الأيام الخضراء
أحببت وهمي
أخلفت الموعد
ملاعب الصبا
لقاء ولا وداع
فوق السعادة
الطابق الأعلى
حنان وهوى
على الطريق
حديث ولقاء
Página desconocida
وظيفة دائمة
وأنا ... ما ذنبي
هو الله
سماء ولا أرض
الرحمة القاسية
عودة السيد سكر
الأيام الخضراء
أحببت وهمي
أخلفت الموعد
ملاعب الصبا
Página desconocida
لقاء ولا وداع
فوق السعادة
الطابق الأعلى
حنان وهوى
على الطريق
حديث ولقاء
وظيفة دائمة
وأنا ... ما ذنبي
هو الله
سماء ولا أرض
Página desconocida
الرحمة القاسية
عودة السيد سكر
الأيام الخضراء
الأيام الخضراء
تأليف
ثروت أباظة
الأيام الخضراء
أحببتها وأنا لا أدري ما الحب، عرفه الناس معنى أو عرفوه شجوا وأسى وألما، أو لعلهم عرفوه خيالا وأحلاما ورؤى، أما أنا فعرفته لعبا في الملعب، وتقاذفا بالكرة، وقفزا وجريا وضحكا، ولهوا عابثا، كنت ألقاها لم أغير من ملابس المدرسة شيئا اللهم إلا تلك المريلة التي كانوا يضعونها فوقي، وكانت تلقاني هي أيضا بلا تجمل أو زواق اللهم إلا أن تخلع هي أيضا تلك المريلة التي كانت توضع عليها، ثم نلتقي في فناء منزلها أو في فناء منزلنا بغير ميعاد مدبر أو اتفاق سابق، وإنما ينزل كل منا إلى صاحبه، ويكون اللعب في أقرب فناء من اللقاء.
أحببتها يوم ذاك وأحبتني، أحببتها كما أحب الكرة التي كنا نلعب بها، أو كما أحب الحبل الذي كنا نقفز من فوقه، وأحبتني هي أيضا كحبها لهذه الأشياء، وما كنا ندري من الحب إلا حبنا لهذه الأشياء.
كان كل منا يرى الآخر مكملا للعبه، كما يرى الكرة والحبل مكملين للعبه. كان كل منا يحب الآخر كجزء من مرح الطفولة وحلاوة اللعب وعربدة اللعب.
Página desconocida
لم تكن تعرف من أنا بالنسبة إليها وما كنت أدري، قصارى الأمر بيننا أنني كنت أعرف أنها بنت لأنها ترتدي ملابس البنات، وأنها كانت تعرف أنني ولد لأنني أرتدي ملابس الأولاد. لم أكن أعرف الأنثى فيها، ولم أكن أعرف معنى الأنوثة جميعا، بالنسبة إلى الرجل، ولم تكن تعرف الرجل في ولا معنى الرجولة الذي أمثله، لا ولم تكن تعرف الرجل بالنسبة للأنثى.
لم يكن هذا الجهل يمنعني أن أقدمها على نفسي، وأترك لها فرصة أن تغلبني في بعض الأحيان، وليس في كل الأحيان، وأن أهفو إليها مسرعا إذا سقطت، وتسارع هي إلي إذا وقعت، ولكن أكان هذا قبل أن ندرك شيئا عن الهوى؟ أم أنه كان بعد أن أدركنا شيئا من معناه؟ أكان هذا الاهتمام بها ونحن في الطفولة الأولى البلهاء أم أنه كان ونحن في أواخر الطفولة مشرفان على الوعي أو بعض الوعي؟
أتراه حين كنا في الطفولة الواعية التي تحس ولا تبين ولا تشعر ولا تعبر وتخفق ولا تنطق؟! أتراه كان كذلك، وكيف لي أن أذكر؟
لقد شب حبي معي فاختلطت أدواره وتمازجت أيامه فما أدري كيف عرفته؟ وكيف استبان في كامل الوعي مني؟ أتراني عرفته حين كنت ألقاها ونحن في بواكير الشباب فتعلو وجهها الحمرة، وتمسك بلساني لعثمة فتمر بي وأمر بها لا يحيي الواحد منا صاحبه إلا بهذه الحمرة، وإلا بتلك اللعثمة، لا، لقد عرفت الحب قبل ذلك، عرفته وجيبا وخفقا في الفؤاد شديدا إن أنا ذكرتها، وإن أنا خلوت إلى نفسي؛ فقد كنت أذكرها كلما خلوت إلى نفسي، وعرفته هائم الفكر حذرا أخشى أن يكون حبها وهما من الأوهام. قرأت عن الحب وسمعت به من الرفاق، وعرفت ما الرجل وما الأنثى ورحت أنطلق في فسيح الفضاء لا أفكر إلا فيها، أخشى كلما فكرت في حبها أن يكون وهما من الأوهام.
وفي يوم لقيتها وقد خلا بنا الطريق، وعلت الحمرة وجهها وأمسكت اللعثمة لساني، ولكن الطريق خال بنا نسير في اتجاه واحد متباعدين، فوجدتني أثوب إلى نفسي بعض الشيء ووجدتني أقترب منها، ووجدت حمرة الخجل تزداد وضوحا على وجهها، ولكني كنت قد جمعت بعض نفسي، وكنت قد دربت لساني طويلا على الجملة التي سينطلق بها، فما إن اقتربت حتى ألقيت جملتي مفككة المقاطع متباعدة الكلمات ولكني نطقتها وسمعتها وأجابت، وأود لو أجابت بغير لسانها إلا إنها أجابت على أية حال، نعم أذكر ما قلت: «ماشية وحدك يا هناء.»
وأومأت برأسها أن نعم، ثم ترابطت الكلمات فرحت أحادثها، وراحت هي تضحك أو تبتسم أو تسكت لا تقول شيئا، لا شيء على الإطلاق اللهم إلا قولتها في آخر حديث لي: أخاف أن يرانا أحد.
فأتلفت حولي مذعورا وما إن أثق من خلو الطريق حتى أقول لها: لا تخافي.
ثم أعود إلى حديث طويل ما زلت أدرج فيه من موضوع إلى آخر حتى استطعت آخر الأمر أن أرجوها لتسمح لي بانتظاري لنقطع هذا الطريق سويا، ولم تجب إلا بجملتها الوحيدة: أخشى أن يرانا أحد.
ولكني ظللت مع الأيام ألتقي بها في الطريق، وأحكي لها وتستمع هي، لم أقل لها - أحبك - فقد خشيت إن أنا قلتها ألا تراني بعدها أبدا، لقد كان الطهر الذي يشيع حولها مخيفا يمسك لساني بل يمسك عقلي أن يفكر في التصريح بحبي لها، وينقضي الطريق، وأعود إلى الوحدة، وأعود إلى خوفي ألا تكون محبة لي، ولم أخلص من حيرتي وخوفي إلا بالمذاكرة العنيفة؛ فقد انتهيت إلى أنني ما زلت في المرحلة الثانوية وأنها قد تتزوج قبل أن أحصل أنا على شهادة التوجيهية؛ فذاكرت ومنيت نفسي أنني إذا صرت في الجامعة قد أجد بعض الجرأة أن أخطبها ونتزوج، ذاكرت كما لم أذاكر من قبل، وأصبحت أعد السنين عدا، وأطارد الزمن في عنف وإصرار حتى أصبحت في التوجيهية، وسمعت همهمة تدور حولي أن هناء معرضة للخطبة، ولقيتها في الطريق وسألتها فازداد وجهها احمرارا وتلعثم لسانها وهي تقول: نعم. - وماذا فعلت؟ - رفضت الخطبة. - صحيح؟ - صحيح.
ولم أسأل لماذا رفضت؛ فقد أبى حبي أن يجعل للرفض سببا إلا أنها هي تحبني، وألهيت الزمن بالمذاكرة، كنت لا أفيق من الكتاب إلا في موعد عودتها من المدرسة، لا أفكر إلا في أن أحصل على الشهادة لأصبح جديرا بها، وكنت أفكر إذ ذاك في شيء آخر طالما ضقت بالتفكير فيه، لقد كان أبي خريج جامعات أوروبا وكان أمله أن يرسل بي إلى جامعته لأنال فيها الشهادة التي نالها، وقد كنت تواقا إلى تحقيق أمله هذا؛ فقد كان أملي أيضا، ولكني كنت كلما فكرت في اغترابي عن هناء بعيدا، بل بعيدا عن حبها، بل بعيدا عن مصر كلها، لا أشم النسمة التي تداعب شعر هناء، ولا أتنفس الهواء الذي تتنفسه، ولا أشرب الماء العذب الذي جرى في دمائها والذي يتحول على وجهها حمرة خجل كلما لقيتها، كلما فكرت في ذلك أحسست شيئا قويا عنيفا يهيب بي ألا أسافر.
