ولا شوق للزواج في حالي الصغر والكبر، فليس له في الحالين من خبر، فشهوة الطعام للحياة، وحب الزواج لبقاء الأنواع لا الأشخاص، كيف لا وقد عاش الخصيان بدونها، وبقي العنين والمجبوب ولا أثر من تلك الشهوة عندهما، ولا خامر حب الاقتران قلبهما.
وهل يعيش المرء بلا معدة؟ كلا. فقلت في نفسي: يا رب، ما هذه المقدمات؟ وما علاقتها بسياسة الأمم؟ لا جمال إلا حيث مظنة الحمل، فإذا ضعفت غاض ماء الجمال، وأعقبه نور الجلال، حب الزواج تسخير للناس في المنافع العامة، ألا إنما يخدمون غيرهم، ويضعون في الأرض أمما تخلفهم، ويا عجبا كيف استحالت الشهوة والعشق جيوشا وجنودا، وعظماء وقوادا! إن الناموس الطبيعي سخركم، بل سحركم لفعلين اثنين، حياة أنفسكم، وحياة غيركم المسمين بالبنين، أعمالكم إذن نصفان، نصف لكم، ونصف لغيركم، وأنتم مدفوعون مرغمون بقاهر يسمى حب الزواج، ولم تحرصوا على هذا إلا حيث صح منكم الولد حال القوة، فكان لغيركم لا لأنفسكم مقصودا.
ليس حب التناسل مقصودا لذاته كالسماع، فسماع الأغاني محبوب لجماله، وسر الاقتراب والشهوة مرغوب لإنجاب البنات والبنين، ألا إن لذة الإنسان بها سياسة قهرية، وشهوة سخرية، إنكم تخدمون الأبناء لنفس الأبناء، ولا حظ في الحقيقة للأمهات والآباء إلا الفضيلة العالية، والهمة الراقية، إذا قصد أحدكم منفعة نفسه من ابنه، فذلك لضعف فطنته، وقلة خبرته، ألا ترى الدجاجة والحمامة وسائر الحيوان يخدمن أبناءهن، ولا يبتغين المنافع منهن، إنهن يسعين في مصالحهن لنفس الذرية، لا للمنافع الذاتية، وكثير من الناس يموتون قبل أن ينالوا حظا من أبنائهم.
فالقضية الصادقة: أن الحيوان والإنسان يخدمان الأبناء لنفس الأبناء وسعادة الذرية.
الأمة كإنسان، وجمعية الحيوان كحيوان، قد ألفت الغربان جمعية، وكلاب البحر قرية، والنحل والنمل لها نظامات حسب حاجتها، جماعات جماعات، على مقدار حاجتهن، فعمل الواحد في النمل والنحل للمجموع كعمله لنفسه، الإنسان اليوم لم يرتق عن الحيوان في الجمعية ، وإذا كان الحيوان ساعد أبناءه ونظم جمعياته، فما امتياز الإنسان عن الحيوان إلا الخدمة العمومية للجمعية الإنسانية.
لو أن الأمم عرفت استعداد الإنسان لخدمت الأمم كلها خدمة واحدة، ولعملت لأنفسها قسطا ولغيرها قسطا، كما رأينا الفرد يعمل لنفسه نصفا ولغيره المسمى ابنا نصفا آخر، غفل الناس غفلة عظيمة.
أواه، يا ليتهم قرءوا علوم النحلة، هذه النحلة الصغيرة الضعيفة اندمجت في مجموع الكوارة العسلية، ودخلت في زمرة الجمعية، فتصور أنها كبرت فصارت إنسانا وأعطيت مواهبه، وأخذت في الكون مراتبه، فأقسم بالعلم وشرفه، والفضل وتاجه، إنها تكون جمعية كلية، في سائر الكرة الأرضية، ولكانت خير من عمر الأرضين، ووالله يا بني الإنسان، إن لم تقلعوا عن أعمالكم، وترجعوا عن غيكم، لتبتلعنكم الأرض أجمعين، ويخلفكم عليها قوم آخرون، فلستم للخلافة صالحين، ولا في عمارة الأرض بمصلحين.
ألا لا ينتظم حال الإنسان، إلا بمثل هذا الميزان، الأمم اليوم جاهلة، يعوزها الحكماء المصلحون، والقادة الراشدون، ولمثل هذا فليعمل العاملون، فلما أتم مقالته سألته: وما الحكمة الذهبية؟
الحكمة الذهبية
فقال: ألستم مغرمين بالفضة والذهب، عاشقين لجمالهما، هائمين بحسنهما ونضارتهما، وحسن نقشهما، ورقشهما؟ فقلت: بلى. فقال: أوليست الشمس أنضر وجها من الدينار والجنيه، وأبهى ضوءا، وأبهر لألاء، أوليس القمر والكواكب أحسن أشكالا وأجمل بهاء وأزهى نورا من الفضة وبريقها، فكيف استبدلتم حب الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ فتعجبت من هذا الاعتراض البديهي البطلان، وقلت: يا ليت شعري، أي هاوية أراد أن يقذفني فيها، وأي حفيرة يرديني بقاعها. فقلت له: ما عشقنا جمال الذهب الشمسي، ولا بريق الفضة القمري، وإنما هيامنا بمنافعهما، وقضائهما حاجاتنا، وكم جميل ظاهره نبذناه إذا ساء مخبره، فنحن إن راقنا جمالهما فذلك لمعنى مخبوء فيهما وجمال باطني مغطى بسناهما، ولقد جرت العادة أن الجمال الظاهري يغلب أن يصحبه الجمال الباطني، ففي أكثر الأحوال، جمال الشكل دليل الاعتدال. فرأيته يتهلل وجهه، ويشرق سناه. فقال: إذن أنتم لا تحبون الأشياء إلا لحقائقها، ولا تراعون إلا فضائلها؟ قلت: نعم. قال: كلا والله، لم تصلوا قرب الكمال ، ولا تزالون عن الحكمة مبعدين، وعلى الجهل في الحب عاكفين، يا هذا، إن الفرس ليحب من قدم له العلف أكثر من حب سيده الذي اشتراه، وأغدق عليه النعم وواساه، وإذا قذفت الكلب بحجر أخذ يعضه ويعاقبه لقصر نظره وضعف فطنته، لقد قلت إنكم تحبون النقدين لقضاء الحاجات، فممن تقضون حاجاتكم، ومع من تستبدلون نقودكم؟
Página desconocida