أخلاق الإنسان
أفدني كيف حال نوع الإنسان، وكيف أخلاق الطبقات المختلفة؟ قل لي ألست أنت الذي حكمت على الإنسان بأن فيه خيرا وشرا، وكمالا ونقصا، وجهلا وعلما، وقوة وضعفا، وإنك خالطت سائر طبقاتهم، ودرست جميع أخلاق وأحوالهم، تارة بالمجالسة، وأخرى بالمكاتبة، وآونة بالنظر في الأخبار والجرائد وكتب الآفاق؟ عشت مع الفلاحين، وزرعت مع الزارعين، وتخللت صفوفهم، وخالطتهم في حقولهم، فرأيت نفوسا خاملة، وعقولا قابلة، ومنهم البررة المتقون، ومنهم الطالحون، ومنهم من يمكرون كالثعالب، ومنهم من يختانون كالذئاب، والمعظم فيما بينهم ذو الجاه والمال، ومن كان أكثر مكرا، وأقدر على النميمة، وأتم في الحيل، وهم يحبون العلماء، ويودون الأولياء، ووجدت طبقة الفقهاء فريقين، فريقا سبح وصلى بكرة وعشيا، فكان قوله صدقا، وحكمه عدلا، والآخرون جعلوا العلوم حيلة محتال، وشبكة صائد وبهتان دجال، فأكسبهم قوة بها على الجهال يصولون، وأعطاهم قدرة على المكر والدهاء فهم لا يرحمون، فخالطت أهل الآداب والفضائل، ومن اتسموا بالعلم وسار ذكرهم في الآفاق، فعاشرتهم وخالطتهم، فرأيت صفات العامة كامنة في أخلاقهم، وغرائز الجهلاء باقية في أوصافهم، ولكنهم يمتازون بالقول الخالب، والمكر السيئ، فلما رأيت الخبيث والطيب، والجيد والرديء فيما حولك، رجعت البصر إلى العوالم المتمدينة، العالية الرأس، السامية الذرى، فألفيت فيما بينهم سياسات العامة، وعلوم الخاصة، إنك قلت أن النوع الإنساني ما زاده العلم إلا زيادة القوة الحيوية، بالعلوم الرياضية، ودرس المسائل الطبيعية، والمهارة الصناعية، هذه هي العلوم الحقة الصادقة.
أما في الأخلاق والإخلاص والصدق وحب نوع الإنسان، فذلك قليل في الأمم، ولم يقم بهذه الخصلة الشريفة، والخلة الحميدة، إلا أناس نبغوا في كل أمة يتخللون ثنايا الزمان، كالنجوم الزواهر، في أكناف السماء. فقلت له: أيها السيد النبيل، نبل قدرك، وجزل رأيك، ونطقت بالحق، وخبرت بالصدق، لقد عبرت عن بعض ما يختلج قلبي من المعاني، وإني لأزيدك إيضاحا ؛ إن الطبقة المتنورة في سائر الأمم والممالك، تخضع لزخرف القول، وتستنيم للأكاذيب، ويغرها البهتان، ويسحرها الكلام الخالب، فحال الناس في سياساتهم ومعاشراتهم كحال المحامين أمام القضاء، والشعراء المادحين، يعمدون إلى طلاء القول وما يؤثر في الوجدان والضمائر، وما يستفز النخوة ويبعث النجدة، كما ترى في جرائدهم وأخبارهم، فشأن أكثر الناس إلا قليلا أن ينخدعوا بالطلاء الكاذب، والزخرف الباطل، وما مثل المخادعين والمزخرفين إلا كمثل من رمى شبكته ليصطاد، فهو يرتقب صيدا لا محالة، ولقد شهدت أهل الرأي في مجالسهم يخدعون وينخدعون، ويقتطع زيد من كلام عمرو جملة بتراء، لينفذ فيها سهم نقده، ويقدح فيها زناد فكره، ويتجاوبون بالباطل، ويفعلون فعل العامة. ولقد نجحت بعض الأمم في تهذيب الشعب كما يروى عن أهل سويسرا، ولكن التهذيب والتأديب في سائر الأمم والممالك قاصر على الفضل فيما بينهم، واقتسام الرحمة عندهم، وهم حرب على من سواهم، من الأمم والممالك، لا سيما أئمة السياسة، وأكابر الأمم، فأولئك بأممهم وحدها مغرمون، وعلى حياتهم وحياتها يحرصون.
