وكانت آماله عراضا، فكان ينبغي أن يتخذ إليها أسبابها. وأول هذه الأسباب أن يعد نفسه لفهم الدروس التي تلقى في الجامعة، وسبيل هذا الإعداد أن يقرأ في أقصر وقت ممكن ما كان التلاميذ الفرنسيون ينفقون الأعوام الطوال في درسه بمدارسهم الثانوية، فليس له بد إذن من أن يكون تلميذا ثانويا إذا أوى إلى بيته، وطالبا جامعيا إذا اختلف إلى دروس السوربون.
وما أسرع ما نظر في برنامج المدارس الثانوية الفرنسية، واستخلص منه ما يحتاج إليه، وأزمع أن يدرس منه التاريخ والجغرافيا والفلسفة، وهذه الخلاصات الموجزة التي كانت تلقى إلى التلاميذ عن الآداب الأجنبية الأوروبية قديمها وحديثها .
قد أقبل على ذلك كله في عزم لا يعرف الضعف، وتصميم لا يعرف التردد ولا الفتور، واستطاع في وقت قصير أن يحصل من هذا كله ما يحصله التلميذ الذي كان يتقدم إلى الشهادة الثانوية مطمئنا إلى أن الممتحنين لن يردوه عن هذه الشهادة خزيان أسفا.
واستقامت له دروسه في السوربون فجعل يفهمها ويسيغها كما كان يفهمها ويسيغها زملاؤه الفرنسيون. واختار لنفسه أستاذا من أساتذة المدارس الثانوية يعلمه اللغة الفرنسية تعليما منظما، فلم يكن يكفيه أن يفهم إذا سمع، وأن يفهم الناس عنه إذا تحدث إليهم، وإنما كان يجب عليه أن يحسن العلم بحقائق هذه اللغة ودقائقها وأن يكتبها كتابة لا تنبو عمن يقرؤها.
وكان يقدر أن الأساتذة في السوربون، سيكلفونه بعض الواجبات المكتوبة، كما كانوا يكلفون غيره من الطلاب. فلم يكن له بد إذن من أن يتهيأ لتحرير هذه الواجبات حين تطلب إليه على وجه لا يعرضه للسخرية والازدراء. وما أكثر ما كان الأساتذة يسخرون من طلابهم إذا كتبوا لهم الواجبات فقصروا في بعض نواحيها!
وكان الأساتذة يقرءون بعض هذه الواجبات، يختارون من بينها للقراءة أشدها تعرضا للنقد، ثم يأخذون في هذا النقد على نحو لاذع ممض يحرضون به الطلاب على أن يحسنوا العناية حين يكتبون. وكانت سخريتهم بالمقصرين تضحك الزملاء وتخرجهم أحيانا عن أطوارهم.
فكره الفتى أن يتعرض لبعض هذه السخرية، ولكنه تعرض ذات يوم لشر منها؛ كلفه أستاذ تاريخ الثورة الفرنسية فيمن كلف من زملائه كتابة موضوع عن الحياة الحزبية في فرنسا بعد سقوط نابليون. فأقبل على هذا الموضوع فدرسه كما استطاع في الكتب التي نبه إليها الأستاذ، وفكر فيه كما استطاع أيضا. ثم كتب عنه ما أتيح له أن يكتب، وقدمه إلى الأستاذ في اليوم الموعود. وجاء يوم النقد فاستعرض الأستاذ ما قدم إليه من الواجبات ناقدا ساخرا منددا متندرا موبخا بعض الطلاب أحيانا، حتى إذا ذكر اسم الفتى لم يزد على أن ألقى إليه واجبه معقبا بهذه الجملة المرة التي لم ينسها قط: «سطحي لا يستحق النقد.» وكان لهذه الكلمة وقع لاذع في نفس الفتى أمضه بقية يومه، وأقض مضجعه حين أقبل الليل، وأشعره بأنه لم يتهيأ بعد كما ينبغي ليكون طالبا في السوربون، فألح في درس الفرنسية، وكلف نفسه في هذا الدرس من الجهد الثقيل والعناء المتصل ما كاد يصرفه عن غيره من الدروس، وأعرض عن المشاركة في كتابة الواجبات حتى تتم له أداة هذه الكتابة وهي اللغة الفرنسية.
وبينما كان الفتى يمتحن بأثقال هذه الحياة المادية والعقلية العسيرة، مجاهدا ما استطاع الجهاد، مروعا بين حين وحين بهذا اليأس الذي كان يتراءى له من وقت إلى وقت فيشقيه ويضنيه، فتح له باب من أبواب الأمل لم يكن يقدر أنه سيفتح له في يوم من الأيام؛ ألمت علة طارئة بصاحبة ذلك الصوت العذب الذي كان نعيمه الوحيد في حياته الشاقة المظلمة، فأقبل يعودها وجلس يتحدث إليها، ثم لم يدر كيف التوى به الحديث، ولكنه سمع نفسه يلقي إليها في صوت أنكره هو قبل أن تنكره هي؛ أنه يحبها.
ثم سمعها تجيبه بأنها هي لا تحبه.
قال: وأي بأس بذلك؟
Página desconocida