Mis Documentos … Mi Vida (Primera Parte)
أوراقي … حياتي (الجزء الأول)
Géneros
كان ذلك في يوليو 1959، مصر تتأرجح بين اليسار واليمين والوسط والإخوان المسلمين، أعوان عبد الناصر يضربون أي رأي لا يدين بالولاء والطاعة، والرقابة على الكتب والأفلام والصحف وكل شيء. رفضت الرقابة رواية مذكرات طبيبة. حاول صلاح أبو سيف مرة أخرى بعد عامين، لم ينجح في الحصول على الموافقة. حاول مرة ثالثة عام 1966، ومرة رابعة عام 1972، ثم سمعت صوته اليائس عبر الأسلاك يقول: المشكلة ليست في الرواية يا دكتورة، المشكلة في اسم نوال السعداوي. - ما له الاسم يا أستاذ صلاح؟! - بيقولوا عليكي شيوعية.
كانت المضيفة قد جاءت بالعربة عليها صواني الطعام، سألتني: سمك أم لحم البقر أم فراخ؟ تحيرت لحظة وقلت: ما رأيك أنت؟ ابتسمت وقالت: كله لذيذ يا سيدتي. ضحكت وقلت: هاتي كله! ضحك الشاب الكهل الشبيه بجريجوري بيك الجالس إلى جواري وقال للمضيفة: أظن أن لحم البقر الأكثر لذة يا سيدتي. - لماذا يا سيدي؟ - لأنه مريض بالجنون.
أطلقت المضيفة ضحكة عالية متحررة من قيود الأرض، ووضعت أمامه طاجنا ملتهبا خارجا لتوه من الفرن، تفوح منه رائحة اللحم المشوي والبازلاء الخضراء، لم أكن بهذه الجرأة لأمرض بجنون البقر، رغم الجين تونيك والنبيذ الأحمر كانت خلية في عقلي لا تزال واعية تماما، خاضعة لقيود الأرض والمنطق، تؤكد لي أن السمك المشوي أو الفراخ المشوية أفضل للصحة من اللحوم الحمراء. توقفت عن أكل اللحم الأحمر منذ عامين؛ بسبب ارتفاع الكوليسترول في الدم، وبسبب ما أقرأه في الصحف الأمريكية عن مرض جنون البقر في بريطانيا. كان جريجوري بيك يلتهم طاحن اللحم بشهية الأطفال، أسنانه بيضاء حادة مثل أسنان الذئب، عيناه تلمعان بلون السماء الأزرق تشوبه خضرة الزرع. - هل قال لك أحد من قبل أنك تشبهين صوفيا لورين؟! - وهل قال لك أحد من قبل أنك تشبه جريجوري بيك؟!
ضحكنا طويلا وجاءت المضيفة تجر العربة عليها زجاجات الليكور الصغيرة، أنواع من المشروبات المركزة التي يشربها الأثرياء بعد وجبات الطعام كنوع من مسك الختام، أخذ زجاجة صغيرة من الكونياك «ديمي مارتن»، وأخذت أنا زجاجة من الليكور، له نكهة البرتقال، اسمه «كوانترو».
دار بيننا حوار طويل، طوال المسافة ما بين نيويورك ولندن، سبع ساعات ونصف ساعة نتحاور معا دون انقطاع، نام الركاب جميعا في الطائرة، إلا هو وأنا، شحنة من الحياة والسعادة تغمرني من قمة الرأس حتى بطن القدمين، حالة من الحالات لم أعشها منذ كنت في العاشرة من العمر، تشبه الطيران في الحلم، أرمق جناح الطائرة الفولاذي الأسود يشق السحب البيضاء كأنما هو خيال، أو مشهد في فيلم سينمائي، وأنا ألعب دور صوفيا لورين، ولماذا صوفيا لورين بالذات؟ في أول الشباب حين كنت طالبة بالسنة الأولى بالجامعة كان بعض الطلبة ينتظرونني أمام مدخل الكلية، أسمع أحدهم يقول: سامية جمال جت أهه! صديقتي بطة كانت تقول إنني أشبه إستر ويليامز، لكن صفية تقول إنني أشبه صوفيا لورين، أما سامية فكانت تراني عاطلة من الجمال، إلا العينين. فقط عيناك يا نوال، والباقي كله لا شيء، صحراء جرداء. تمط بوزها إلى الأمام وهي تنطق الكلمتين: صحراء جرداء.
