وانفتل قوية يريد الخروج، فقال ميسور يحدث أتباعه في صوت ساخر جامد: دعوه حرا.
وذهب قوية إلى أمه وامرأته فقص عليهما ما كان بينه وبين الرجل الرهيب، وكانت أمه تنظر إليه صامتة جامدة، وتعويضة تضع كفيها على جانبي وجهها في فزع.
ولما فرغ قال هادئا: كلها شهران فلا نبقى هاهنا، لقد علمت أن لا مقام لنا في هذه الأرض بعد موت الأفندي عليه رحمة الله.
وخرج إلى حقله يسحب بقرته وامرأته تسير إلى جنبه تسوق غنمها.
8
شغل فؤاد بعمله الجديد في النيابة، وكان في جدة عمله ما يملأ كل فراغ وقته، وكان دائما يذكر صديقه «سعيد» وأخته علية، ويتمنى لو جلس إليهما بعد كل يوم في الأمسية الهادئة لينعم بحديثهما، فلو عرفا ما في هذه الحياة التي أخذ يطلع عليها لوجدا فيها كثيرا مما غاب عنهما، كانا ينظران إلى الحياة من بعيد كما ينظر المنعم من نافذته العالية من وراء زجاجها الشفاف وستائرها الحريرية، فإذا رأى تحت نظره امرأة مهلهلة الثياب تسير على سطح الأرض مهتزة من الضعف، وتجمع بيديها السوداوين بقايا القشر من صندوق القمامة، سأل نفسه: أهذه العجوز التي تتطوح في قذرها تحس شيئا في أعماق قلبها؟ ألها أفراح تطرب لها أو أحزان تئن منها؟
كانا يبصران من الحياة ألوانا زاهية أو قاتمة، يجدان متعتهما في تصورها وفي تصويرها كأنها نوع من اللهو أو تزجية الفراغ، ثم يهتز قلباهما هزات رفيقة تبعث فنهما إلى الإبداع، ولكنهما كانا لا يزيدان على أن يرسما لها لوحة تحرك قلب كل من يراها، أو يمدان أيديهما بفضلة من الخير يملقان بها كبرياءهما، هكذا كانت تفعل علية، وهكذا كان يفعل سعيد كل على طريقته، ولكن «فؤاد» قد شاهد الحياة عن قرب ولمس ما فيها، وأحس لذعة آلامها وعنف دوافعها وخوالجها، كان يدخل للتحقيق إلى بيت الأرملة المسكينة التي ذبحت في الليل ذبحا عندما ذاع في القرية أن جنيها هبط إليها من بعيد إذ بعث به إليها ولدها الذي هاجر في الشتاء من قريته بالصعيد ليعمل نهارا وليلا، فإذا جال في البيت لم يجد به شيئا من أثاث ولا قطعة من طعام، فيسأل نفسه كيف طعم الحياة لمثل هذه المسكينة؟! وهكذا أخذ فؤاد يعرف الحياة عن قرب في حرها وزمهريرها وفي ضعفها وفجورها وفي إعطائها وحرمانها، وتمنى لو عرف سعيد وعلية شيئا مما عرفه، وكان أحيانا يكتب ما يثور في نفسه حتى لا ينساه إذا لقيهما في مدة الإجازة التي يقضيها معهما في الصيف إلى جانب الشاطئ الوديع في سيدي بشر، وإن كان شاطئ سيدي بشر قد هجر في أيام الحرب الطاحنة التي اندلعت نيرانها في الخريف الماضي، إذ كانت الحرب قد بدأت وانطلقت آثار العلم الحديث تتدفق على السهول فتفيض عليها هولا وتخريبا وفظاعة.
وجاء فصل الصيف وأراد فؤاد أن يقضي منه أياما في الإسكندرية، ولكن الإسكندرية كانت مدينة مهجورة أو تكاد تكون، فإن أكثر ثراتها هجروها وذهبوا إلى الريف أو عواصم الأقاليم لائذين بظلمتها وبعدها وسذاجة الحياة فيها، فإن من بركة هذه الأركان أنها غير جديرة في نظر الجيوش المتحاربة بأن تبعث إليها قنبلة!
وبعث إلى سعيد في الإسكندرية يستعيد به صلته، ولكنه لم يتلق منه جوابا، ثم أتى إليه كتاب منه بعد أسبوعين يعتذر عن تأخره بأنه تلقى الخطاب متأخرا بعد أن حول إليه من بلد إلى بلد حتى جاءه في القرية البعيدة التي نزح إليها، إذن فقد نزح سعيد وأخته إلى الريف، كما نزح غيرهما من السراة، وما كان ليحب أن يذهب إلى الإسكندرية وهما بعيدان عنها.
فذهب في القاهرة على كره، فإن حرها كان من قبل يبعث إليه ضيقا ويسبب لجسمه السقم، ولكن أمه كانت فيها ولم يكن له سبيل إلى غيرها، وكانت القنابل تهزها بين حين وحين، ولكنها مع ذلك لم تخل من أهلها كما خلت الإسكندرية، أكان أهل القاهرة أكثر وفاء لها؟ أم هم أكثر إيمانا واطمئنانا؟ أم هم أكثر غباوة وأقل قوة في الخيال؟ كان يسمع الناس في الطريق يقولون: إن القاهرة إذا هوت كان عليها أسماء الضحايا مقدورة منذ الأزل، أهذا من دلائل القوة أم من علامات الذهول والاستسلام الغبي؟ ولكن أهل القاهرة كانوا يمسون على فرقعة الآلات الجهنمية، ثم يصبحون غادين إلى أعمالهم في ثبات، فإذا دهمتهم فرقعة جهنمية أخرى في نهارهم أظهروا لها هدوءا عجيبا، وما هكذا يكون الاستسلام الغبي، إن هو إلا إيمان واطمئنان واستبسال يبعث إلى الاستهانة بالأخطار.
Página desconocida