Página desconocida
كان التفكير فيها وفي السفر يعسر علي كثيرا من الكتب فأسرح وأطيل التفكير، حتى لقد كان صديقي أشرف ينتبه إلى انصرافي عن المذاكرة فيسألني عما بي، وقد كتمت عنه حبي فترة طويلة من الزمان؛ فقد كنت أخشى أن يجعله سخرية ويجعل مني ضحكة له، ولكنه اكتشف حبي حين رآني معها في الطريق، فلم أستطع الكتمان وألقيت إليه بخبيئة قلبي في جد حازم جعله يأخذ مأخذا لا مجال فيه لغير المشاركة العنيفة، ولكن هذا لم يمنعه أن يحثني على المذاكرة بدلا من السرحان؛ فنفضت إليه خشيتي أن تتزوج قبل أن أحصل على الشهادة، وخشيتي أن أسافر إلى الغرب، وكان يقول: هل تتردد في السفر من أجل هذا؟ إنك إن لم تسافر وتزوجتها لظللت طول عمرك تكرهها لأنها كانت حجر عثرة في سبيل مستقبلك، ولظلت هي طول حياتها تكره نفسها وتكره زواجها بك لأنه منعك من المستقبل اللائق بك، لا، اخطبها وسافر. ولكن لا بد لك أن تسافر.
وحصلت على الشهادة وراح أبي يجهز لسفري، ورحت أنا أتحين الفرصة لأحادثه في أمر خطبتي، ولكن كيف؟ كنت طفلا كبيرا في السابعة عشرة من عمري أحس أنا أني كبير وأفهم كل شيء، بل لعلي كنت معتقدا أنني أفهم ما لا يفهمه أبي نفسه، ولكن من يعترف معي بكبري هذا وعقلي وحكمتي؟! كان أبي وأمي يعاملانني كأني طفل لا أزال، حتى لقد فكرا أن يرسلا معي خادما إلى الخارج ليرعى شأني، ويقوم على أموري فما استطعت أن أصرفهما عن هذا التفكير إلا بشق الأنفس وكثير اللجاج، بل وبالبكاء أيضا، نعم بالبكاء فقد كنت حتى ذلك الحين أبكي إن أصر أبي على أمر لا أريد تنفيذه.
كيف إذن أحدثهما عن حبي، وعن رغبتي في الخطبة وهما يريان أنني ما زلت محتاجا إلى ...!
لم أجد من ألقي إليه بما أنا فيه إلا صديقي أشرف الذي عرف حالي جميعا أثناء المذاكرة، قصدت إليه في بيته وظللت أقول وأقول، وأبين له كيف أنهم يجهلون في بيتي قدري، وكيف أنهم يستصغرون شأني ويستهينون بعبقريتي، وكان أشرف يكبرني بعض الشيء فانتهز الفرصة وراح يقف مني موقف المرشد الناصح، وأنا أضيق بحديثه غاية الضيق حتى لم أطق أن أكمل الجلسة، وخرجت من عنده وأنا أشد ضيقا مما كنت حين قصدت إليه.
وتحدد موعد السفر، وما لبث هذا الموعد أن حل، وأصبحت في اليوم الذي سأسافر في مسائه، وقد عزمت أمري على مفاتحة أبي، وقد هيأ لي الوهم أنني ما إن أخبره برغبتي في الزواج حتى يسارع إلى أهل هناء فيخطبها لي في نفس اليوم، بل في نفس الساعة.
قصدت إلى حجرة أبي وقد أعددت نفسي إعدادا تاما، ولكن لم أجد أبي؛ فقد انصرف في باكر الصباح ليكمل ما أحتاج إليه، وأخبرهم في البيت أنه لن يرجع إلا بعد الظهر.
ولم أطق أنا البقاء فخرجت عازما ألا أعود أنا أيضا إلا بعد الظهر.
وبعد الظهر عدت، وما كدت أصل إلى الحي حتى تدافعت إلى أذني زغاريد تنبعث من بعيد ويقترب صداها كلما اقتربت إلى البيت، ماذا ترى بعث هذه الزغاريد؟ ليس هناك إلا سبب واحد.
لا بد أن أشرف أخبر أبي برغبتي في الزواج من هناء، وأراد أبي أن يفاجئني بهذه المفاجأة الهائلة الرائعة العظيمة، كم هو عظيم أبي هذا! كم هو وفي أشرف صديقي! أحقا تحققت الأحلام؟ أحقا هدأ لي مضطرب الفؤاد واستقرت بي نفسي الحائرة؟ وتزداد الزغاريد قوة وكأنها تجيب أن نعم، نعم، لقد تم لك ما تريد.
وبلغت مصدر الزغاريد، إنه بيت هناء، إذن فهو ما فكرت فيه، وإذن تحققت الآمال، ووجدت بالباب سيارات وقوما متجمعين، ووجوها يطيب البشر من قسماتها، ولكن أين أبي من هؤلاء؟ أين سيارته؟ وأين سائقنا؟ أين نحن في هذه الجموع؟ لا، لم يكن هناك، عدوت جريا إلى منزلنا فوجدت أبي جالسا في مكتبه، ورأى اضطرابي وأدركه، ولكن لم يلفت أمره ولم يسألني، «ما لك؟» بل قال في صوت شوق عاطف: أين أنت يا أخي؟ أتترك البيت في هذا اليوم وسيأتي الناس لتوديعك، وأمك تهفو أن تقضي معك هذه الساعات التي تسبق سفرك؟ - والله كنت ... كنت ... كنت أودع أصحابي ... أبي ... - نعم. - أبي ... - نعم. - ما هذه الزغاريد؟ - يا سيدي هناء تخطب اليوم، وأنا ذاهب لأهنئ أباها فقد دعاني الرجل وألح علي أن أذهب، وهو يريدك أيضا، أتأتي؟
Página desconocida
وتلعثمت وأنا أجيب أبي بأسى قانط مرير: لا، لا يا أبي فإني سأنتظر مع أمي، وأنتظر المودعين. وابتسم أبي ابتسامة وجدتني أمامها عاريا من سري الكبير، لقد كان الرجل يعرف كل شيء، قال لي ذلك، قالها دون أن ينطق كلمة واحدة، قالها في ابتسامته تلك التي ترقرقت على محياه، وخرج.
وخلوت أنا إلى حجرتي، لم أنتظر المودعين، ولم أجلس إلى أمي، وإنما لجأت إلى الكذبة التي يستعملها الجميع إذا شاءوا أن يخلوا إلى أنفسهم، نعم ادعيت مرضا وصداعا، وخلوت إلى حجرتي، أستعيد الأيام، أيام الفناء والكرة والحبل والطريق واللعثمة والحمرة، والأحاديث، ذهب هذا جميعه، هذه الخائنة، ولكن ما ذنبها؟! وهل تملك من أمر نفسها شيئا؟ بل هل أملك أنا من أمر نفسي شيئا؟! ها أنا ذا مسوق إلى السفر، مرغم على السكوت حتى لا أستطيع أن أنبث بخالجة نفسي ورغبتي، ما ذنبها؟ إنما يحكم عليها من يحكم علي، آه من الآباء! فكرت ألا أسافر، ولكن ماذا أقول، وكيف أعصي أبي، لا إني سأسافر لا لأني خائف من أبي، ولكنني سأسافر لأني زعلان من أبي، ولماذا أزعل منه؟! هل أخبرته بشيء؟ لقد كان يعلم، وماذا كنت أنتظر؟ أن يأتي هو إلي ويقول لي سأخطب لك هناء، وما له! ولماذا لا يفعل؟ نعم سأسافر لأنني زعلان.
وسافرت ومضت السنون بي في أوروبا، وخطابات أشرف توافيني بأخبار هناء فتحيي في القلب حبا كان خليقا أن يضعف.
