طبعا أخذ الفتاة هم حين رأت فتاها الزنجي ينتظر في المكان المحدد وفي الموعد المضروب، لم يكن يخطر ببالها أنه زنجي؛ فكان ارتباك وكان اضطراب، وقد سألها الفتى عندما همت بالعودة إن كانت ستمضي في مراسلته كما كانت تفعل؟ فأجابته في تردد: نعم، حينا بعد حين وبغير انتظام ... وهي الآن تطلب المشورة من مخدومها: هل هناك ضرر في العودة إلى التراسل مع ذلك الصديق بعد أن تبين أنه زنجي؟
تحليل الزنجي في موقفه ومشاعره، وتحليل الفتاة في موقفها ومشاعرها، وتحليل الكاتب في خواطره ... كل ذلك آية من آيات الفن، ورائعة من روائع الأدب؛ ولنلاحظ أن الكاتب لم يختر لتحليله الأدبي موضوعا غليظا مألوفا بحيث لا يستدعي براعة ولا بصرا نافذا، لكنه اختار موقفا فيه طرافة وفيه لطف، ويحتاج إلى دقة إدراك وبراعة تحليل ... هذه هي الكتابة، وهذا هو الأدب؛ فمن ذا يلومني إذا ما سألت نفسي ماذا يكتب أكبر أدبائنا في مصر؟ من ذا جعل تحليل النفس البشرية في مواقفها المختلفة موضوعه الأدبي؟ ... لا، أديبنا الكبير يقرأ كتابا أو جزءا من كتاب، ويلخص ما قرأ وينقده، فيصبح بذلك أديبا!
أديبنا الكبير يكتب عن مجانية التعليم أو عن الطب عند ابن سينا، فإذا هو عندنا الأديب العظيم!
وكذلك قرأت في المجلة نفسها قطعة أخرى لكاتبة أمريكية هي «كاترين آن بورتر»، وهي على ما أرى في طليعة رجال الأدب ونسائه في أمريكا ... القطعة وصف لناحية من العلاقات البشرية، ومكان الحوادث ظهر سفينة؛ فبين المسافرين طفلان توءمان: ولد وبنت، أقلقا الناس «بشقاوتهما»، فهما مثلا يريان رجلا وامرأة في مزاح فيهددانهما بالفضيحة إذا لم يعطياهما شيئا من المال ... هذان الطفلان كانا يوما في ركن خفي من السفينة يمزحان، وأدت بهما المعركة المازحة إلى وضع مريب، فيمر ضابط من ضباط السفينة، ويمسك كلا منهما بيد، ويجذبهما ليوقع عليهما العقاب، فمر بهما أمام رجل وامرأة جالسين وحدهما يتحدثان: الرجل طبيب لكنه مريض بقلبه وهو مسافر للراحة، والمرأة مسافرة عابرة جلست تتحدث إلى هذا الطبيب، لكنها فيما يظهر قد وضعت عينها عليه بغية الزواج ... سألت هذه المرأة الضابط البحري والطفلان في يده: ماذا صنع هذان الطفلان؟ فيجيب الضابط في شيء من التألم والتأفف: صنعا فظاعة لا أستطيع وصفها ... فتقول له المرأة: لا تبالغ يا أخي في هفوات الأطفال، فكلنا كان طفلا، وكلنا قد أتى في طفولته أمثال هذه الأشياء ... ويمضي الضابط ومعه الطفلان.
