وانتقل الحديث إلى الشيوعية، فراح يستنكرها في حماسة عجيبة؛ فقد ثار هنا ثورة انفعالية لا يتوقعها السامع من رجل ديني طابعه الهدوء، وقال - وكأنه يخطب جمهورا كبيرا أمامه مع أنه يتحدث إلى شخص واحد في طائرة تشق ظلام الليل على ماء المحيط: إنني أعلنتها مرارا في كنيستي، بأنني مستعد لجمع التبرع من أهل دائرتي الكنسية؛ لأعطي المال المتجمع لأي إنسان يحس في نفسه الرغبة في اعتناق الشيوعية، فيسافر إلى الروسيا على حساب كنيستي، وإذا استطاع الدخول فله الحق في اعتناق المذهب الشيوعي الذي تمناه لنفسه، أما إذا أوصدت دونه أبواب الروسيا وعاد بخفي حنين، ففيم إذا استمساكه بمذهب لا يريد أصحابه أن يفتحوا له أبوابهم لينضم إلى صفوفهم؟
أطفئت المصابيح داخل الطائرة، وراح المسافرون يصلحون من مقاعدهم ليناموا، وأسندت رأسي ونمت ثم صحوت بعد ساعتين، وشعرت ببرد خفيف فتدثرت ببطانية صغيرة موضوعة في أعلى مقعدي، ثم نمت مرة أخرى نحو ساعة ... الركاب نائمون أو هم يتخذون ظواهر النوم ... ونظرت إلى المحيط، فلم أر محيطا بالطبع؛ لأننا على ارتفاع شديد، لكني رأيت جوا مفضضا؛ فالظاهر أنها كانت ليلة مقمرة، وأن ضوء القمر كان منعكسا على السحاب من تحتنا فأحدث هذا اللون الفضي ... إنني الآن أشعر برئتي حين أتنفس، ولست أدري أهي نتيجة محتومة بسبب الارتفاع، أما أنها ظاهرة خاصة بي وحدي.
ظللت أنظر إلى الجو الفضي خلال الزجاج، وقلت في نفسي: ما أبعد الفرق بين إنسان وإنسان! قارن بينك الآن وأنت تعبر المحيط على هذا النحو، وبين كولمبس وهو يعبر المحيط نفسه؛ لتعلم كم يكون الفرق بين الفرد المبدع الخلاق المبتكر وبين الأفراد الذين يجيئون بعد ذلك فيتبعونه! إن خيال رجل واحد وجرأته فتحت للناس عالما جديدا، وشقت لهم طريقا جديدا، وسرعان ما يختلط علينا الأمر فنظن ألا فرق بين من يبدع ومن يتبع! سرعان ما يختلط علينا الأمر في مصر فلا ندرك فرقا بين مبتكر الطائرة مثلا وبين من يركب الطائرة على نموذج أمامه! سرعان ما يختلط علينا الأمر في مصر فلا نرى المسافة الشاسعة بين عالم يبحث ويصل إلى النتائج الجديدة وينشر هذه النتائج، وبين من يأتي بعد ذلك ليقرأ هذا المنشور ويدرسه ويفهمه، فنقول لأنفسنا: إن منهم علماء ومنا علماء، ولا فرق بين شعب وشعب ولا بين شرق وغرب! ... لكن الفرق يا صاحبي هو نفسه الذي يقع بيني وبين كولمب في عبور المحيط، عبره هو لأول مرة مغامرا مخاطرا متخيلا متعقلا، وعبرته بعده تابعا، فلا مغامرة ولا مخاطرة ولا خيال ولا فكر.
الخميس 17 سبتمبر سنة 1953م
أخذت تباشير الصبح تنتشر حولنا بعد أن قطعنا في سواد الليل أكثر من خمس عشرة ساعة؛ لأننا نتجه غربا كما تتجه الشمس، فنحن والشمس نسير في اتجاه واحد كأنما نحن معها في سباق لا نريدها أن تلحق بنا، لكنها في سيرها أسرع من طائرتنا، فلحقت بنا بعد ظلام طويل، ونظرت عند إشراقها فإذا نحن سائرون فوق سحاب كثيف: منظر غاية في الروعة والجمال، فكأن ما تحتنا من سحاب جبال من رغاوي الصابون، أو أكداس من دخان أبيض.