رأيت المرأة في الغرب، رأيتها في أوضح صورها بشاعة، وكانت رؤيتي لها تعيد حبي لهناء إلى شبابه الأول، أرى العيون الفاجرة، فأذكر عيونها المسبلة! وأرى الوجوه البريئة فأذكر حمرة وجهها! وأرى الأجسام الفائرة فأذكر جسمها الذي لا يبعث إلى ذهنك إلا فكرة الورود تتفتح عنها أكمامها في حياء وفي زهو وفي كبر، أرى النسوة عاريات وإن سترت أجسامهن الملابس، فأذكر ذراعيها العاريتين يسترهما جلال الحياء فيها وبراءة الأجواء التي تشيع من حولها. ورأيت الغرب فعرفت المرأة فازداد حبي لحبي الطفل الذي تركته في مصر بين أيد غريبة عني وعنها وعن طفولتنا وصبانا ومطالع شبابنا.
كنت قد أوشكت أن أنتهي من دراستي حين جاءني خطاب من أشرف يحمل إلي نبأ عجيبا، لقد مات زوج هناء، مات، يا لفرحتي! ودوى عن الفرحة ضمير بريء يستجدي أن يفرح للموت، عدت إلى خطاب صديقي، يا له من مقصر! ألا يذكرني إن كانت هناء تعيسة بموته وما مدى تعاستها، ولم يذكر الخطاب أين تسكن، أوحدها أو مع والديها؟
ولم يحن موعد عودتي إلى مصر إلا وأنا أعلم كل شيء عن هناء؛ أين تسكن، ومتى تخرج، ومقدار حزنها، ومدى تمتعها بالحياة.
عرفت كل شيء.
ووصلت إلى مصر، فكان أول ما عملت أن اتصلت بها بالتليفون. - أتراك تذكرينني؟ - أعرف الصوت ولا أصدق أذني، أتراك هو؟ - أنا هو. - أنت ... - أنا ... عرفتني؟ - وهل تتصور أن أنساك؟ وهل تتصور أنني نسيتك؟ - أكلمك لأعزيك. - شكرا، متى أراك؟ - وتلعثمت وأنا أقول: ترينني؟! - طبعا، ما لك هكذا وكأنك لم تسافر إلى الخارج. لا تزال اللعثمة تعتريك! - متى أراك؟ - كما تحب! - الآن؟ - الآن.
واتفقنا على الموعد وذهبت إليه، غير أن في الصوت جرأة، وفي الحديث امرأة وفي اللهجة إقبال، ماذا ترى حدث؟ أن تدعوني هي إلى اللقاء وقد كانت لا تلتفت إلي وأنا أحدثها في الطريق، هذا الصوت، وهذه اللهجة ليست غريبة علي، إنني أعرفها، سمعتها ، ولكن بلغة غير اللغة، نعم لقد كن هكذا يحادثنني في الخارج، ترى ألم تصبح هناء ... هناء.
وأقبلت في الموعد، امرأة، ربتة العود عالمة العينين خبيرة النظرات، متجملة الوجه، متأنقة الملبس، وجلست.
Página desconocida
وتحادثنا، كنت أحادثها عن أيام الطفولة والصبا، وراحت تحادثني عن الأنوثة التي التقيت بها في أوروبا، راحت تسألني في جرأة عارية عما فعلت في أوروبا، بل راحت تنبئني عما فعل بها زوجها.
ذعرت، ليست هذه هناء، إنها امرأة، عرفت مثيلاتها الكثيرات، ليست هذه حبي، ليست هذه طفولتي، لا ولا هذه أحلامي، أرجعوا الأيام، أعيدوا إليها طفولتها، وصباها وبواكير شبابها لأرى طفولتي وصباي وبواكير شبابي.
كان لقاؤنا الأول هو الأخير، حاولت أن تدعوني فما زادني هذا إلا بعدا، لقد فقدت هناء التي عرفتها؛ فما خلقت إلا امرأة، امرأة كاملة ولكن ليس لي فيها ذكريات ولا آمال.
أحببت وهمي
لا تلمني يا صديقي وأنت كثير اللوم. نعم إني أسرف في إنفاق المال وأرمي به في كل متجه، لا أفكر في العاقبة ولا أريد أن أفكر فيها، ولكن لا تلمني فما تدري أنت مقدار السعادة التي أحس بها وأنا أقذف بهذا المال، لا، لا تدري وأرجو الله ألا تدري أبدا، وأرجو الله ألا تحس بهذه السعادة التعسة التي أحسست بها.
قد انقطعت عنك شهورا فما تعلم من أمري شيئا، وقد كان آخر ما بيني وبينك أنك عرفت بخطبتي وهنأتني في لقاء عابر سريع، ثم درت أنا في هذه الدوامة التي لم أفرغ منها إلا اليوم.
لم تعرف شيئا عن خطيبتي، نعم لم تعرف شيئا عن ندى، أحببتها يا أخي منذ أنا صبي يدرج إلى باكر الشباب وأحبتني، رأيت فيها فتاة منسوجة من الإشراق، فهي حيثما تحل فرحة نشوى، المرح مجالها، والنور مسبحها، والصفاء محياها، والطهر هي ...
أحببتها يا أخي فخطبتها فازددت حبا لها، وأي عجب أن أحب خطيبتي، ومرت بنا في أيام الخطبة فترة وسنانة حالمة حييت فيها بقلب خافق ينتابه الذعر من الغد؛ فقد اعتادني الذعر منذ غمرتني هذه السعادة. ولكنني كنت حين أسير معها أنسي سعادتي وذعري، ولا أذكر إلا أنني أسير مع ندى وقد التف ذراعها على ذراعي فأحس كأن ذراعها ستار يحجب عني من الدنيا شرورها، ويفسح أمامي مجالات الجمال فيها والإشراق.
كان هذا يا صديقي، ثم كانت ليلة اتفقنا فيها على أن نذهب إلى السينما في الغد، وتركتها وأنا أفكر في هذا الغد وأنتظره حتى جاء فاشتريت التذاكر، وذهبت إليها قبل الموعد وانتظرتها على أسفل السلم في بيتها. وطالت بها الغيبة فأخذت أصيح في مزاح جاد وأخذ أهلوها يضحكون من ثورتي المرحة ويشاركونني فيها حتى بدت أخيرا على رأس السلم مشرقة حلوة ضاحكة مشاركة في الصياح المرح، وراحت تنزل السلم وثبا، ولكنها توقفت في منتصفه هنيهة لم يلحظها إلا أنا، وتابعت وثبها إلى أسفل حتى أدركتني.
وسحبتها من يدها إلى الخارج دون أن أتيح لها أن تعرض أناقتها على أمها وأبيها. واحتوانا الطريق وفي نفسي غصة جاهدت نفسي على إخفائها بعض الحين ثم لم أطق السكوت: ندى ... - هيه ... - لماذا توقفت وأنت تنزلين السلم؟
Página desconocida
وكان السؤال مفاجأة لها فقد كانت تأمل ألا يرى أحد توقفها.
فقالت في تردد: أنا؟ - نعم أنت، لماذا توقفت؟ - يا أخي، مسألة بسيطة، ألا يفوتك شيء أبدا؟! وماذا ستفعل؟! - أتخفين عني؟ عني أنا؟! أنا طبيب فإن كنت لا أعجبك فدعيني أذهب بك إلى أي طبيب يعجبك. - يا سيدي الحكاية لا تحتاج إليك والحمد لله. ابعد عني وابحث عن رزقك مع غيري. - بل معك أنت. - يظهر أن الزبائن انفضوا عنك في هذه الأيام، على أي حال أمرك.
وذهبت بها إلى العيادة وكان اليوم إجازة فانفردت بها في عيادتي ورحت أسألها في دقة عن كل ما تحس به، وأخذ قلبي يزداد خفوقا مع كل إجابة، واتصلت بأحد أطباء التحليل من أصدقائي وطلبت إليه أن يذهب إلى عيادته فورا، وذهبنا، النتيجة سرطان في الدم، عرفت أنا النتيجة ولم تعرفها هي.
وعدت بها إلى المنزل، نعم أنا طبيب، وأعرف ألا أمل مطلقا، لكنني إنسان أيضا يا أخي، ومحب ، أنا لا أطيق الحياة خالية من هذه المريضة، لا، لا أطيقها.
لم أخبر أحدا من أهلها بمرضها، وحملت العبء وحدي وأنا وحدي بين الناس جميعا الذي كان خليقا أن يتهاوى تحت هذا العبء ولكني حملته.
تركتها في البيت وخرجت وحدي إلى الطريق إلى قلبي المحطم، أمرن لساني على ما سيقول، وأهيئ نفسي للطريق الذي اخترته. ولكنني في وحدتي هذه لم أشعر بحيرة، ولم أفكر في طريق آخر غير الطريق الذي رسمته لنفسي في سرعة خاطفة واستقر أمري عليه.
