وكان الأساتذة والطلاب يستمتعون بهذه الحرية الحلوة السمحة في قصد واعتدال، فكان الأسبوعان الأولان من أيام الدرس أسبوعي حرية وسعة، كما كانا أسبوعي مودة وتعارف وبر.
يقبل الطلاب من بلادهم على مهل، فإذا أقبلوا تزاوروا وبر بعضهم بعضا، ثم سعوا إلى دروسهم على مهل أيضا. ويقبل الأساتذة من بلادهم في أناة وريث، فإذا أقبلوا هيئوا منازلهم للإقامة الطويلة، ثم سعى بعضهم إلى بعض بالتحية والود، ثم بدءوا دروسهم لا معجلين ولا مرهقين. على أن كثيرا من الأساتذة والطلاب كانوا يؤثرون العلم على أهلهم وأوطانهم، فمنهم من يقيم في القاهرة أثناء الإجازة دارسا في بيته أو في الأزهر نفسه أو في غيره من المساجد. ومنهم من كان يتعجل العودة إلى القاهرة متى سنحت له الفرصة وسمحت له الظروف؛ ليأخذ من الدرس الحر الخاص نصيبا قبل أن يبدأ في الدرس المنظم المشترك.
من أجل هذا كله كان الربع خاليا أو كالخالي حين أقبل عليه الصبي وأخوه، لم يكن يعمره إلا عمي الحاج علي وزميلان من زملاء الشيخ الفتى وهذان الفارسيان. ثم لم يكد الصبي يستقر في الربع يوما ويوما، حتى أخذ أهله يعودون إليه منفردين ومجتمعين مع الصباح ومع المساء، وحتى أخذ الربع يمتلئ بالحركة والنشاط، وترتفع فيه الأصوات من يمين وشمال، ويأخذ شكل المكان المزدحم بأهله أشد الازدحام. وقد كان مزدحما بأهله حقا: فقد كان بعض غرفاته يكتظ بالطلاب على نحو غريب، حتى لقد كان يسكن غرفة من هذه الغرفات عشرون طالبا.
كيف كانوا يجلسون؟ كيف كانوا يدرسون؟ كيف كانوا ينامون؟ هذه أسئلة ألقاها الصبي على نفسه ولكنه لم يجد لها جوابا، وإنما عرف أن أجر الغرفة لم يكن يزيد عن خمسة وعشرين قرشا، وربما نزل إلى العشرين في كل شهر، فكان الطالب يسكن بقرش واحد في الشهر على هذا النحو.
وهذا يصور حال هذه الجماعات الضخمة من أبناء الريف التي كانت تفد على القاهرة لتدرس العلم والدين في الأزهر؛ فتصيب من العلم والدين ما تستطيع، ولكنها تصيب معها ألوانا من علل الأجسام والأخلاق والعقول أيضا. وكانت الغرفة التي تلي غرفة الصبي من جهة اليمين خالية أثناء الأسبوع الأول، لم يسمع الصبي من قبلها صوتا أو حركة. ثم انقضى الأسبوع وأقبل أسبوع آخر، فلم تشغل الغرفة ولم تأت من قبلها حركة أو صوت، حتى أخذ الطلاب يتساءلون عن الشيخ الذي كان يسكنها قبل الصوم: ما خطبه؟ ويقول بعضهم لبعض: لعله تحول عن هذا الربع إلى مكان آخر. ولكن الصبي استيقظ في ليلة من ليالي الجمعة على صوت عمي الحاج علي يشق الليل وعلى صوت عصاه تضرب الأرض، ففكر كما كان يفكر، وانتظر صوت المؤذن كما كان ينتظره، وأذن مع المؤذن في نفسه كما كان يفعل. وانقطع الصوت، وجعلت نفس الصبي تتبع المصلين في المسجد وهم يقبلون على صلاتهم، منهم المتعجل النشيط ومنهم المتثاقل المتبلد، وإذا صوت غريب مرتفع يشق الحائط من وراء الصبي ويبلغ أذنه، فيبعث في جسمه رعدة تجري فيه من رأسه إلى قدميه. ولم ينس الصبي قط هذا الصوت، ولم يذكره قط إلا ضحكت له نفسه وإن شغل الجد شفتيه عن الابتسام. كان صوتا غريبا، ملأ الصبي رعبا أول الأمر، ثم دفعه إلى ضحك مرتفع لم يستطع أن يملكه على ما كان يخاف من إيقاظ أخيه: أل... أل... أل... الله الله الله أك ... أل... أل... الله أك... الله أك... الله أكبر ...
