ومن أغرب ما قرأت اليوم من أنباء هذا النبأ الذي أثار دهشتي لما فيه من دلالة عميقة، وأعني النبأ القائل بأن «إنسان البلت داون» الذي كان معروضا في المتحف البريطاني بلندن، والذي كشفت عظامه في جنوبي إنجلترا واتخذت دليلا على الحلقة المفقودة بين القردة والإنسان في نظرية التطور، قد تبين أنه خدعة علمية كبرى! فقد اقترف العالم الذي أعلن كشفها غشا وتزويرا بأن تناول عظاما حديثة وطلاها وزور أجزاءها على نحو يوحي بأنها هي العظام القديمة المنشودة! إنني لفي عجب شديد أن يبلغ التزوير العلمي كل هذا الحد، ولماذا؟ ليقال عنه إنه خليق بالتمجيد؛ أليس هذا إمعانا وإسرافا في الرغبة في الشهرة حتى وإن قامت الشهرة على زيف وغش؟ ... لكن فيم العجب وأمثال هذا الزيف عندنا في مصر بالقناطير المقنطرة؛ فما أيسر على المصري أن ينقل غيره ويكتم خبر النقل ليشتهر بالعلم على حساب غيره ... ليست الشهرة الزائفة في المحيط العلمي أمرا غريبا في مصر، لكنها في الحق جد غريبة في بلد كإنجلترا؛ وقد مر أربعون عاما تقريبا والعظام معروضة في المتحف البريطاني بلندن، والعالم كله ينظر إليها على أنها الأساس العلمي المتين الذي يدعم النظرية التطورية، ويكتب المجد العلمي لمكتشفه ... هذا أقوى دليل على أنه لا علم بغير أخلاق.
الثلاثاء 24 نوفمبر
أذعت اليوم أولى إذاعاتي عن مصر وعن الإسلام، وسأذيع سلسلة منها هنا بغير أجر دعاية لوطني الذي يجهله الناس جهلا لا يطوف لنا ببال ... لكن طريقة الإذاعة لم تعجبني؛ فهي تجارية إلى درجة لا يطيقها عاقل؛ كنت لا أطيقها مستمعا وها أنا ذا اليوم أجربها من الداخل فلا أطيقها مذيعا؛ ذلك لأن إذاعتي مسمار تتعلق عليه طائفة من إعلانات تجارية! تسألك المذيعة سؤالا عن بلدك، فتحسب السؤال بريئا لوجه الله فتجيب، وإذا بها تستدرجك في مهارة عجيبة حتى تذكر لها في إجابتك شيئا تريده لتقول عنه إعلانا في يدها؛ مثال ذلك أن تسألك إن كنا نزرع الفاكهة في مصر والتفاح بوجه خاص، لينتهي بها الأمر أن تقرأ صفحة كاملة في يدها عن «تفاح بيرو» أين يباع وبأي ثمن يباع، وما ميزاته على سائر أنواع التفاح ... وهكذا، وبذلك لا أظنني قد تحدثت عن مصر أكثر من اثنتي عشرة دقيقة من نصف الساعة الذي سمح لي به، وبقية الزمن إعلانات قرأتها المذيعة في مناسبات خلقتها خلقا أثناء حديثها معي عن مصر.
الأربعاء 25 نوفمبر
قرأت تحليلا أدبيا لزوج عن زوجته، ولم يسعني إلا الضحك لشدة ما رأيت من شبه بين الزوجة الموصوفة - وهي أمريكية - والزوجات عندنا في مصر، كأنما الإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان؛ ذلك أن الزوج يذكر عن زوجته فيما يذكره نقطتين: الأولى أنها تشتري من البائعين الذين يطوفون البيوت، معتقدة أرسخ العقيدة أنها ما دامت قد اشترت على الباب، فلا بد أن تكون الصفقة رابحة! وعبثا يحاول الزوج إقناعها أنها مخطئة أحيانا على الأقل؛ فالأطباق التي اشترتها بخمسة وستين سنتا للطبق تباع بثمن أرخص من هذا في الدكاكين، لكن هيهات أن يتغير اعتقادها ... والنقطة الثانية أنها كثيرا ما تبالغ في شراء الأشياء التي قد تستغني عنها الأسرة، فإذا ما ضاق الزوج ذرعا بهذا التصرف الأحمق، زعمت له أنها لم تدفع الثمن من حساب المصاريف، فلا حق له أن يضيق صدرا، بل دفعته من المال المتجمع في «الحصالة» ... ثم يشرح الزوج الكاتب قائلا: والمال المتجمع في «الحصالة» إن هو إلا قطع من النقود تسقطها زوجتي كل يوم في صندوق مثقوب من أحد جوانبه، وهي بذلك تتوهم - وتريد أن تقنعني بصدق وهمها - أن النقود لم تعد نقودي ولا هي من حساب المصاريف، ما دامت قد تجمعت في «الحصالة»! ... ولم يسعني سوى أن أضحك في مرح؛ لأنني تذكرت السيدة «ح» التي كأنما كتب الكاتب ليصفها، مع أنه أمريكي وهي مصرية! فالزوجات كلهن سواء.