ذهبت في اليوم التالي إلى أهلها وأخبرتهم أني مسافر إلى الخارج في مهمة علمية، ورحت أدور بالحديث معهم حتى أقنعتهم أنه لا بد من الزواج العاجل، وجاءت هي بعد أن انتهينا إلى هذا القرار، وفوجئت به ثم ما لبثت أن دخلت غرفة وحدها ونادتني فذهبت إليها: - أحمد، ماذا عرفت أمس من تحليل الدم؟
كنت قد أعددت نفسي لكل مفاجأة؛ فصنعت ضحكة كبيرة وقلت: عرفت أنه لا بد من الزواج السريع. - أهذا وقت الضحك؟ - وماذا أعمل مع خطيبتي العبيطة التي تربط تعجيلي الزواج بتحليل الدم؟ - لماذا لم تخبرني أمس عن رحلتك إلى الخارج، أنت لم تخف عني شيئا. - أخفيت هذا الشيء. - لماذا؟ - لأنني اعتقدت أنه لو تم لهيأ لي مفاجأة سارة أفاجئك بها، وخشيت أن أخبرك ثم لا يتم فيسبب لك هذا ضيقا لا أريده لك أبدا. - أحمد، هل أنت صادق؟ - وهل كنت عمري كاذبا؟ - أحمد إني خائفة.
ولم أستطع أن أتحكم في لساني وهو يقول: وأنا أشد خوفا.
وارتاعت المسكينة فانتفضت تقول: لماذا، لماذا يا أحمد؟
Página desconocida
واستعدت نفسي الجازعة وقلت لها: أخاف من السعادة التي تغمرني، أخاف من السعادة يا ندى.
واغرورقت عيناي بالدموع، وتعلقت بجفنيها دمعتان، فأما دموعي فبعض الألم الذي أخفيه، وأما دموعها فمن حديثي إليها عن سعادتي.
والتقت الدموع، دموع الألم ودموع السعادة، فاعجب معي يا أخي من إحساسين على طرفي نقيض كان التعبير عنهما واحدا!
أتسخر مني يا صديقي؟ بربك لا تفعل فإنه يحلو لنا حين نغوص في أحزاننا أن نجعل من أنفسنا فلاسفة، وإن كنا في عميق إحساسنا نعرف أننا لسنا من الفلسفة في شيء.
ولكننا نخادع أنفسنا ونرتاح إلى هذا الخداع مع علمنا أنه خداع.
أتسخر مني يا صديقي، لا تتعجل السخرية، فسوف أفسح لك مجالا للسخرية لا ينتهي أمده، لا تفرغ سخريتك كلها، فإن كان فيما قلت ما يثير هذه الابتسامة الهازئة التي تضعها على فمك فإن فيما عملت ما يثير قهقهتك الساخرة العالية؛ فاحتفظ ببعض سخريتك ولا تفرغها جميعا فإن ما قمت به بعد ذلك يحتاج إلى كل السخرية التي تزدحم في نفسك.
سافرت إلى أوروبا مع زوجتي، نعم سافرت بعد أن أعدت قراءة ما كتب عن مرض زوجتي وبعد أن تأكدت ألا فائدة ترجى من السفر، إلا أنني وجدت مجلة غير علمية تقول إن هناك بحثا يدور عن هذا المرض، سافرت إلى هذا البحث، ألم أقل لك احتفظ بسخريتك؟!
توهمت أنني قد أجد أملا بجانب هذا البحث الدائر، وإلى هذا الأمل سافرت، وتجسم الأمل في نفسي حتى كاد أن يصبح حقيقة، وفي أوروبا أنكرت أنني طبيب، وأصبحت أفعل ما يقول به الأطباء ملتمسا في كل كلمة أملا أزيد به أملي، مكثت مع زوجتي ولا عمل لي إلا تنفيذ ما يقول به الأطباء الباحثون لا أناقشهم في شيء، ولا أفكر إلا فيما يقولون، وقد أعلم أنهم مخطئون ولكنني أخطئ نفسي وأصدقهم، وأخفي على زوجتي ما يقولون وما أعلم، وأوهمها أنني أعمل في البحث الذي جئت من أجله، وأوهمها كلما عرضتها على طبيب أنه صديق لي يريد أن يفحصها، ليست زوجتي غبية أيها الصديق، لقد عرفت أنها مريضة، وعرفت أن مرضها خطير ولكنها لم تشأ أن تشعرني بمعرفتها حتى لا تنغص علي فرحتي بأنني استطعت أن أخفي عنها مرضها، وكانت تراني أمامها سعيدا دائما فلم تشأ أن تشعرني أنها عرفت بمرضها حتى لا تقطع هذه السعادة المصطنعة التي كنت أخلقها لنفسي أمامها، أكانت كاذبة هذه السعادة جميعها أم كان بعضها حقا، لا تسخر يا صديقي ، لقد استطعت - وأنا الطبيب - أن أقنع نفسي أن الأطباء سيشفون زوجتي من المرض.
نعم، توهمت هذا، وأحببت وهمي وعشت فيه، حتى أصبحت السعادة التي كنت أفتعلها، حقيقة أومن بها لا تقبل مني شكا ولا نقاشا.
وتلومني لأني طلبت إليك أن تبيع كل ما أملك، وتلومني اليوم لأني طلبت إليك أن تبيع أدوات العيادة، لا، لا تلمني يا صديقي، لقد اشتريت بما أرسلت إلي من نقود أملا ضخما ووهما حلوا أحببته، وأحببت العيش فيه وبه.
Página desconocida
واليوم يا صديقي ماتت زوجتي، ومات الأمل، ومات الوهم وطالعتني الحقيقة بلا خداع ولا كذب ولا وهم.
لقد أسرفت في الإنفاق، وما أقل ما أنفقت في سبيل هذه الأيام التي تخليت فيها عن الحقيقة وعن العلم وفرغت إلى هذا الأمل الذي أنشأته وذلك الوهم الذي أحببته.
أتسخر مني؟ اسخر ما شاءت لك السخرية، أما أنا فأقسم لك، أقسم بها، لو عادت الأيام إلى الوراء لفعلت ما فعلته ثانية وثالثة وألفا، أيها الصديق لقد كرهت الحياة وأحببت الوهم فمن لي بهذا الوهم، من لي به؟!
أخلفت الموعد
دق جرس التليفون في منزل الأديب الكبير الأستاذ شريف لطفي، ورفع الأستاذ سماعة التليفون فبلغ سمعه صوت ناعم حلو: من؟ الأستاذ شريف؟ - أنا هو. - صباح الخير يا أستاذ. - صباح الخير. - أنا يا أستاذ إحدى المعجبات بكتابتك، وأتمنى أن أراك، أرجوك أن تحدد لي موعدا.
وارتبك الأستاذ بعض الحين، فهذه أول مرة تكلمه فيها سيدة على غير معرفة، وكاد يغيب في طوايا ذكريات سعيدة لولا إحساسه أن هناك من ينتظر رده فسارع يقول: متى تريدين الموعد؟ - الآن، في هذه اللحظة إن أمكن. - الآن! في هذه اللحظة؟ - يا أستاذ أنا أكلمك بعد تردد طويل، كنت أخاف أن أضايقك ورددت نفسي عن تليفونك أياما بلغت شهورا، وأخيرا جمعت جرأة لا أعرف من أين حصلت عليها لعلها من كتابك الأخير، واستطعت أن أكلمك، وأريد أن ... - أنت غير محتاجة إلى هذا الاعتذار الطويل يا ... - منى، اسمي منى. - يا آنسة؟ - نعم، آنسة منى إذا شئت، وما أحب إلا أن تقول منى، منى بغير شيء قبلها ولا بعدها.
وخفق قلب شريف خفقا عنيفا وهو يقول: طيب يا منى، أراك الآن ولكن أين أنت؟ - أنا في الجيزة. - طيب أنا سأنتظرك في جروبي. - متشكرة يا أستاذ، متشكرة جدا يا أستاذ.
