ومهما ينس الصبي فلن ينسى ليلة غلط فيها أحد المنشدين فوضع لفظا مكان لفظ من القصيدة، وإذا الشيخ قد ثار وفار، وأرغى وأزبد،
7
وصاح بملء صوته: يا بني الكلاب! لعن الله آباءكم وآباء آبائكم وآباء آباء أبائكم إلى آدم! أتريدون أن تخربوا بيت الرجل!
ومهما ينس الصبي فلن ينسى تأثير هذه الغضبة في نفوس الذاكرين، وفي نفوس الناس من حولهم، وكأن الناس قد اقتنعوا بأن الغلط في هذه القصيدة مصدر شؤم لا يشبهه شؤم، وأظهر أبو الصبي تأثيرا وفزعا، ثم اطمئنانا وهدوءا. فلما انصرف الشيخ من الغد وتذاكرت الأسرة ما كان من أمره، وما كان من قصته مع الذاكرين والمنشدين، ضحك صاحب البيت ضحكة لم يشك الصبي بعدها في أن إيمان أبيه بهذا الشيخ لم يكن خالصا من الشك والازدراء ... نعم من الشك والازدراء! فقد كان طمع الشيخ وحرصه أظهر من أن ينخدع بهما من له حظ من أناة وتفكير.
وكان من أشد الناس مقتا للشيخ وسخطا عليه أم الصبي، كانت تكره زيارته، وتستثقل ظله، وتؤدي ما تؤدي، وتعد ما تعد وهي كارهة ساخطة، لا تكاد تمسك لسانها إلا في مشقة وعناء؛ ذلك لأن زيارة الشيخ كانت ثقيلة على هذه الأسرة التي كانت تعيش من سعة، ولكنها كانت فقيرة على كل حال.
كانت زيارة الشيخ تستهلك كثيرا من القمح والسمن والعسل وما إلى ذلك، وكانت تكلف صاحب البيت الاقتراض لشراء ما لا بد منه من الضأن والمعز، وكان الشيخ لا يلم بهذه الأسرة إلا ارتحل من غده وقد أخذ شيئا راقه وأعجبه؛ يأخذ في هذه المرة بساطا، وفي هذه شالا من الكشمير، وعلى هذا النحو.
كانت زيارة هذا الشيخ وأصحابه شيئا ترغب فيه الأسرة رغبة شديدة، لأنه يمكنها من الفخر ورفع الرأس، ومناوأة الأشباه والنظائر، وتكرهه كرها شديدا لأنه يكلفها ما يكلفها من المال والمشقة. كانت شرا لا بد منه جرت به العادة، وصادف هوى في الناس. وكان اتصال الأسرة بهذا البيت من بيوت الطريق قويا متينا، ترك فيها آثارا باقية من الأخبار والقصص، وأحاديث الكرامات والمعجزا. وكانت أم الصبي وأبوه يجدان لذة في أن يتحدثا إلى أبنائهما بهذه الأخبار والأحاديث، ولم تكن أم الصبي تدع فرصة إلا قصت فيها هذه القصة: «حج أبي ومعه جدتي مع الشيخ خالد مرة، وكان الشيخ قد حج ثلاث مرات تبعه فيها أبي، واستصحب أمه في هذه المرة، فلما فرغوا من الحج وانصرفوا إلى المدينة، وقعت الشيخة في بعض الطريق من الرحل،
8
فانحطم ظهرها انحطاما، وعجزت عن المشي والحركة، وأخذ ابنها يحملها وينقلها من مكان إلى مكان، ويجد في ذلك من المشقة والعناء ما شكاه إلى الشيخ ذات يوم، فقال له الشيخ: ألست تزعم أنها شريفة من نسل الحسن بن علي؟ قال: بلى، قال: فهي ذاهبة إلى جدها، فإذا انتهيت بها إلى المسجد النبوي فضعها في ناحية منه، وخل بينها وبين جدها يصنع بها ما يشاء. وكذلك فعل الرجل؛ وضع أمه في ناحية من نواحي المسجد، وقال لها في لغة الفلاح الجافية يملؤها مع جفوتها الحب والإشفاق: أنت وجدك، فليس لي بكما شأن. ثم تركها وتبع شيخه يريد أن يطوف بقبر النبي. قال الرجل: فوالله ما خطوت خطوات حتى سمعت أمي تناديني، فالتفت فإذا هي قائمة تسعى، وأبيت أن أعود إليها، فإذا هي تعدو من ورائي عدوا، وإذا هي تسبقني إلى الشيخ وتطوف مع الطائفين.»
وكان أبو الصبي لا يدع فرصة إلا ذكر فيها عن الشيخ هذه القصة: ذكر أمامه أن الغزالي قال في بعض كتبه: إن النبي لا يمكن أن يرى فيما يرى النائم، فغضب الشيخ وقال: والله ما هكذا كان الأمل فيك يا غزالي! لقد رأيته بعيني رأسي هذا راكبا بغلته. وذكر له ذلك مرة أخرى فقال: والله ما هكذا كان الأمل فيك يا غزالي، لقد رأيته بعيني رأسي هذا راكبا ناقته، وكان أبو الصبي يستنبط من ذلك أن الغزالي قد أخطأ، وأن عامة الناس يستطيعون أن يروا النبي فيما يرى النائم، وأن الأولياء والصالحين يستطيعون أن يروه وهم أيقاظ. وكان أبو الصبي يثبت هذا بحديث يرويه كلما ذكر هذه القصة، وهو: «من رآني في المنام فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل بي.»
Página desconocida