الفصل الرابع
فضائل الإنسان
وهنا أخذتني الغيرة، وذهبت سكرة الحق، وجاءت فكرة التعصب للجنس والنخوة والحمية. فقلت في نفسي: يا للعار ويا للشنار! روح من الأرواح تجلت لك ساعة من الزمان، فتشرح لها حال الإنسان، فيذمنا عند العوالم الأخرى، ويا عار الأمم الأرضية، إذا رجع صديقي الوجدان إلى كوكب المريخ أو المشتري، أو ركب متن مذنب هالي وساح في النظامات الفلكية العالية، وربما قابل علماء أورانوس ونبتون، وربما ركب كوكبا آخر، فصعد إلى المجرة التي فيها ما لا يتناهي من الملايين النجمية، فيخبرهم بأخلاق الأمم الحاضرة، وما فيها من زور وبهتان، وجهل فاضح، أوأكون أنا السبب في نشر هذه الأخبار في عوالم السماء عن أرضنا! فوالله لأذكرن محاسن الإنسان، كما ذكرت مساويه، وأنشر فضائله، كما أذعت نقائصه، ولأذيعن الخير كما أذعت الشر. كل هذا خطر لي وأنا ساكت.
فدنوت إليه فوجدته يتبسم. فقلت له: أيها الملك الطاهر، والصديق الخالص، إن الإنسان وإن أساء فقد أحسن، وإن ضل فقد هدي، ألا ترى أن منا الأنبياء والمرسلين، والحكماء والعلماء والصالحين والأولياء، وفينا صفة الرحمة! فمن منا لا يجزع لمصيبة حلت بأخيه الإنسان! ومن من المصريين والشرقيين لم يجزع لحوادث زلازل الطليان، وقد اختلف القومان، وبعد المكان، وتباين الدينان، ولقد آنست قوما من فقراء الروم يطلبون الإحسان، والمعونة، أمام كنيسة رومية في شارع الحمزاوي بالقاهرة، فبكيت ورحمت، وآنست مرة غلاما روميا يبكي، وقد ضل الطريق، فسألته فكلمني بلغته فلم أفهم، فجزعت ولم يسكن ألمي إلا بعد أن أسلمته لرجل من بني جنسه فعرفه، وأنه ضال طريق المدرسة، وإنا ليسرنا شعر شعرائهم، وعلم كبرائهم، كما يفرحهم علمنا ورقينا، ويسوءهم جهلنا وضعفنا، وإن غطت الشهوات على العقول، وزاحم الطمع الرحمة، والشدة اللين، والشر الخير، فالإنسان مركب من الخير والشر، والصالح والطالح، والطيب والرديء، هكذا كان وهكذا سيكون. فلما انقضى الحديث، ودعني ذلك الصديق الحميم، وانصرف ومعه الفؤاد، وقال: إن شاء الله يكون الاجتماع في الليلة القادمة، فأغمضت عيني، واستيقظت في الصباح وأنا جذل فرح بما وعيت، فقيدته في ورقة وأنا لا أدري، أذلك حقيقة أم خيال، وعجبت كما سيعجب القارئون.
الفصل الخامس
في استعداد الإنسان
فلما كانت الليلة الثانية، ونمت وأنا في حيرة من أمري، إذا قائل يقول: قم أيها النائم، فعلمت أنه صديقي ليلة أمس، فرأيته بشكل بهيج، ومنظر عجيب، ومن عجب أن صوته في الحديث موسيقي، لم أسمع مثله في عالمنا، كأنه مطرب يعلم ومعلم مطرب، فتمنيت لو يتاح لنوع الإنسان أن يحسن نغماته، ويتقن حركات أصواته، ويطرب سامعيه برناته، فأخذ يسمعني من بدائع العالم ما سرني وبهرني، ومن قوله أتظنون أيها الناس أنكم وصلتم الغاية المطلوبة، والدرجة المرغوبة، كلا، إنكم في أول طريقكم سائرون، وعن الصراط السوي ناكبون. ثم قال: لقد ذكرت الخير والشر وامتزاجهما في نفوسكم وقرره حكماؤكم، وذلك دأبكم، تحكمون على الأشياء بمظاهرها، ولا تدرسون ماهيتها وحقائقها، إن ما ذكره حكماؤكم في الإنسان قطرة من بحر، وذرة من جبل، ألا أعرفك حقيقة الإنسان واستعداده. فقلت: ذلك غاية مقصدي، ونهاية مطلبي ، وأنت مشكور، وبالفضل مذكور، فقال: على شريطة أن تنشر الكتاب في أنحاء الكرة الأرضية، والعوالم البشرية. فقلت: ذلك عهد بيني وبينك.
Página desconocida