وهنا تبدأ المناقشة البديعة بين الطبيب والمرأة عما اقترفاه إبان الطفولة من هفوات جنسية، أما الطبيب فينكر في سذاجة أنه قد اقترف شيئا من هذا، لكن المرأة تتهكم على سذاجته هذه وتشجعه على أن يبوح بذكرياته، فتبدأ هي بقولها عن نفسها: إنني نشأت بين طائفة من أولاد أعمامي، وكانوا من «العفاريت» «الأشقياء»، فاتصلت بهم جميعا صلة جنسية وأنا لم أزل في الخامسة من عمري؛ ولست بنادمة على ذلك، ولو عادت طفولتي لعدت إلى ما فعلته. فيرد الطبيب قائلا: إنني لم أقترف من أمثال هذه الشنائع في طفولتي إلا قليلا، هما مرتان اثنتان في طفولتي كلها، فمرة وأنا في السادسة أغويت طفلة في مثل سني، ومرة أخرى وأنا في السن نفسها أغرتني بنت في التاسعة، وفيما عدا هاتين الحادثتين كانت طفولتي بريئة ... ويمضي الطبيب والمرأة في مناقشة تحليلية عن مدى الاتصال الجنسي بين الناس في الخفاء، لكن الطبيب كان دائما يمثل الرجل المغفل الذي لا يفتح عينه للحقائق ، وتمثل المرأة الشخص الذي فتح عينيه مبصرتين؛ سألته قائلة: ألم تخن زوجتك أبدا؟ فقال في حماسة: أبدا! فسألته ألأنك لا تريد خيانتها أم لأنك مريض بقلبك؟ فقال: لست أدري. قالت: ألم تشعر بالملل من عدم الخيانة؟ فقال: طبعا، ومن ذا الذي لا يشعر بذلك؟ وكذلك زوجتي لم تخني أبدا، لكنها بالطبع تشعر بالملل من هذه البراءة ...
وعلى كل حال، كان معظم التحليل منصبا على عدم براءة الأطفال؛ فقلت في نفسي: هذه خبرة ليس منا واحد لم يمر بها عدة مرات في طفولته، فأين هذه الخبرة على أقلام أدبائنا؟! لا يزال الأديب منا كالأبله يتحدث كما يتحدث رجل الشارع الأعمى عن «براءة الطفولة»؛ فأديبنا عاجز عن الملاحظة الصادقة والتحليل الصادق لمشاعر الناس ونفوسهم وخواطرهم.
الثلاثاء 17 نوفمبر
رفعت جماعة من أولياء أمور الطلبة الزنوج، في ولايات أربع من ولايات الجنوب التي تفرق بحكم قوانينها بين البيض والسود في المدارس، فتجعل لهؤلاء مدارس ولأولئك مدارس، بحيث لا يقبل أسود في مدرسة البيض، رفعت قضية إلى المحكمة العليا في واشنطن تطلب إلغاء الفصل اللوني في المدارس التي تنفق عليها الدولة، وهي التي تسمى ب «المدارس العامة»، فما دامت الدولة للجميع، فلا يجوز بعد ذلك أن يختص البيض بمدارس والسود بمدارس أخرى؛ وهم في قضيتهم يستندون إلى التشريع المسمى «التعديل الرابع عشر للدستور» الذي كان فيما مضى قد صدر ليقضي بإلغاء كل وضع من شأنه أن يخلق الشعور بالنقص بين الزنوج.
وخشية أن ينتهي الأمر بالمحكمة العليا إلى الحكم بامتزاج اللونين في مدارس الحكومة، استعدت ولايات الجنوب التي يستحيل عليها أن تقبل هذا الامتزاج، بتشريعات مضادة إذا ما وقعت الواقعة.
كذلك قرأت عن قضية رفعها زنجي إلى المحكمة العليا ضد شركة من شركات السكة الحديدية في الجنوب؛ لأنه أراد أن يأكل في عربة الأكل فمنع من ذلك حتى لا يأكل مع جماعة من البيض تحت سقف واحد ... لقد فهمت مما قرأته اليوم عن هذه القضية أنها رفعت لأول مرة عام 1942م، وهي حتى الآن بين أخذ ورد في محاكم الاستئناف؛ لأن المحكمة كانت حكمت عندئذ أن يسدل ستار على جزء من عربة الأكل بحيث يخصص ما وراء الستار للزنوج، وبهذا يأكلون إذا شاءوا دون أن يختلطوا بالبيض في عربة واحدة اختلاطا ظاهرا، لكن الزنجي الذي رفع القضية لم يقبل هذا الحكم واستأنف.
Página desconocida