ووضعت منى السماعة وظل الأستاذ لحظات ممسكا بالسماعة، ثم قفز إلى ذهنه خاطر أرسله يقول: «يا منى، يا منى» ولكن هيهات فقد انقطع الخط وانتهى الأمر. فوضع شريف السماعة وهو حائر! كيف سيعرفها أو كيف ستعرفه؟ وهما لم يلتقيا، أتراه صديق يمزح معه؟! ولكن لا، فما عوده الأصدقاء هذا المزاح، وإن مكانته لا تسمح بمثل هذه الصغائر، على أية حال ماذا عليه لو ذهب إلى جروبي وجلس إلى إحدى موائده فطالما جلس إلى موائده، فإنه هناك وفي جروبي بالذات يستطيع أن يستعيد الذكريات، وسمع الأستاذ نفسه تضحك منه ضحكة ساخرة هازئة، ذكريات؟ أي ذكريات يا أستاذ؟ وهل لك ذكريات؟ لقد قطعتها حياة خالية بلا حياة فيها ولا ذكريات، أي ذكريات، يا أستاذ؟!
وغضب الأستاذ من نفسه وزجرها في عنف، وحاول أن يجيب ولكنه وجد نفسه وجها لوجه أمام كرسي جروبي، وقد وقف الخادم أمامه يبدو عليه أنه ينتظر أمره، ويفرض عليه في الوقت ذاته أن يطلب شيئا، وانصرف الخادم وخلا الأستاذ إلى نفسه.
أليس لنا ذكريات أيتها النفس، كم أنت خبيثة تنكرين الماضي وتتنكرين للأيام الخوالي، أما تذكرين أيام الهوى؟! أيام أن كنت خالية إلا من الحب، فارغة إلا من الأمل، خفيفة إلا من الأحلام.
Página desconocida
وأمعنت نفس الأستاذ في الإساءة إليه، وراحت تجيبه في سخرية، متى؟ متى يا أستاذ كان لي حب، أو أمل، أو أحلام؟ فإني والله منذ عرفتك خالية بلا حب، فارغة بلا أمل، خفيفة بلا أحلام، وها أنا ذا اليوم بلا ذكريات، أستاذ أتراك تريد أن تضحك مني أيضا كما تضحك من قرائك، فتؤلف قصة تجعل من نفسك بطلها، وتريدني أن أصدق ما تقول؟
وأجاب الأستاذ في غير احتفاء بهذه السخرية؛ فقد غمرته الذكريات فهو منها في طوفان.
أما تذكرين، أما تذكرين؟
وقالت النفس، لا، لا أذكر. ولكن الذكريات راحت تنهال في خاطر شريف كجدول مزدحم الأمواج.
كان إذ ذاك صبيا مشرفا على الشباب، ملهوفا إلى الغد، لا أمس له ولا حاضر، وإنما عيناه شاخصتان إلى المستقبل يرقبه من خلال الغيب عجلان، يود لو أن الأيام تقاصرت، ولو أن الليالي انحسرت، يحب الشمس المشرقة ثم ما يلبث أن يكرهها ويرى فيها قديما لا بد أن يزول لتأتي الشمس الجديدة شمس الغد شمس الشباب.
كذلك كان شريف، وكانت بثينة هي الجارة، فتاة في ربيع العمر من الشباب على وجهها حمرة الفرح، وعلى صدرها استكبار الواثق المزهو، ولف الشباب عودها فهي عود مورق تعرف الأوراق أين تنبت فيه، وكيف تنبت؟! غضة كالغصن الجديد مشرقة كالزهرة، حلوة فتانة، تنظر إلى الغد بعين وسنانة حالمة وتلتذ كل لحظة تعيشها وتعتصر كل لذة في هذه اللحظة، وتنبت لنفسها ذكريات من الأمس ولا ذكريات لها ولا أمس، ولكنه الشباب يحب الماضي والحاضر والمستقبل.
كانت بثينة أكبر من شريف فلم تجد بأسا أن يجلس إليها وأن تجلس إليه ولم يجد أهلها ولا أهله في ذلك بأسا، وانعقدت بينهما صداقة كان هو فرحا بها، وكانت هي فرحة به أيضا، وكانت بثينة تحب الأدب والأدباء، وكانت تخص أديبا معينا بحبها، وكانت تقرأ على شريف لهذا الكاتب بالذات فتكثر القراءة وكان هو يقبل على ما تقرأ في تكاسل وعزوف، ومرت الأيام ولم تلحظ بثينة أن الأيام مرت وأنها أطلعت في وجه شريف الغض شعيرات تتلوى، وأنها جعلته يشتري الكتب لكاتبها المفضل إن أصدر جديدا، أو لغيره إن لم يصدر هو.
أحب شريف الفتاة، وأحب الأدب في غمرة حبه الأصيل، وأحست الفتاة بحبه للأدب ولم تحس حبه لها.
ومضت الأيام حتى كان يوم فوجئ فيه شريف ببثينة تتزوج، وكان زوجها هو كاتبها المفضل.
ومنذ ذلك اليوم ولا أمل له في حياته إلا أن يصبح كاتبا مثل زوج بثينة، وإلا لن يجد زوجة تعجب به كما أعجبت بثينة بكاتبها.
Página desconocida
ذهبت بثينة من حياة شريف وتركت له الأدب، وذلك الأمل الضخم الذي رصد حياته كلها لتحقيقه.
ومرت الأيام، وشريف عاكف على الدراسة والقراءة العنيفة التي لا تعرف الوهن، وسافر إلى الخارج يجمع إلى الأدب العربي الأدب الغربي، وجهد في الغرب، لم يقض لحظة مع فتاة ولم يترك هنيهة دون أن ينتفع بها، حتى إذا أتم ما أراد لنفسه أن يتم، عاد إلى مصر، وبدأ عمله أستاذا للأدب في الجامعة، وكاتبا في الجرائد والإذاعة ومؤلفا للقصص الطويل منها والقصير.
وانهال إنتاجه على عشاق الأدب ضخما رائعا كثيرا متدفقا فما هو إلا بعض العام حتى كان اسمه على كل لسان، تهمس به العذارى في وله، ويتشدق به شداة الأدب في إكبار، وينقده الأدباء في مرارة، وهو في شغل عن هذا جميعه بأدبه وبأمله في أن تحبه قارئة مثل بثينة وتعجب به، وتقصد إليه تقدم بين يديه إكبارها وإعجابها وحبها، فيخطبها ويتزوجها وينشآن بيتا كأحلام العذارى أو خيال الشاعر الولهان، أو كبيت بثينة وإن كان لا يدري ما فعل الله ببثينة.
ومرت الأيام وراح أهل شريف يلحون عليه أن يتزوج، وهو يصرفهم عن هذا الحديث كلما تحدثوا به، فإن ألحوا تركهم وخرج إلى مقعده في جروبي، هذا المقعد الذي يجلس إليه الآن فيستعيد الذكريات، ذكريات بثينة وقراءتها له وتسخر منه نفسه كلما حاول أن يجعل من الأيام الماضية ذكريات، ولكنه لا يحفل بسخريتها تلك بل هو يسترجع الذكريات، وقد كان خليقا به في يومه هذا أن يذكر، فقد آن له أن يحقق الأمل، أمل حياته جميعا، كم هو فرح، فرح؟!
ما أضعف الأديب حين يحاول أن يبين عن خالجة نفسه، أكل ما يصف به نفسه الآن أنه فرح! فرح فقط! وماذا تملك غيرها أيها الأديب، إنك لن تحاول أن تزوق الكلام لنفسك كما تزوقه لقرائك، والمشاعر الإنسانية معروفة (لا تتغير، أنت فرح ولن تحاول أن تعبر عن فرحك لنفسك) لأن نفسك تعرف مقدار فرحك فقد لازمتك منذ أن كنت صبيا إلى الآن ، وها هو ذا أملك يتحقق فأنت فرحان ينتاب فرحك بين الحين والحين غصة خوف ألا تعرفك الفتاة، وتطمئن نفسك بأن صورك تملأ الجرائد، ثم تخشى أن تختلف الصورة عن الحقيقة ثم تفكر في آخر صورة لك، ثم، ثم ها هي ذي الفتاة تقف إلى منضدتك، نعم إنها واقفة إلى منضدتك. - الأستاذ شريف، صباح الخير.
ويقف الأستاذ شريف ذاهلا حائرا فما كان يتوقع أن يرى كل هذا الجمال، لا، فما بثينة بهذا الجمال، لا ولا أمل هو يوما أن تكون فتاته بهذا الجمال، لا، وقبل أن يسترسل به الخيال يفيق إلى وقفتها ووقفته فيقول: الآنسة، آسف، أقصد منى. - أنا هي. - أهلا وسهلا، تفضلي، اقعدي.
