كانا قد قطعا ميلين وصار ظهر إليزابيث يؤلمها. كان الزورقان عرضة للانقلاب مع أقل غفلة، وكان لا بد أن تجلس بانتصاب شديد على مقعد ضيق بلا ظهر، مبتعدا بقدميك قدر الإمكان عن قعر الزورق، بما فيه من قريدس نافق، ظل يترامى هنا وهناك في القاع. كان الرجل البورمي الذي جدف بزورق إليزابيث عجوزا في الستين، نصف عار، ذا بشرة بنية مثل الأوراق الذابلة، وجسد مثال مثل جسد شاب. وكان وجهه طيبا وضحوكا وعليه آثار كدمات. وكانت كتلة شعره الأسود أخف من شعر أغلب البورميين، وقد عقدها بلا إحكام فوق إحدى أذنيه، بينما تبعثرت خصلة أو اثنتان على وجنته. وكانت إليزابيث تحمل سلاح عمها بحرص فوق ركبتيها. كان فلوري قد عرض عليها أن يأخذه، لكنها رفضت؛ إذ كانت في الواقع تستمتع كثيرا بملمسه حتى إنها لم تستطع أن تحمل نفسها على تركه، فلم تكن قد حملت سلاحا قط حتى ذلك اليوم. وكانت ترتدي تنورة من قماش خشن وحذاء جلديا مزخرفا بثقوب وقميصا حريريا مثل قمصان الرجال، تعلم أنها بدت حسنة عليها مع قبعتها العريضة الإطار. ورغم أن ظهرها كان يؤلمها والعرق الساخن يدغدغ وجهها، والناموس الكبير المرقط يطن حول كاحليها، فقد كانت سعيدة للغاية.
ضاق المجرى وجاء محل تجمعات الزنابق المائية ضفاف منحدرة من الوحل اللامع، مثل الشوكولاتة. ومن بعيد مال فوق الجدول أكواخ متهالكة من القش، غرست قوائمها في قاعه. كان ثمة صبي عار واقف بين كوخين، يطير خنفساء خضراء مربوطة بخيط كأنها طيارة ورقية، وقد صاح لدى رؤية الأوروبيين مما دعا إلى ظهور المزيد من الأطفال فجأة. رسا الرجل البورمي العجوز بالزورق إلى مرفأ مصنوع من جذع نخلة واحدة ممتد في الوحل - غطي بالبرنقيل فكان مناسبا لوطء الأقدام - وقفز وساعد إليزابيث على الخروج للبر. وتبعهما الآخرون بالحقائب والخراطيش، وفلو، التي سقطت في الوحل وغاصت حتى كتفيها، كما كانت تفعل دائما في هذه المناسبات. تقدم رجل عجوز هزيل يرتدي إزارا قرمزيا، على وجنته شامة نبتت فيها أربع شعرات رمادية طولها أربع ياردات، وجعل ينحني محييا ويصفع رءوس الأطفال الذين تجمعوا حول المرفأ.
قال فلوري: «هذا زعيم القرية.»
قادهم الرجل العجوز إلى منزله، وكان يسير متقدما منحنيا على نحو غريب، مثل حرف L مقلوب؛ نتيجة للروماتيزم مجتمعا مع الانحناء الدائم للسادة الضروري لدى أي مسئول حكومي صغير. سار حشد من الأطفال سريعا وراء الأوروبيين، والمزيد والمزيد من الكلاب، تنبح كلها وتدفع فلو للانكماش ملتصقة بكعبي فلوري. في مدخل كل كوخ تلاصقت مجموعات من الوجوه الريفية محدقة في السيدة الإنجليزية. مالت القرية إلى العتمة في ظل الأوراق العريضة. حين تسقط الأمطار كان الجدول يفيض، لتتحول الأجزاء السفلية من القرية إلى مدينة فينيسيا خشبية قذرة حيث يخطو سكانها من أبواب أكواخهم إلى زوارقهم.
كان منزل زعيم القرية أكبر قليلا من المنازل الأخرى، وكان سقفه الحديدي المتعرج مصدر فخر له، رغم الضجة غير المحتملة التي تصدر عنه عند سقوط الأمطار. كان قد تراجع عن بناء معبد ليسدد ثمن ذلك المنزل، ومن ثم قلل من فرص بلوغه النرفانا بدرجة كبيرة. صعد السلم مسرعا وركل برفق في الضلوع شابا كان راقدا في غفوة في الشرفة. ثم استدار لينحني محييا الأوروبيين مرة أخرى، سائلا إياهم الدخول.
