فدار الحديث بين الأساتذة حول التفرقة بين البيض والسود، وهو موضوع حساس يشغل الناس هنا كبيرهم وصغيرهم، ويستحيل أن يذكر هذا الموضوع أمامي إلا وأظل صامتا لا أنبس بحرف واحد ... وعرفت من حديث الأساتذة ما اشتد له عجبي؛ إذ عرفت أن من تقاليد الصحف المحلية هنا ألا تنشر صورة لرجل أسود أو امرأة سوداء، وألا تذكر زنجيا أو زنجية بلقب «السيد فلان» أو «السيدة فلانة».
قال الدكتور «ك» وهو ساخط على هذه التفرقة: إنني أذكر أن رجلا أبيض كان مخمورا فدخل على امرأة زنجية في دارها وقضى معها الليل، فلما افتضح أمره في الصباح، أطلق البوليس على التهمة «إخلالا بالأمن»، وحكم على الرجل بغرامة بضعة دولارات، أما إذا حدث العكس، فدخل رجل زنجي على امرأة بيضاء في دارها، فالجريمة عندهم يكون اسمها «اغتصابا جنسيا» ويكون الحكم فيها بالإعدام!
وقال الدكتور «ك» بعد ذلك: قولوا ما شئتم، أما أنا فتؤذيني هذه التفرقة في العدالة، ولا بد أن تسوى العدالة بين الجميع ... لكن بقية الأساتذة كانوا أميل إلى الاعتراف بالفوارق القائمة بين البيض والسود، وإن يكن معظمهم كان يخفف القول بزعمه أن الأمر مرهون بالزمن، وأن الحال يزداد صلاحا، والفوارق تزداد زوالا على مر السنين.
كان منتصف الساعة الثامنة مساء موعدي مع السيدة «ج» أرملة العالم الأثري الأستاذ الدكتور «ج» - وقد كان مديرا لمعهد الآثار الأمريكي، وأستاذا للدراسات القديمة في جامعة نيويورك، ومؤلف كتاب «الفئوس السحرية» - فقد دعتني كما دعت الأب «م» وزوجته ...
ضغطنا على جرس الباب الخارجي، فلاحظت أن صوت الجرس الذي أسمعه يدق داخل الدار ليس كسائر أجراس البيوت، بل هو أقرب إلى أجراس المدارس، وجاءت سيدة في الخامسة والثمانين من عمرها ففتحت لنا الباب، وهي السيدة «ج» التي تقوس ظهرها، وعيناها واسعتان عليهما شبه غشاء من ماء، ويداها مرتعشتان.
وأول ما يصادف الداخل إلى دارها أجراس معلقة على حائط البهو في هيئة عقود كبيرة، مائة جرس على الأقل أشكالا وألوانا؛ فهذا من نحاس وذلك من حديد، هذا أصفر وذلك أزرق؛ وقفت بنا عند هذه الأجراس وأخذت تقول: إنني أحب الأجراس، اشتريت هذا الجرس في روما، وكان هذا الجرس معلقا في لجام جمل عند أهرام الجيزة في مصر، وهذا الجرس كان هو جرس بيتنا أيام طفولتي، وهذا وهذا وذلك ... إنني أحب الأجراس! كنت في روما أعلق عقود الأجراس على فروع الشجر أمام شرفة منزلي، فكلما هب الهواء واهتزت الفروع سمعت رنين الأجراس أنغاما مختلفة جميلة؛ إنني أحب الأجراس ...
ودخلنا بعد ذلك غرفة الجلوس إلى يميننا؛ كل المقاعد خشبية غليظة متينة، وبها منضدة من خشب غليظ متين كذلك، فهذا المقعد كتلة خشبية وضعت على ثلاث قوائم تركت على صورة فروع الشجرة التي لم ينجرها قادوم أو مساحة، صنعته السيدة «ج» بيدها من أشجار حديقتها، وذلك المقعد قطعة من جذع شجرة لا قوائم لها وهكذا، وراحت السيدة تقص علينا تواريخ مقاعدها واحدا واحدا، أين صنعته وكيف صنعته، وتعلق تعليقات عاطفية نحو أثاثها كلما قصت علينا تلك التواريخ؛ فهي تحب هذه المنضدة، وهي تحنو على ذلك المقعد، وذلك الكرسي عزيز عندها.
وجدران الغرفة مليئة «بالمعلقات» صنوفا غريبة: أطباق ملونة وصور وتحف ومصابيح ... وخرجنا من غرفة الجلوس لندخل غرفة مقابلة لها هي المطبخ وفيه مائدة الطعام، وقفت السيدة «ج» وعلى كتفيها خمسة وثمانون عاما، وأمسكتني من ذراعي وقالت: في هذه الغرفة حياتي؛ فها هنا أعمل وها هنا أطعم وها هنا أقرأ وها هنا أعيش.
وتنظر حولك في هذا المطبخ فترى العجائب، حتى لا يسعك أحيانا إلا أن تضحك من كل قلبك؛ وابدأ من الباب: فقد كتبت السيدة «ج» على باب مطبخها - أعني على خشب الباب نفسه - وصفات لأكلات، ووقفت تشرح لي لماذا ملأت الباب بهذه الكتابة الفريدة في نوعها، فهي تقف أمام الفرن هكذا، وتلتفت بوجهها هكذا دون أن تتحرك، فترى كم من الدقيق تضع وكم من السكر أو البيض أو اللحم؟ فلماذا لا أوفر على نفسي عناء كتاب أفتحه كلما أردت الكشف عن شيء أثناء الطهي؟ ... وانظر إلى نافذة المطبخ تجد عند قمتها رفا رصت عليه عشرون زجاجة صغيرة مختلفة الشكل، وكلها ملئ بالزيت، فتسألها: هل هذه صنوف مختلفة من الزيت؟ فتقول: لا، كلها نوع واحد، إذا لماذا تضعين الزيت في هذا الصف الطويل من زجاجات صغيرة؟ فتجيب: لأني أحب شكلها هكذا صفا من زجاجات.
لم تكن السيدة «ج» في عيني حتى الآن سوى امرأة كهلة أقرب إلى البلاهة، وربما أصابها شيء من الخرف، لكن سرعان ما خاب ظني؛ فلم ألبث أن رأيت فيها امرأة من عجائب البشر:
Página desconocida