وتقعد منى ثم ما تلبث أن تضحك ضحكة عالية مرحة منطلقة خالية لا يمسك بها شيء فهي رنين حلو، ولكن شريف ينظر إليها في تعجب. - خيرا، ماذا حدث؟ - انظر. - ماذا؟ - لقد طلبت جلاس وتركته يذوب حتى ملأ المنضدة ولم تلتفت إليه، أعرف أن الفنانين يسرحون ولكن لم أكن أعتقد أنهم يسرحون إلى هذا الحد.
وارتبك شريف فما يدري ماذا يقول أو يفعل! وراحت منى تتحدث في حديث آخر بعد أن نظف الخادم المنضدة، راحت تشرح له إعجابها به وبكتبه ومقالاته، وراح هو في خجل حيران وفي نشوة فرحانة يسألها عما أعجبها وهو يتمنى أن تسكت فقد بلغ به الخجل مداه، ويتمنى ألا تسكت فما لقي هذه السعادة جميعها قبل اليوم، وبين رغبته في سكوتها وأمله في استرسالها راحت منى تتحدث في انطلاق مرح في إعجاب كبير وهي تنظر إليه نظرات يملؤها الإكبار؛ فقد كانت ترى في جلستها تلك إليه أملا لا سبيل إلى تحقيقه.
وطال الحديث وشريف ينظر إلى الفتاة لا يحول عينيه عنها والسعادة تغمره من كل جانب، فجمال الفتاة معجزة وإعجابها به يفوق إعجاب بثينة بكاتبها لم يبق له من أمل بعد هذا. لا، لا أمل له أكثر من هذه السعادة التي يعيشها الآن ويتنفسها ويلتذ بكل نسمة فيها.
وتمكنت منه رغبة في الانطلاق فما يطيق أن يستقبل كل هذه السعادة جالسا إلى كرسي، إنه يريد أن ينطلق إلى الشوارع إلى الميادين، إلى الفضاء بل إلى الزحام، إلى الدنيا جميعا في هدوئها وضجتها، في سكونها وحركتها، إلى كل الدنيا.
Página desconocida
قال لمنى: هلم بنا. - إلى أين؟ - إلى الشارع، أريد أن أسير، هلم. - إلى أين؟ - إلى أي مكان. - ولكني لا أستطيع. - لماذا؟ - لأنني أنتظر خطيبي هنا، فقد طلبت إليه أن يأتي إلى هنا.
ولم يسمع شريف شيئا مما قالت بعد خطيبي، فقد جمدت عيناه تنظران إلى عينيها وجمدت شفتاه لا هما مفتوحتان ولا هما مغلقتان.
وجمدت خلجات وجهه بين الدهشة والألم وبقايا فرحة تنحسر لتفسح مكانا لألوان شتى من المشاعر لا مجال فيها لفرح أبدا.
وبعد فترة لا يدري أقصرت أم طالت انتبه إلى نفسه ناظرا إليها فوجد صورته في عينيها الشابتين، وجد صورته الجازعة مطبوعة على عينيها الضاحكة المستبشرة، رأى صورته في عينيها فأطال التحديق، لقد نسي الأستاذ شريف شيئا وذكرته صورته ما نسي، نسي ذلك الشيب الذي اشتعل في رأسه فحرق مستقبله، وفى لحظة وامضة أدرك الأستاذ شريف ألا مستقبل له، وأدرك ألا ماضي له أيضا، لقد أكل الأدب ماضيه ومستقبله، وألهاه عن السنوات التي تمر لا تراعي القلب الشاب ولا الأمل الطفل وإنما هي تدمغ حيث تمر فتجعل من صبي الأمس عجوز اليوم.
كان الأستاذ شريف يقترب إلى الخمسين من عمره ولا يحس.
ولم يفق الأستاذ شريف إلا حين جلس إلى مكتبه وأخرج ورقة وقلما وكتب عنوان قصته الجديدة: «أخلفت الموعد».
ملاعب الصبا
على ضفاف الصحراء، جلس حمدان بن ربيعة يمد طرفه إلى الأفق البعيد، فلا يرى بعينيه غير انطباقة السماء على الرمال، فيخترق بفكره هذا الأفق ويوغل إلى ما وراءه، إلى هناك، إلى ملاعب الصبا، ومدارج الطفولة، هناك حيث انطبعت يوما على الرمالات البيض آثار ركبته ويديه وهو طفل يحبو، وآثار قدميه الطفلتين وهو حدث يتعثر في خطواته الأولى، وهناك حيث محت الرياح آثار قدميه الصغيرتين وهو صبي يدرج إلى الشباب، وويل لحمدان من ذكرياته لأيام الصبا؛ فهي أولى ذكريات وعاها عقله، وهي أحلى ذكريات صنعتها له الأيام.
كان ذلك منذ نيف وعشرين عاما، وكانت الحياة بين يديه لعبا مع الأطفال من أترابه.
وكانت هي بينهم تلعب كما يلعبون، ويجرى عليها من أحكام اللعب ما يجرى عليهم لا يراعون أنها ابنة شيخ القبيلة، وما شأنهم بأبيها؟ إنما هي عضو في جماعتهم لا يعنيهم من شأنها إلا مرحها ولعبها وإتقانها هذا اللعب.
Página desconocida
وهكذا عاش حمدان في جهالة الطفولة لا يدرك مقدار السعادة التي تتيحها له هذه الجهالة، وإنما يدرك قواعد اللعبة التي يمارسونها تمام الإدراك، ويتقن هذه اللعبة كل الإتقان.
وكانت هي - لمياء - تعجب بمهارته، وتنضم دائما إلى الفريق الذي يضمه، سعيدة أن تراه إلى جوارها لا تعرف سببا لهذه السعادة، سعيدا هو أن يراها إلى جواره، لا يدرك باعثا لهذه السعادة.
ومرت الأيام، وويل لحمدان في جلسته هذه حين يذكر مرور الأيام، لماذا مرت؟ ألا تعرف هذه الأيام شيئا إلا أن تمر فتجعل من العقول الجاهلة الحالمة السعيدة عقولا مبصرة واعية شقية، أما كانت تستطيع هذه الأيام أن تتوقف فلا تمر، أو تتمهل فلا تثب هكذا وثبا عنيفا يطيح بالأماني العذاب، ويقضي على الآمال الباكرة المشوقة إلى أن تصبح حقائق واقعة، مرت الأيام كالرحى الثقيلة تطحن سعادتنا الجاهلة، وأنسنا الساذج، مرت الأيام، فألقت على وجه لمياء حلاوة الشباب بعد عربدة الطفولة ولمست جسمها فإذا هي فارعة الطول هيفاء غيداء تخطر كالهواء، وتسعى كالأمل وتشرق كالشباب، ولمست الأيام عقل لمياء الطفل الجاهل فتفتح إلى أفكار الشباب، وصار يدرك سبب السعادة التي كانت تحسها، وأصبحت تخجل من هذه السعادة وتحاول ما وسعها الجهد أن تخفيها في عميق نفسها.
ومرت هذه الأيام نفسها على حمدان فعلمته أن ذلك الشعور بالسعادة إنما هو الحب الذي يتحدث عنه الشعراء ويتهامس به الشبان، علمته الأيام أيضا أنه فقير، أبوه تابع لأحد وجهاء الحي، وعلمته الأيام أن دونه ودون لمياء المستحيل؛ فهي لن تصبح له في يوم من الأيام، بل إنه لن يستطيع أن يكشف لها عن حبه مهما يعظم، عرف حمدان هذا جميعه ولكن بعد فوات الوقت، بعد أن كان الحب قد تغلغل في نفسه فهو بعض من الدماء التي تجري في عروقه، وهيهات للشاب المسكين أن يسيطر على حب هو بعض من دمائه.
