كل ما لقيه بعد ذلك في حياته من خير أو شر، ومن عرف أو نكر، ومن رضا أو سخط، لم يكن إلا أثرا من آثار تلك السياسة التي أقدم عليها غير حاسب لأعقابها ونتائجها حسابا. وعلى كثرة ما لقي من أهوال السياسة وما احتمل من أثقالها، وما تعرض لسخط المتطرفين حينا والمعتدلين حينا آخر، لم ينكر من سيرته شيئا ولم يندم على فعل فعله أو قول قاله.
وكثيرا ما كان الناس من صديقه يلومونه على أنه عرض نفسه لسخط هذه الفئة أو تلك، فلم يكن يزيد على أن يهز رأسه ويرفع كتفيه ويجيب هؤلاء الصديق بما كان يديره بينه وبين نفسه دائما: لو استؤنف الأمر من حيث ابتدأ لاستأنف سيرته التي سارها، لم يغير منها شيئا ولم ينكر منها قليلا أو كثيرا؛ ذلك لأنه لم يستجب فيما قال أو فعل إلا لما كان يدعوه إليه ضميره من الإقدام في غير تهيب ولا وجل، ولا سيما حين يبلغ الشر أقصاه وتنتهى الفتنة إلى غايتها.
ولقد رأى نفسه ذات يوم وليس بينه وبين المحنة إلا خطوة إلى أمام، وليس بينه وبين العافية إلا خطوة إلى وراء، وأن أصدقاءه المحبين له العاطفين عليه الذين لم يكونوا يملكون له في تلك الأيام إلا المشورة والنصح، ليلحون عليه في أن يؤثر العافية، ولو وقتا قصيرا، فلا يسمع لمشورتهم ولا يحفل بإلحاحهم، وإنما يخطو خطوته تلك إلى أمام، فيلقي بنفسه بين ذراعي وجبهة الأسد كما يقول الشاعر القديم، وما أمض ما وجد ووجد أهله معه من ألم! وما أمر ما ذاق وذاق أهله معه من شقاء! ولكنه كان يستحب تلك الشدة الشديدة والقسوة القاسية على العافية واللين.
كان يعرف نفسه حين يشقى في سبيل ما يرى أنه الحق، وينكرها أشد الإنكار بل يبغضها أشد البغض إذا نعم بالخفض واللين؛ لأنه صانع أو داجى أو جهر بغير ما يسر أو آثر رضا السلطان على رضا الضمير، وكان شعاره دائما الشعار الذي كان يبادي به من يخاصمه، كما كان يبادي به من يغريه قول أبي نواس:
وما أنا بالمشغوف ضربة لازب
ولا كل سلطان علي أمير!
Página desconocida