وهل يأبق الإنسان من ملك ربه
فيخرج من أرض له وسماء؟!
وما أسرع ماكان الفتى ينسى هذه الكلمات المؤذية بعد أن يشتري هذا النسيان بليلة ينفقها مسهدامحزونا! ثم يقبل بعد ذلك على ما لم يكن بد من الإقبال عليه من العلم في الأزهر، وفي الجامعة المصرية، وفي جامعات فرنسا.
كان الفتى يرى حياته في الجامعة عيدا متصلا، كما كان يراها غيره من المصريين، ولكنها كانت بالقياس إليه عيدا تختلف فيه ألوان اللذة والغبطة والرضا والأمل، كانت تخرجه من بيئته تلك الضيقة المقلقة في الأزهر، وفي حوش عطا أو درب الجماميز إلى بيئة أخرى واسعة لا حد لسعتها؛ فهي كانت تتيح له أن يملأ رئتيه من الهواء الطلق حين يسعى إلى الجامعة وحين يعود منها، وأن يملأ عقله من العلم الطلق الذي لا يقيده تحرج الأساتذة الأزهريين فيما كانوا يلقون من الدروس، ولا يفسده الإسراف في القنقلة والجدال حول هذا اللفظ أو ذاك، وإضاعة الوقت في الإعراب حين لا يكون بين الدرس وبين الإعراب صلة.
وكانت هذه البيئة تتيح له كذلك علما يخلق نفسه خلقا جديدا لا يتصل بالنحو ولا بالفقه ولا بالمنطق ولا بالتوحيد، وإنما يذهب به مذاهب مختلفة في الأدب وفي ألوان من التاريخ لم يكن يقدر أنه سيعرفها في يوم من الأيام. ولم ينس الفتى يوما خاصم فيه ابن خالته الذي كان طالبا في دار العلوم ولج بينهما الخصام، فقال الدرعمي للأزهري: ما أنت والعلم! إنما أنت جاهل لا تعرف إلا النحو والفقه، لم تسمع قط درسا في تاريخ الفراعنة! أسمعت قط اسم رمسيس أو إخناتون؟!
وبهت الفتى حين سمع هذين الاسمين، وحين سمع ذكر هذا النوع من التاريخ. واعتقد أن الله قد كتب عليه حياة ضائعة لا غناء فيها. ولكنه يرى نفسه ذات ليلة في غرفة من غرفات الجامعة يسمع الأستاذ أحمد كمال رحمه الله يتحدث عن الحضارة المصرية القديمة، ويذكر رمسيس وإخناتون وغيرهما من الفراعنة، ويحاول أن يشرح للطلاب مذهبه في الصلة بين اللغة المصرية القديمة وبين اللغات السامية، ومنها اللغة العربية.
ويستدل على ذلك بألفاظ من اللغة المصرية القديمة يردها إلى العربية مرة وإلى العبرية مرة وإلى السريانية مرة أخرى، والفتى دهش ذاهل حين يسمع كل هذا العلم، وهو أعظم دهشة وذهولا حين يلاحظ أنه يفهمه ويسيغه في غير مشقة ولا جهد.
وهو يعود إلى بيته ذلك المساء وقد ملأه الكبر والغرور، ولا يكاد يلقى ابن خالته حتى يرفع كتفيه ساخرا منه ومن دار علومه تلك التي كان يستعلي بها عليه. وهو يسأل ابن خالته أتتعلمون اللغات السامية في دار العلوم؟! فإذا أجابه بأن هذه اللغات لا تدرس في المدرسة أخذه التيه، وذكر العبرية والسريانية ثم ذكر الهيروغليفية، وحاول أن يشرح لزميله كيف كان المصريون القدماء يكتبون، وتنقلب الآية ويصبح المغلوب غالبا والغالب مغلوبا.
ويمضي العام الأول من الحياة الجامعية عيدا كله، لا يحس الفتى سأما منه أو ضيقا به، وإنما يحس الحزن الممض حين تبدو طلائع الصيف.
وينفق الإجازة كلها مفكرا فيما سمع، ومشوقا إلى ما سيسمع في العام المقبل، ومتسائلا عمن يبقى من الأساتذة الذين عرفهم ومن يدعى من أساتذة لم يعرفهم. ثم لا يلبث أن تستأثر الجامعة بعقله كله وجهده كله، وأن تشغله عن كل شيء آخر؛ فقد أقبل أساتذة جدد ملكوا عليه أمره واستأثروا بهواه، فهذا الأستاذ كارلو نالينو المستشرق الإيطالي يدرس باللغة العربية تاريخ الأدب والشعر الأموي. وهذا الأستاذ سنتلانا يدرس بالعربية أيضا، وفي لهجة تونسية عذبة، تاريخ الفلسفة الإسلامية وتاريخ الترجمة خاصة. وهذا الأستاذ ميلوني يدرس باللغة العربية كذلك تاريخ الشرق القديم، ويتحدث إلى الطلاب عن أشياء لم يتحدث عنها أستاذ قبله في مصر؛ فهو يفصل تاريخ بابل وآشور، ويذكر الكتابة المسمارية، ويتحدث عن قوانين حامورابي، والفتى يفهم عن هؤلاء الأساتذة كل ما يقولون، لا يجد في فهمه التواء أو عسرا، وهو لا يكره شيئا كما يكره انتهاء الدروس، ولا يتشوق إلى شيء كما يتشوق إلى ما سيستقبل منها.
Página desconocida