وكان الشبان من أبناء الأتباع يجتمعون فيتحدثون عن رجال الصحراء والكهوف حديثا يملؤه الفخر وتحيط به هالات من التمجيد، وكان حمدان يستمع إلى هذا الحديث بأذن واعية وقلب خافق متطلع إلى المستقبل، وكانت النسوة يستمعن إلى هذا الحديث في تظاهر بالخوف لا يخلو من الإعجاب، ونظر حمدان إلى نفسه في قبيلته تلك فوجد نفسه ضائع الأصل، منهار الأمل، ووجد أترابه يتمتعون بالمستقبل المشرق، بينما هو بينهم تابع بلا أمل وتمكن اليأس من حمدان وامتلأت نفسه بالحقد على مجتمعه هذا الذي يحيا فيه؛ فهو ينظر إلى أصدقاء الملعب نظرة كلها الحسد، وينظر إلى لمياء في حسرة عنيفة، وينظر إلى مستقبله في مرارة قاتلة، ويراود ذهنه ذلك القصص عن قطاع الطرق، ومن خلال هذا الطريق المحفوف بالمخاطر يلمع لعينيه وميض أمل، وما يمنعه أن يصبح قاطع طريق؟! أهو غضب أبيه؟ وما يهمه غضب أبيه ذلك الرجل الخامل الذي لم يستطع أن يصنع لنفسه إلا هذه الحياة الحقيرة ليس فيها غير الشرف والعفة والفقر والحرمان؟ أتعوقه أمه؟ وما شأنها به وهي التي رضيت أن تشارك أباه حياته تلك المهينة؟ لا، إن شيئا من هذا لا يمكن أن يمنعه، لعلها لمياء، لا، لا تستطيع لمياء أن تمنعه فهو إن بقي إلى جوارها سيظل التابع الفقير، وستظل هي ابنة الأكرمين وسيراها يوم تتزوج ولن يستطيع حينئذ أن يمد لها يدا أو حتى نظرة، أما إذا رحل واتخذ سبيله في قطع الطرق فلعله، لعله يومئذ يستطيع أن يجمع مالا يعوضها به عن ضعة أصله، ولعله، ولعله يومئذ يستطيع أن يختطفها ويذكرها بالملعب وأيام الصبا ويناشدها ذلك الحب الطفل.
واتخذ حمدان طريقه وهجر منازله وأحلام صباه وملاعب طفولته وبدأ يمارس مهنته الجديدة في عنف لم تسمع به العرب من قبل، وما أسرع ما تكونت حوله عصابة ألقت إليه قيادها فهو يدبر للهجوم ويتزعمه. وبث لنفسه الجواسيس في الأحياء فهو على علم بكل قافلة تهم بالمسير، وهو يتخير من بين هذه القوافل أكثرها مالا فينقض عليها، ولا بد له أن يصيب من أموالها ما يريد مهما تكن هذه القافلة منيعة الحراسة كثيرة العدد.
كان حمدان جالسا على ضفاف الصحراء تمر بذهنه الأفكار عن أمسه الغابر وعن حاله هذا الذي صار إليه، وكان أفراد العصابة قد عرفوا فيه حبه لهذه الخلوة فلا يقطعونها عليه فهم جالسون أو نائمون داخل المغارة ينتظرون الجواسيس القادمين ليعرفوا منهم القوافل المعدة للسفر.
وجاء الجواسيس فتجمعت حولهم العصابة وألقى كل جاسوس بما يعرف من أنباء إلا واحدا بقي مترددا لا تبين عليه حماسة من يحمل أخبارا فسأله حمدان: هيه يا عامر مالك صامتا، ما أنباؤك؟ - ليست هناك إلا قافلة صغيرة. - قافلة من؟ - قافلة لمياء. - لمياء؟! - نعم، لمياء بنت شيخ القبيلة، تم زواجها بالأمس وهي في طريقها إلى منازل زوجها. - زوجها، أتزوجت، متى؟ ومن زوجها؟
فأجاب عامر دهشا من هذا الاهتمام المفاجئ: تزوجت بالأمس من عكرمة الحضرمي، وسترحل إليه يوم السبت القادم. - ولكنك لم تخبرني أنها خطبت قبل اليوم؟! - لقد تمت الخطبة والزواج أمس.
وأطرق حمدان مفكرا، وكاد الدمع يفضح دخيلة نفسه، ولكنه سرعان ما تمالك عن البكاء، فسأله أحد أفراد عصابته: وما شأننا نحن بهذه القافلة الضئيلة، إنها ستخرج في يوم كثير القوافل وما أظنك ستترك القوافل الغنية الوفيرة الأموال لتأخذ قافلة هذه العروس.
Página desconocida
ولكن حمدان كان يرى في قافلة هذه العروس آماله كلها قد تحققت فليس بينه وبينها إلا أن يمد بيده فإذا هذه الأوهام التي كانت تداعب خياله يوم ترك الحي قد أصبحت حقائق واقعة، وإذا حبه الذي كان أملا مستحيل التحقيق قد وافى؛ فها هي لمياء بين يديه لم يمنعها عنه مانع من زوج أو أب أو قبيلة، إنها حبه وصباه وشبابه، وهو، وتردد حمدان قليلا ، أجل هو، أتراه أيضا حبها وصباها وشبابها أم أن الأيام قد غيرت هذا الحب، نعم إنها لم تقل يوما إنها تحبه، لم تقل ذلك بلسانها، ولكنه رأى من عينيها أنها تحبه، وسمع تلك البسمة التي كانت ترتسم على وجهها عند اللقاء إنها تحبه، ولكن أترى ما كان يسمعه حقا أم هي أوهام محب وخيال شاب؟! سوف يعلم، وينهي حمدان إلى عصابته إنه اختار قافلة لمياء فيطيعون أمره في صمت.
ومنذ ذلك اليوم وحمدان لا يعمل شيئا إلا أن يترقب القافلة القادمة، وإلا أن يهيئ للمياء كل وسائل الراحة حتى لا تضيق بحياتهم المقفرة؛ فهو يقيم لها خيمة من الحرير تملؤها الوسائد اللينة والبسط النفيسة والأرائك الأنيقة.
وبدت القافلة في الأفق واستعد حمدان وعصابته، وما هي إلا بعض الساعات حتى كانت إغارة حمدان على قافلة العروس قد نجحت، فاختطفت العصابة لمياء وهرب أفراد القافلة جميعا حين رأوا كثرة العصابة.
وأدخلت لمياء إلى خيمتها، واتخذت لنفسها مكانا على إحدى الأرائك وبعد قليل دخل حمدان في أجمل ملبس، وانبعث في لهفة إلى لمياء يجثو تحت أقدامها. - لمياء. - من؟ اللص. - لمياء؟ إنه أنا، أنا. - ومن أنت؟ - أنا حمدان، ألا تعرفيني؟ - ومتى عرفتك؟ - أنا حمدان، صديق الصبا، أخو الطفولة، ماذا؟ أتراك نسيتني؟! - أنا لم أعرفك حتى أنساك! - إن وجهي لم يتغير كثيرا منذ تركت الحي، فما هذا الجفاء، ألأنني اختطفتك؟ لقد حسبت أن هذا يزهيك، أما ترين أنني ما فعلت هذا إلا لأني أحبك، نعم، أنا لم أقلها قبل اليوم، وكيف كان يمكن أن أقولها وأنت في سماء بيتك، وأنا في وضيع حقارتي، أما اليوم فانظري حواليك، انظري هذه البسط وتلك الوسائد وهذه الأرائك، اليوم نعم، اليوم أقولها أحبك، اليوم أنت لي، أنت حبي وصباي وشبابي، حمدان يا لمياء، ألا تذكرينني، حمدان؟ - لا، أنا أعرفك، لقد كنت أعرف حمدان آخر، وجهه كوجهك وقوامه كقوامك، ولكن نفسه غير نفسك، لقد كنت أعرف حمدان آخر، عرفته ونحن أطفال وعرفته ونحن شباب فكان في الطفولة مرح النفس محببا إلينا حين نلعب، قريبا من نفوسنا جميعا، وكان في شبابه رجلا شريف النفس عفيف الخلق، أما حمدان هذا الذي يجثو هنا، أما أنت فقاتل سفاك، قاطع طريق، أما أنت أيها الرجل فأنا لم أعرفك قبل اليوم ولن أعرفك. - لقد ظننت، لقد خيل إلي، يا لي من واهم مخدوع. - لم يكن حمدان واهما ولا مخدوعا.
فيجيبها حمدان في لهفة منتشية: إذن يا لمياء، هو أنا، أنا حمدان. - بل لست هو ولن تكونه، لقد مات حمدان إلى غير رجعة. - أتخادعيني؟ - بل لقد مات حمدان.