كذلك وصل الصوت إلى الصبي، فأنكر أوله وأنكر تردده، وعرف آخره. ولكن الصوت لم ينقطع عند انتهاء التكبيرة، وإنما استؤنف بعد ذلك مرة ومرة، حتى استقر آخر الأمر وقد أخذت حروف التكبير مواضعها من فم المصوت بها ومن الهواء ومن أذن الصبي ونفسه أيضا، ومضى الصوت من وراء الحائط بعد ذلك يقرأ الفاتحة، فعرف الصبي أنه صوت رجل يصلي، ومضى الصوت يقرأ الفاتحة حتى بلغ قول الله تعالى:
إياك نعبد وإياك نستعين ، فوقف عند السين ولم يستطع أن يتقدم، وإذا هو يستأنف التكبير على نحو ما بدأه: «أل... أل... أل... الله أك... أل... أل...» هنالك لم يملك الصبي نفسه فاندفع في ضحك مرتفع متصل استيقظ له أخوه فزعا، وسأل الصبي ما به؟ فلم يستطع الصبي جوابا، ولكن أخاه لم يحتج إلى هذا الجواب فقد سمعه من وراء الحائط، فاندفع هو أيضا في ضحك مكظوم، ثم قال للصبي في صوت خافت: مهلا؛ فهذا جارنا الشيخ فلان قد عاد وهو يصلي الصبح وهو شافعي.
واستأنف الشيخ الفتى صمته وهدوءه يدعو إليه النوم. وضبط الصبي نفسه وتتبع صوت الشيخ من وراء الحائط حتى أتم صلاته بعد جهد ثقيل. ولكن سؤالا قد استقر في نفس الصبي: ما بال هذا الشيخ الشافعي يكلف نفسه هذا الجهد وهذا العناء ولا يتم صلاته إلا بعد هذه المشقة التي لا تطاق؟ فلما أصبح سأل أخاه متشجعا، فعرف منه أن الشيخ موسوس بعض الشيء، وأنه يريد أن يحقق نية الصلاة، وأن يخلص قلبه ونفسه وضميره لله إذا أقبل على صلاته وفي أثناء مضيه فيها. فإذا رأيته يتردد ويعود من حيث بدأ ويقطع الصلاة ليبتدئها، فاعلم أنه قد أحس عارضا من أمور الدنيا عرض لنفسه فصرفها عما ينبغي أن تخلص له من ذكر الله.
وكان هذا الشيخ هادئا أشد الهدوء، لا يكاد يسمع له صوت ولا تكاد تسمع له حركة إلا إذا صلى الفجر، وقد احتاج الصبي إلى أيام وأيام ليعود نفسه هذا الصوت، وليسمعه دون أن يضحك منه أو يرثى لصاحبه من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس.
ولم يبق في نفس الصبي من هذا الشيخ بعد أن مضت الأعوام إلا ذكرى هذا الصوت، وذكرى قصتين شهد إحداهما بنفسه وتحدث إليه بالأخرى الرواة، فأما الأولى: فقد كانت للصبي مع الشيخ حين تقدمت به السن وحين تقدم به الدرس وحين بدأ يسمع دروس البلاغة، فقد ذهب يحضر درس الشيخ وسمعه يفسر الجملة المشهورة في «التلخيص»: «ولكل كلمة مع صاحبتها مقام.» وما أكثر ما يقال حول هذه الجملة من كلام في «المختصر» و«المطول» و«الأطول» وفي الشروح والحواشي والتقارير، وهي على ذلك واضحة جلية لا تعمية فيها ولا غموض. وكان الشيخ كغيره من شيوخ الأزهر يقبل على تفسير هذه الجملة وتقرير ما يقال حولها من كلام كثير، مجهودا مكدودا قد بح صوته وخارت قواه وتصبب جبينه عرقا، وأمانة العلم كما تعرف ثقيلة جدا لا ينهض بها إلا الأقوياء، وقليل ما هم.
Página desconocida