تكلمنا سبع ساعات ونصفا دون أن أسأله أو يسألني عن اسم أبي أو جدي، أو جنسيتي أو ديني أو قبيلتي أو عائلتي أو أي شيء آخر من هذا القبيل. بدت كل هذه الأشياء غير ضرورية، المكتوبة في جواز السفر، وما يسمونها عناصر الهوية أو الشخصية، بدت في تلك اللحظة كأنما هي أغطية، مجرد أغطية، تخفي حقيقة الإنسان أكثر مما تظهرها.
وكأنما جزء من الحقيقة بدأ يظهر فوق السطح، مثل جبل الثلج تحت الماء، يظهر بالتدريج مع يقظة ما يسمونه اللاوعي، أو على الأصح غياب الوعي، ربما بسبب الارتفاع الشاهق فوق كوكب الأرض واكتشاف الكواكب الأخرى، أو ربما التغيير الكيميائي داخل خلايا المخ إثر النبيذ والجين تونيك والكوانترو. - يبدو أنك سافرت كثيرا في بلاد العالم. - وأنت أيضا؟ - سافرت إلى كل بلاد العالم ما عدا البلاد العربية وإسرائيل. - لماذا؟ - لأني غاضب من حكومة إسرائيل ومن الحكومات العربية، كنت أحد المسئولين في الأمم المتحدة عما يسمونه مشكلة الشرق الأوسط، ثم قدمت استقالتي. - قدمت استقالتك من الأمم المتحدة؟! - منذ ثلاثة أيام فقط في اجتماع نيويورك الأخير.
فرد ذراعيه عن آخرهما وملأ صدره بشهيق عميق أعقبه بزفير طويل، وقال: أخيرا تحررت من سجن الوظيفة بالأمم المتحدة بعد ثلاثين عاما، عشت ثلاثين عاما كالسجين، أسيرا للقوى الدولية ومحكمة العدل ومجلس الأمن، كنت أفكر كل يوم في الاستقالة، لكني لم أكن أملك حريتي، كنت أسيرا لمؤسسة أخرى داخل البيت.
حركته وهو يفرد ذراعيه عن آخرهما ويقول «أخيرا تحررت من سجن الوظيفة» يكاد يشبه أبي حين فرد ذراعيه عن آخرهما بعد أن أحالوه إلى المعاش وصاح بعد أن أخذ شهيقا عميقا أعقبه بزفير طويل: أخيرا تحررت بعد ثلاث وثلاثين سنة، كنت رهين المحبسين الوظيفة الحكومية وسرير الزوجية. - هل أنت متزوجة؟ - نعم. - وعندك أولاد وبنات؟ - ابنة واحدة وابن واحد، وأنت؟ - عندي ثلاث بنات، تخرجت الكبرى من كلية الصيدلة؛ لكنها لم تحب رائحة الأدوية فالتحقت بفرقة موسيقية في سويسرا، الابنة الوسطى درست الأدب المقارن ثم سافرت إلى باريس، حيث تزوجت زميلا لها من جنوب إفريقيا، الابنة الصغرى في لوس أنجلوس ضمن حركة نسائية جديدة يسمونها ما بعد الفيمينيست. ضحك بصوت طفولي وقال: أنا مع تحرير المرأة، لكن ابنتي تعيش مع زميلة لها أمريكية، تفخر بأنها «ليزبيان»، أنا لست ضد الحرية الجنسية؛ لكني لا أنجذب للذكور، ربما أكون رجلا تقليديا عجوزا، وأنت؟ ماذا عن ابنتك وابنك؟ - ابنتي تخرجت من كلية الاقتصاد وحصلت على درجة الماجستير والدكتوراه، لكنها تركت كل ذلك وتفرغت للأدب وكتابة القصص والمقالات، وابني تخرج من كلية الهندسة واشتغل مهندسا لمدة أسبوع واحد فقط ثم تفرغ للإخراج السينمائي. - فانتاستيك! هذا جنون رائع! وأنت؟ - أنا تخرجت من كلية الطب وكذلك زوجي شريف، لكنه ترك الطب وتفرغ للأدب وكتابة الروايات، وأنا أيضا كاتبة روائية. - أنتم أسرة عجيبة مجنونة، وكلكم تعيشون في القاهرة. - نعم.