ويثور حمدان من ذلك الهدوء القاتل الذي تطالعه به حبيبته؛ فما هو بمن يطيق هذه المداورة فهو يقول في ثورة عنيفة: بل هو حي أمامك، وستكونين له شئت هذا أم أبيت، أنت هنا ملكي، أنت جاريتي، أنت لا حول لك ولا قوة، أنا كل شيء لك أنا مستقبلك ولا مستقبل لك إلا بي، أفهمت؟ - لقد فهمت هذا منذ جئت إلى هذه الخيمة، نعم، أني جارية اختطفني اللصوص. فأنا ملك لمن اختطفني فما لك ثائرا؟! أنت لم تقل هذا في أول الحديث، وإنما ادعيت أنني أعرفك وأنك تعرفني فكذبتك، أما أنني ملكك فهذا حق، أترى أيها اللص أنني لا أعارض في الحق أبدا. - لمياء، لمياء، بعض هذه القسوة ... - أي قسوة فيما أقول أيها اللص، لقد أردتني جاريتك، وها أنا ذا أطيعك، مرني بما تشاء أطعك، لن أخالف لك أمرا مهما يكن. - حتى لو طلبت إليك أن تهبي لي قلبك؟
وتجيبه لمياء في ضحكة ساخرة: أرأيت القلب يوهب بالأمر أيها اللص، لا، لا يمكن أن أطيع هذا الأمر، اللهم إلا إذا أردت أن تقتلني أو تسرق قلبي من بين ضلوعي. - بعض السخرية يا لمياء. - فبعض العقل أنت، أتأمرني أن أهب لك قلبي، حبي ويحك لقد أفرطت، أهب أحلام شبابي وآمال مستقبلي لقاتل، سفاك، وأهبها إطاعة لأمره. جهلت الحب يا فتى وادعيت كذبا. - أعرف أنني أستطيع أن أنالك، وأعرف أنني أستطيع أن آمرك فتصبحي لي وحدي، ولكن لم يكن هذا حلمي ، لقد كنت أحلم بحبك لا بجسمك، فأنت حرام علي منذ اليوم. - بعد أن اختطفتني وأنا في طريقي إلى زوجي؟! ألم تفكر فيما عسى أن يقال عني، ألم يدر بذهنك ذلك العار الذي ستلحقه بي؟! - لا والله لم يدر بذهني هذا؛ فقد كنت أحسب أنني سألقى فيك حبي القديم، أما اليوم، أما وقد ذكرت أنت هذا العار فلا وحياتك ما كنت لأجعل العار يلحق بك أبدا، ويخرج حمدان من ثيابه خنجرا لامع النصل فتجزع لمياء قائلة: ماذا أنت صانع؟ - سأجعل منك أعظم امرأة في هذه الأحياء، لقد طلب الرجال قتلي فلم يستطيعوا، لأكونن قتيلك، سأقتل نفسي بيدي، وقولي أنت لمن يسألك إنك قتلتني لتدافعي عن شرفك فأنقذته، فاذهبي أنت إلى السعادة في ظلال زوجك وحسبي أنا من الأيام ذكريات الصبا التي عشت بها ولها حتى اليوم.
وما إن يكمل حمدان قوله حتى يغرس الخنجر في قلبه في سرعة خاطفة وتذهل لمياء عن نفسها، لا تعرف ماذا تفعل فيسارع حمدان قائلا في حشرجة: أسرعي بالهرب، أسرعي قبل أن يأتي أحد، أسرعي، واذكريني، اذكريني أنني قاتل وسفاك وقاطع طريق ولكنني، أحببت، ووفيت ومنعت اسمك أن يلم به السوء.
وركعت لمياء إلى جانب حمدان في لهفة ملتاعة: لماذا يا حمدان، لماذا فعلت هذا بنفسك؟! إنما أردت بكلامي أن ترجع عن طريقك هذا، أنا هي لمياء التي عرفتها يا حمدان، فارجع إلى الحياة لتعيش شريفا نقيا كما عرفناك، حمدان، حمدان.
وجرت دموع لمياء غزيرة على وجه حمدان، دموع فيها حب قديم، وفيها حزن جديد، ولكن حمدان لم يحس بحب أو بحزن كان قد ترك الدنيا بكل ما فيها من مشاعر.
Página desconocida
وخرجت لمياء تنفذ ما أمرها به حمدان في ذهول حائر، ودون أن تحس ولت وجهها إلى منازل أبيها، وما يأتي الصباح من الغد حتى تكون قد رجعت إلى الحي تقص عليهم ما كان من حمدان، لم تقل إنها قتلته بل روت الحقيقة كما هي، وكأنما أرادت بها أن تنال من قلوبهم الغفران للص الذي غسلت دماؤه خطاياه.
لقاء ولا وداع
هو :
وحدك؟
هي :
وحدي.
هو :
وتحبينني؟
هي :
وأحبك!
Página desconocida
هو :
وأنت على هذا الجمال الآسر، حتى ليخيل إلي أنك صنعت جسمك بيدك، أو ليخيل إلي أنك مكثت في عالم الغيب أجيالا عدة تسألين الله أن يخلقك نوعا وحدك من الجمال، فسمع سبحانه سؤالك وأجاب سؤالك، فكنت على ما أرى الآن لونا فريدا من الجمال بلا شبيه ولا قرين، بل إنك حتى في رفيع سمائك لا يليك من ألوان الجمال تال، فسماؤك شاهقة الرفعة، قريبة كل القرب من بارئك، وسموات الجمال الأخرى بعيدة عنك كل البعد، فكأنما هي الأرض منك إن جاز لي أن أقارن.
هي :
شاعر أنت؟
هو :
لا شأن لك بي، أجيبني أنت، كيف أمكنك أن تكوني على هذا الجمال؟ ثم كيف خرجت به غير مستور إلى الطريق وحدك بلا رقيب عليه عات شديد؟
هي :
أغيرة ولم نتعارف؟
هو :
إنما هو عجب، أليس لك زوج؟ أليس لك محب؟ هل بلغ العمى بالعباقرة النابغين وبالأغنياء واسعى الغنى إلى حد أن واحدا منهم لم يرك فيلقي بجبهته عند أقدامك عابدا مكبرا؟
Página desconocida
هي :
بل هناك من كان يفعل ذلك.
هو :
كان ثم لم يعد، فعزاء يا سيدتي، وهل مات منذ عهد قريب؟
هي :
بل إنه ما زال حيا.
هو :
حيا ويتركك تخرجين وحدك؟ حيا ويجعل منك هذه الشقية التي تجيب أول متحدث إليها؟ حيا! لعل أنفاسا تتردد في جسمه بين ذهاب وأوبة، ولعله يسير ويأكل، ويشرب، وينام. ولكنني ما زلت مصرا على أنه مات، هو ميت وإن كان يملأ الدنيا بالحياة!
هي :
وأي عجب في ذلك، ها أنت ذا وحدك، وأنت جميل، ألست حلو الحديث، وحدك أرى وحدتك على وجهك، وأراها في حديثك المندفع الطويل الذي آده الصمت الطويل. وحدك أكاد لم أر شخصا تحيط به كل هذه الوحدة التي تحيط بك، أليست لك زوجة أو صديقة تلقي إلى واحدة منهما هذا الحديث الذي ألقيته إلى الآن؟
Página desconocida
هو :
أنا يا سيدتي لا أزوق لك الكلام تزويقا، ولا أختلقه اختلاقا، وإنما رأيتك وحدك فأخذني جمالك ثم حادثتك فأجبتني فأخذتني وحدتك.
هي :
وحدة أحاطت فخرجت أبددها فكنت أنت.
هو :
فهي وحدة طارئة!
هي :
بل وحدة دائمة سئمتها فحزمت أمري على هجرانها، وأنت؟
هو :
وحدة طالما تمنيت أن أبددها فعجزت، وكيف كان يمكن أن أبددها؟ إنني أبحث عن امرأة، وأريدها جميلة، أراها فأرى سعادتي في وجهها، وأريدها ذكية، أحادثها فيعود إلي حديثي يحمل منها فهما وعطفا وهوى، والنساء يا أخت الوحدة: إما ساقطة تعرض نفسها في السوق، وأنا لا أشتري أخوتي في الآدمية، أو جميلة لها زوجها أو خطيبها فلا أمل لي فيها ولا رجاء، أو قبيحة لا بد أن أروض نفسي على قبحها، وبحسبي من الشقاء وحدتي فلا خير لي عندها! كذلك كنت يا أخت الوحدة قبل أن ألقاك! وأقسم بالفنان الذي أبدعك ما كلمت واحدة قبلك دون تعارف، وأقسم ما هممت بذلك حتى رأيتك فقلت انطق، فإن صمت فلا أحد يرى خزيي، وإن تكلمت.
Página desconocida