فأخذ سعيد يتحدث إليه وهما يتجهان نحو المرسم عن أركانها الظليلة في الليالي القمراء.
ولما دخل الصاحبان إلى المرسم اقتسما عشاء خفيفا كان على مائدة في مدخله، ثم جلسا يتحدثان في غرفة المكتب المجاورة .
وقال سعيد بعد حين: ألا تحب أن تلقي نظرة على مرسمي؟
ولم ينتظر من صاحبه جوابا فسار إلى بهو فسيح، وأضاء أنواره وتبعه فؤاد، فكأنه دخل إلى عالم جديد، كان البهو مزدحما بما فيه من صور بعضها صغير معلق على الجدران وبعضها قائم على حوامل من الخشب في غير نظام، وهي مناظر شتى كأن الحياة الزاخرة اجتمعت فيها، ورأى فؤاد في صدر البهو إطارا كبيرا فيه صورة تتقد بألوانها تحت الأضواء الهادئة، فاتجه أول شيء إليها ووقف أمامها ثابتا، كانت صورة زنجي متسول ممن يحملون تلك القيثارة الساذجة ذات السلوك الجشاء، وكان يلبس ثيابا مهلهلة وفي وسطه حزام علقت به عناقيد من ودع وأسنان حيوان وخرز، وكان واقفا في قطعة من صحراء جرداء ليس فيها عود ولا حياة، وكانت أشعة الشمس تقع على رأسه العارية وظله رابض تحت قدميه، وكانت ألوان الصورة تتوهج حمرة وصفرة تنتهي إلى حواف قاتمة كأنها لهيب ينبعث منه دخان.
ولكن الزنجي المتسول كان يرقص مرحا واقفا على ساق واثبا بالأخرى يضرب بيده على قيثارته الساذجة، ووجهه الممتلئ قوة يفيض بالبشر والسعادة.
وكان سعيد واقفا إلى جانبه يتأمل الصورة صامتا، فلما طالت وقفة فؤاد أمام الصورة، فقال له سعيد: أقد أعجبتك؟
فقال فؤاد في حماسة: إنها مدهشة!
فتبسم سعيد مرتاحا وقال: إنها أعز لوحاتي علي.
وأجاب فؤاد: أظنك قد جمعت فيها كل فلسفتك. إن السعادة ليست وقفا على من نحسبهم السعداء.
فرفع سعيد يده ضاحكا وقال: أرجوك يا صديقي، لا تذكر الفلسفة إذا تحدثت عني، فأنا أبعد هذا الخلق عنها، إن الفلسفة والعلم كلاهما يفكر ويتعثر، وأما أنا فحسبي أن أحس.
Página desconocida