لست أدري ما الذي حول مزاجي في القراءة هذا التحول العجيب فلم يعد يلذ لي إلا قراءة القصص، أقرؤها بشغف شديد، وإنما أعني بطبيعة الحال القصص التي يكتبها ذوو الأقلام المجيدة، والتي أجد فيها من تحليل الطبائع البشرية ما أستمتع به متعة فنية كبرى؛ لم أعد أستسيغ ولا أطيق المقالة «الحاف» التي تتكلم بلغة التعميم، خذ مثلا المقالة التي قرأتها الآن توا عن سيرفانتيز، فكيف يمكن أن تقاس المتعة التي أستمدها من قراءة هذه المقالة بالمتعة التي كنت أستمدها لو قرأت ولو جزءا يسيرا من سيرفانتيز؟
على كل حال؛ إن فكرة قوية تلعب في رأسي صباحا ومساء، وهي أن أهم بكتابة القصة؛ إنني أشعر بغيرة شديدة حين أقرأ قصة قصيرة أجاد كاتبها في التحليل؛ لماذا لا أكتب مثل هذا؟ هذه وحدها هي الكتابة، هذا وحده هو الأدب؛ والحياة مليئة بالموضوعات؛ فكل شخص ممن أعرفهم يمكن أن أستخرج من حياته مواقف تحليلية تضع الطبائع البشرية في ضوء الشمس؛ وكل يوم من حياتي بغير استثناء فيه مواقف يصح أن تذكر، كم موقف يمكن استخراجه - مثلا - من حياة «ح» و«ع» و«ه» و«س» ... إلخ إلخ؟! لقد قرأت اليوم قصتين قصيرتين بارعتين: الأولى تحلل فتى ريفيا في طباعه أراد أن يشتبك في علاقة غرامية مع فتاة مصقولة من فتيات المدن، وهو جاد وهي هازئة ... أليست حياتي الشخصية مليئة بمثل هذه الخبرات فيمن أعرف من الناس؟ فلماذا يقع الكاتب هنا على موقف كهذا فيجيد تحليله، ولا نقع نحن مع أنه كان في صميم حياتنا؟ ... والقصة الأخرى كاتبتها امرأة، هي قصة فتاة تسابق على حبها شابان: أحدهما محتال دجال والثاني مخلص صادق، ولم تفعل الكاتبة سوى أن عرضت صورتين للشابين: كيف يتصرفان إزاء الفتاة ... هذه هي الحياة نراها ونعيشها فلماذا لا نكتبها؟!
الخميس 29 نوفمبر
اليوم «عيد الشكر» وهو عيد أمريكي يغلب فيه أن يكون الديك الرومي محور الغداء، وأنا مدعو اليوم عند الكابتن «ش» وزوجته السيدة «ش» التي تحضر لدرجة الأستاذية في الفلسفة، وتحضر لي محاضرات الفلسفة الإسلامية، وهما يسكنان في «سمتر» في داخل مطار حربي هناك، وهي مدينة تبعد عن كولمبيا نحو خمسين ميلا.
جاءت السيدة «ش» وزوجها ليأخذاني بسيارتهما، وقد كانت السيدة كعادتها دائما معنية بلبسها وبقرطها، وهي اليوم تلبس عقدا من نوع القرط، وكلاهما من فضة مرصعة بما يشبه فصوص الماس ... حدثاني في الطريق عن حياتهما، فكلاهما تخرج في جامعة تكساس، كانا زميلين، غير أن السيدة قد سبقت زوجها في التخريج بعام، وكنت أقدر لهما من العمر ثلاثين عاما، لكني لما علمت اليوم أنها تخرجت منذ عامين، رجحت أن يكونا أصغر من ذلك بكثير، والوجوه كثيرا ما تخدع عند تقدير الأعمار.
Página desconocida