل من حوله يحسبون أنه يفكر في حل لغز أو رسم خطة لتعقب الجناة، على حين كانت الأرض تدور به إذ خيل إليه أنه مقبل على فضيحة جرتها عليه دفعته الحمقاء، فلسوف يسخر منه إخوانه ويضحكون من سخافته وبلاهته، ولسوف ينظر إليه الرؤساء شزرا متى علموا أنه دعا نفسه إلى وليمة عند رجل بدوي حقير في قطعة منعزلة من الريف، ومن يدري ماذا يكون من أمر هؤلاء جميعا؟ ولسوف يرى بعضهم تعويضة بغير شك ولن يخفى عن أعينهم حسنها الوحشي العنيف، وما أجدر ذلك الحسن أن يبعثهم إلى الظنون! وخرج من الدار وليس يدري أين يسير، فاستجمع قوته وحملته قدماه إلى السيارة، ولم يسأله أحد ممن حوله عن مقصده، فما كان أحد ليسأل وكيل النيابة عن نواياه، وأمر السائق أن يحمله وحده إلى طرف الكوم البعيد على نحو كيلومترين من العزبة، فلما بلغه اتجه مسرعا نحو خيمة قوية المنكود.
وسمع قوية صوت السيارة فخرج مسرعا، فما كاد يراه حتى أقبل نحوه باسما، فصاح فؤاد يناديه في غلظة، وكان صوته بشعا، فزالت الابتسامة عن وجه قوية ونظر نحوه متعجبا مترددا مرتبكا، ومد يده في فتور ليصافحه وهو واجم من منظره، فجذبه فؤاد إلى ناحية الكوم وقال له في صيحة مكتومة: اصدقني أيها الرجل.
فنظر قوية إليه في دهشة وقال: كفى الله الشر يا سيدي فؤاد، ما لي أراك غاضبا؟
فقال فؤاد في جفاء: ما ذلك العجل الذي سرقته؟
فرفع قوية رأسه في تحد وقال غاضبا: العجل الذي سرقته؟!
Página desconocida