قال فلوري: «هلا دخلنا؟ أعتقد أن علينا الانتظار نصف ساعة.»
قالت إليزابيث: «ألا يمكنك أن تطلب منه إخراج بعض المقاعد في الشرفة؟» كانت إليزابيث قد قررت سرا بعد تجربتها في منزل لي ييك ألا تدخل منزل أحد من أهل البلد أبدا، ما أمكنها ذلك.
ثارت ضجة داخل المنزل، ثم جاء الزعيم والشاب وبعض النساء يجرون مقعدين مزينين بزهور الخطمي الحمراء بطريقة غريبة، وكذلك بعض نباتات البيجونيا المزروعة في صفائح كيروسين. كان جليا أنه قد جرى تجهيز ما يشبه العرش المزدوج بالداخل من أجل الزائرين الأوروبيين. بعد أن اتخذت إليزابيث مجلسها ظهر الزعيم مجددا ومعه إبريق شاي، وسباطة موز أخضر زاه هائل الطول، وست لفافات سيجار بورمي أسود كالفحم. لكنه حين صب لها فنجان شاي هزت إليزابيث رأسها رفضا، فقد بدا الشاي أسوأ حتى من شاي لي ييك، لو كان هذا ممكنا.
فرك الزعيم أنفه وقد بدا عليه الإحراج. فالتفت إلى فلوري وسأله ما إذا كانت السيدة الشابة تريد بعض الحليب في الشاي. فقد سمع أن الأوروبيين يشربون الشاي بالحليب. وإذا كان هذا هو المطلوب فمن الممكن أن يأتي الفلاحون ببقرة ويحلبوها. إلا أن إليزابيث ظلت عازفة عن الشاي؛ لكنها كانت عطشانة فسألت فلوري أن يرسل في طلب إحدى زجاجات المياه الغازية التي كان كو سلا قد أحضرها في الحقيبة. حين رأى الزعيم ذلك تراجع، شاعرا بالذنب لعدم كفاية ما هيأه من تحضيرات، وترك الشرفة للأوروبيين.
كانت إليزابيث لا تزال تحرس سلاحها على ركبتيها، بينما اتكأ فلوري إلى سور الشرفة متظاهرا بتدخين واحد من سيجار زعيم القرية. كانت إليزابيث متلهفة للشروع في الرماية، حتى إنها راحت تمطره بأسئلة لا حصر لها. «متى يمكننا البدء؟ هل تعتقد أن الخراطيش لدينا كافية؟ كم عدد مثيري الطرائد الذين سنأخذهم؟ أرجو حقا أن يحالفنا بعض الحظ! هل تعتقد أننا سنصطاد شيئا؟» «ربما أشياء عادية. من المؤكد أننا سنصطاد القليل من الحمام، وربما دجاج الأدغال. هذا ليس أوانه، لكن لا بأس إذا اصطدنا ديوكا. يقولون إن ثمة نمرا في الأنحاء، وإنه كاد يقتل ثورا في القرية الأسبوع الماضي.» «نمر! كم سيكون رائعا إذا استطعنا صيده!» «أخشى أن هذا شيء مستبعد تماما. القاعدة الوحيدة للصيد في بورما هي ألا تأمل شيئا، وهو الشيء المحبط للغاية. فالغابة تعج بالطرائد، لكن في أغلب الأحيان لا تتسنى لك الفرصة حتى لإطلاق النار من مسدسك.» «ما السبب؟» «لأن الغابة كثيفة للغاية، فقد يكون الحيوان على بعد خمس ياردات ومتواريا تماما، وفي كثير من الأحيان يتمكن من التهرب من مثيري الطرائد. حتى حين ترونه يكون للحظة فقط. كما أن الماء موجود في كل مكان، لذا فالحيوانات ليست مرتبطة بموقع محدد. فالفهد مثلا قد يهيم لمئات الأميال إذا أراد. مع توفر مختلف أنواع الطرائد، ليس هناك قط ما يضطرها للعودة لذبيحة إذا كان يشوبها ما يدعو إلى ريبة. حين كنت صبيا، كنت أسهر ليلة تلو الأخرى فوق جثث نتنة بشعة لأبقار، منتظرا فهودا لم تأت قط.»
Página desconocida