على أن الرجل كان يستطيع أن يغمض عينه ويفتحها دون أن يرى أو يكاد يرى شيئا، فقد كان ضريرا إلا بصيصا ضئيلا جدا من النور في إحدى عينيه، يمثل له الأشباح دون أن يمكنه أن يتميزها، وكان الرجل سعيدا بهذا البصيص الضئيل ... وكان يخدع نفسه ويظن أنه من المبصرين ... ولكن ذلك لم يكن يمنعه من أن يعتمد في طريقه إلى الكتاب وإلى البيت على اثنين من تلاميذه، يبسط ذراعيه على كتفي كل واحد منهما، ويمشي الثلاثة في الطريق هكذا! قد أخذوها على المارة، حتى إنهم ليتنحون لهم عنها.
وكان منظر سيدنا عجبا في طريقه إلى الكتاب وإلى البيت صباحا ومساء، كان ضخما بادنا وكانت دفيته تزيد في ضخامته، وكان كما قدمنا يبسط ذراعيه على كتفي رفيقيه، وكانوا ثلاثتهم يمشون وإنهم ليضربون الأرض بأقدامهم ضربا. وكان سيدنا يتخير من تلاميذه لهذه المهمة أنجبهم وأحسنهم صوتا؛ ذلك أنه كان يحب الغناء، وكان يحب أن يعلم تلاميذه الغناء، وكان يتخير الطريق لهذا الدرس، فكان يغني ويأخذ رفيقيه بمصاحبته حينا، والاستماع له حينا آخر، أو يأخذ واحدا منهما بالغناء على أن يصاحبه هو والرفيق الآخر. وكان سيدنا لا يغني بصوته ولسانه وحدهما، وإنما يغني برأسه وبدنه أيضا؛ فكان رأسه يهبط ويصعد، وكان رأسه يلتفت يمينا وشمالا، وكان سيدنا يغني بيديه أيضا، فكان يوقع الأنغام على صدر رفيقه بأصابعه. وكان سيدنا يعجبه «الدور» أحيانا؛ ويرى أن المشي لا يلائمه فيقف حتى يتمه، وأبدع من هذا كله أن سيدنا كان يرى صوته جميلا، وما يظن صاحبنا أن الله خلق صوتا أقبح من صوته، وما قرأ صاحبنا قول الله عز وجل:
إن أنكر الأصوات لصوت الحمير
إلا ذكر سيدنا وهو يوقع أبياتا من «البردة» في طريقه إلى الجامع منطلقا لصلاة الظهر، أو في طريقه إلى البيت منصرفا من الكتاب.
يرى صاحبنا نفسه، كما قدمنا، جالسا على الأرض يعبث بالنعال من حوله، وسيدنا يقرئه سورة الرحمن، ولكنه لا يذكر أكان يقرؤها بادئا أم معيدا.
وكأنه يرى نفسه مرة أخرى جالسا لا على الأرض ولا بين النعال، بل عن يمين سيدنا على دكة أخرى طويلة، وسيدنا يقرئه:
أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ، وأكبر ظنه أنه كان قد أتم القرآن بدءا وأخذ يعيده. وليس غريبا أن ينسى صاحبنا كيف حفظ القرآن؛ فقد أتم حفظه ولما يتم التاسعة من عمره، وهو يذكر في وضوح وجلاء ذلك اليوم الذي ختم فيه القرآن، ذلك أن سيدنا كان يتحدث إليه قبل هذا اليوم بأيام عن ختم القرآن، وعن أن أباه سيبتهج به، وكان يضع لذلك شروطا ويطالب بحقوقه، ألم يكن قد علم قبل صاحبنا أربعة من إخوته ذهب واحد منهم إلى الأزهر، والآخرون إلى المدارس، وصاحبنا هو الخامس! فكم لسيدنا على الأسرة من حقوق! وحقوق سيدنا على الأسرة كانت تتمثل دائما طعاما وشرابا وثيابا ومالا، فأما الحقوق التي كان يقتضيها إذا ختم صاحبنا القرآن فعشوة دسمة قبل كل شيء، ثم جبة وقفطان، وزوج من الأحذية، وطربوش مغربي، وطاقية من هذا القماش الذي تتخذ منه العمائم، وجنيه أحمر، لا يرضى بشيء دون ذلك ... فإذا لم يؤد إليه هذا كله فهو لا يعرف الأسرة، ولا يقبل منها شيئا، ولا صلة بينه وبينها، وهو يقسم على ذلك بمحرجات الأيمان،
2
وكان هذا اليوم يوم أربعاء، وكان سيدنا قد أنبأ في الصباح بأن صاحبنا سيختم القرآن في هذا اليوم، وأقبلوا في العصر؛ يمشي سيدنا معتمدا على رفيقيه، ويمشي صاحبنا من ورائه يقوده يتيم من أيتام القرية، حتى إذا بلغوا البيت دفع سيدنا الباب دفعا، وصاح صيحته المعتادة: «يا ستار»، واتجه إلى المنظرة، فإذا فيها الشيخ قد انفتل
3
Página desconocida