لم يكن سألني عن اسمي حتى ذلك الوقت، ولم أكن سألته عن اسمه، لكني تذكرت أنني قرأت عن استقالة أحد المسئولين بالأمم المتحدة في إحدى الصحف قبل هبوط الطائرة في نيويورك، كان هو قد غادر مقعده واختفى قليلا ربما في دورة المياه. رأيت جريدة الجارديان تطل من الجراب أمام مقعده، بدأت أتصفحها حتى رأيت صورته في إحدى الصفحات، وحوارا قصيرا معه عن أسباب استقالته. أعدت الجارديان إلى مكانها في الجراب، عاد إلى مقعده يحمل لفة صغيرة مربوطة بشريط أخضر رفيع، وضعها في حقيبته الصغيرة تحت مقعده، ضحك وقال: لا بد من هدية صغيرة لزوجتي أكفر بها عن ذنوبي الكبيرة. - قرأت الحوار معك في الجارديان. - ما رأيك؟ - أتفق معك في كل شيء إلا شيئا واحد! - ما هو؟ - كان يجب أن تستمر في موقعك ولا تستقيل؛ لأن شخصا آخر سوف يحتل مكانك وينفذ ما يريدون. - أنا معك، لكني تعبت، ثلاثون سنة وأنا أعيش هذه المأساة، أشارك في هذه اللعبة السياسية التي يسمونها اجتماعات الأمم المتحدة، وقرارات مجلس الأمن، وكلها مجرد لعبة للتغطية على جرائم إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، لم تنفذ إسرائيل قرارات مجلس الأمن، بينما تقوم الأمم المتحدة بنزع أسلحة الدمار الشامل في العراق والبلاد العربية والإفريقية والآسيوية. لم تتحرك لنزع السلاح النووي في إسرائيل؛ لأن الولايات المتحدة ومعها بريطانيا، تريدان أن تكون إسرائيل القوة العسكرية النووية الوحيدة في المنطقة. تملك إسرائيل أكثر من مائتين وخمسين صاروخا محملا برءوس نووية، أين ستوجه هذه الرءوس؟ إلى بغداد ودمشق والقاهرة وطهران وأنقرة وأي بلد في المنطقة لا يدين بالولاء والطاعة! وهذه اللعبة السياسية التي يسمونها مفاوضات السلام في الشرق الأوسط! أيمكن أن يكون هناك سلام وشعب العراق يموت منه الآلاف يوميا من الجوع تحت الحصار لأكثر من ثمانية أعوام؟! وهذه الأكذوبة عما يسمونه برنامج النفط مقابل الغذاء؟ هل يعقل أن فريق التفتيش على أسلحة الدمار الشامل في العراق الذي يضم موظفين في المخابرات الأميركية يعيدون صياغة التقارير كما يشاءون؟! هل يعقل أن يتم تحميض الأفلام في إسرائيل، هذه الأفلام التي تم تصويرها في العراق بواسطة فريق التفتيش؟ هل يعقل أن المخابرات الإسرائيلية الموساد كانت تزود فريق التفتيش بالمعلومات عن المواقع الهامة كي يتم تدميرها بالكامل، ولإسرائيل خبرة في هذا منذ ضربت المفاعل النووي في العراق. وهذه المهزلة التي يسمونها تحريك عملية السلام، والمفاوضات المسدودة لتحقيق بعض حقوق الشعب الفلسطيني، في الوقت الذي لا تتنازل إسرائيل عن شيء، بل يزداد عدد المستوطنات ويزداد عدد القتلى من الفلسطينيين! وبكل أسف فإن بعض الحكومات العربية تشارك في هذه اللعبة كما شاركت في حرب الخليج عام 1991.
Página desconocida