بدأت الحديث مرة أخرى مع القسيس الذي يجلس إلى جواري، ولم نكد نتحدث حتى طرق الكاثوليكية من جديد يحدثني فيها، ويطلب مني في إلحاح أن أقابل القسيس الكاثوليكي في البلد الذي سأحل فيه، وهو كولمبيا من ولاية كارولاينا الجنوبية، وعاد مرة أخرى يستوثق مني الرأي في بعض نواحي الفلسفة المعاصرة من وجودية ووضعية منطقية؛ ليرى كيف يمكن للدين أن يتقي مواضع الخطر، وقال لي آخر الأمر: إنك لن تجد الأمريكيين كلهم من أمثالي، تحدثهم مثل هذا الحديث العالي فيفهمونك، فقد تقول لهم: «وضعية منطقية»، فيسألونك: كم طابقا تكون هذه العمارة؟ فأنبأته بأن زعماء هذه الحركة الفلسفية هم اليوم في أمريكا، ونحن إنما نتبع ولا نجيئهم في ذلك بجديد.
وصلنا مطار نيويورك بعد طيران دام ثلاثا وثلاثين ساعة، وكنت قد احتفظت في ساعتي بوقت القاهرة، فكانت الساعة عليها عندئذ الثامنة، فأرجعتها ست ساعات لتدل على وقت نيويورك، ووجدت سيدة تسأل عني جاءت لتستقبلني ووجدت معها قائمة بأسماء الغرباء الذين ينتظر وصولهم اليوم، أعطتها إياها وزارة الخارجية، وسرعان ما علمت أن السيدة تنتمي إلى جمعية تطوعية جعلت مهمتها استقبال الغرباء من أساتذة وطلاب؛ ليمهدوا لهم طريق الاستقرار في بلادهم حتى لا يضلوا السبيل كما يضل كل غريب ليس له هاد يهديه، وقد يظن السامع أن هذه هي الجمعية الوحيدة التي أخذت على نفسها هذه المهمة الإنسانية؛ لأنه في الحقيقة يكفي أن تفكر جماعة واحدة في التطوع لمثل هذا العمل، لكنني دهشت حين أعطتني السيدة قائمة بأربعة وثلاثين عنوانا لأربع وثلاثين جمعية تطوعية، كلها تألفت لهداية الزائرين الغرباء!
خرجت من مكان التفتيش الجمركي، ووقفت أنتظر السيارة العامة التي تنقل المسافرين من المطار إلى المدينة، وهنا جاءني الشرطي فحياني بقوله: لا شك أنك مغتبط لعودتك إلى أرض الوطن؛ فهذا شعور أحسست به أنا لما عدت إلى الوطن بعد غيبة. فقلت له: أنا مغتبط لوصولي، ولكني زائر وليست أمريكا بوطني. فراح الشرطي يحدثني حديثا يفيض ودا وطيبة قلب عما ينبغي أن يكون بين الناس من إخاء مهما اختلفت أوطانهم، وسأل متعجبا: لماذا تنشأ حرب بين قوم وقوم كالحرب الكورية مثلا؟ ألا يريد كل رجل أن يعيش بين أهله؟ وقال لي الشرطي - فيما قال - إنه إيطالي؛ فلم أفهم لأول وهلة ماذا يريد، ولو أنه بالطبع يقصد أنه من أصل إيطالي، لكني لم أخل عندئذ من دهشة أن يذكر الأمريكي أصله الأوروبي أول ما يذكره عن نفسه من حقائق، وجاءت السيارة فأعانني في حمل حقائبي وأوصى السائق بي خيرا، ودله على أقرب مكان للفندق الذي علم أني سأقيم فيه.
لقد تحدثت حتى الآن مع ثلاثة: القسيس في الطائرة، والسيدة المتطوعة في المطار، وهذا الشرطي، ولو كان هؤلاء عينة للشعب الذي جئت لزيارته، فهو إذا شعب ودود كريم طيب معين.
الجمعة 18 سبتمبر
Página desconocida