بل أسرع وأقطع وأمضى، ولو حدث بعد الذي فعل طيفها أن مدفعا من المدافع ألقى ظله على الأرض فانفجرت من ظله القنابل تخرب وتدمر وتأتي على ما تناله والمدفع ذاته قار ساكت - لقلت عسى ولعله، وأمر قريب، ولعل المدفع كان امرأة. •••
ولكن تحت أطلال نسياني، وما تخرب من عزيمتي ... انكشف لي كنز من الخيال دخلته وملكته، ولم أر فيه الدر والجوهر والماس والياقوت في جسم الأرض؛ بل رأيت فيه الحبيبة تسطع من جسمها البديع، حقائق كل هذه الجواهر الكريمة، حتى لكأنها والله في غرابة الحلم حسناء من در وماس وجوهر وأشعة تتلألأ، وما شئت أن أرى صفاء ولا جمالا ولا حسنا ولا فتنة إلا رأيت فيها.
ولكم كنت أتخيل إذ أجلس معها وأقلب عيني في محاسنها ومفاتنا - أن أظافرها المصقولة الملتمعة إن هي إلا لؤلؤ من جوهر جسمها، وأن الحلي على هذا الجسم الجميل إن هو إلا شعل تتوهج من ضوء لحمها، وتورد دمها لا من ذهبها وجوهرها.
غير أني في كنز الخيال رأيت ذلك هو الحقيقة بعينها، وعلمت أنه لمعنى جميل تنجذب الحسان إلى الحلي والجوهر؛ إذ كانت من طبيعة أجسامهن.
طيف جاء الروح المهجورة بالحبيبة، فاستنشتها كأنما هي نسمة طائفة على روضة من الورود؛ ومر بروحي التي جفتها هي وجرحتها مرورا أنعم من لمس الشفة للشفة، وغمرها بمحاسن تملؤها ذوقا وطيبا، وتحول هو معها روح قبلة مشتهاة على انتظار طويل، ففيه مسها ولذتها وحلاوتها.
وفي الحلم يتجلى الحبيب لمحبه كما هو داخل في نظام عقله، وكما هو مستقر في أمانيه؛ فيكون على ذلك كأنه من خلق النفس وتصويرها، فتفتن به أشد الفتنة، وكأنها لم تر معانيه في أحد قط ولا فيه هو نفسه، ومن هذا قلما ناجى الحبيب حبيبه في رؤياه، أو طارحه الهوى أو الحديث، أو نوله مما يشتهي إلا انتبه المحب، وكأنه لم يلم به من هذا كله شيء؛ بل ذاب هذا كله في دمه حلاوة روح لها طعم ومذاق! •••
يا للرحمة من طيف يعذب العاشق بالرحمة ... إذ ينقل الحبيب كله إلا الحبيب نفسه ... ويحقق للمحب أمانيه إلا بهذه الأماني ... ويخيم على ظلمة الصد بألوان من نهار يموت قبل النهار ... وفي عالم معذب من الهواجس والخيالات العاشقة المستلبة إرادتها، ينصب عالم نعيم من الهواجس والخيالات المعشوقة مستلب الإرادة أيضا، فكأنها سخرية النفس من جنون صاحبها ... يا للرحمة ...! •••
وتحت أطلال نسياني، وما تخرب من عزيمتي ... ظفرت بمقصورة كأنها من مقاصير الجنة لها جو عبق نافج مليء من الإحساس الخالد والشعور الطروب، كما ملئ بالأسرار والألغاز، ترف عليه معاني الضحكات والنظرات والابتسامات: تمازجه تعابير الصوت والموسيقى والثياب الحريرية والروائح العطرة، يسبح في كل ذلك جلال الحب وجمال المحبوب وروحي العاشقة!
وارتفعت حقيقتنا كلينا إلى عالم من الكنايات والمجازات والاستعارات، فكان الحب ثمة يتخذ شكله السماوي فيتسع بالإدراك في كل شيء؛ إذ يجعل الحاسية كأنها من حواس الخلود، فلا نهاية لمسرة تتصل بها، ولا نهاية للذة تخالطها، ومن ذلك لا نهاية لأفراح قلبي في الحلم ...
وكانت هي كل تقاسيمها تعبيرات معنوية، حتى لكأنها صورة متجسمة من أوصاف بارعة في الحب والجمال خصصت بعلمها أنا وحدي؛ إذ لا يمكن أن يهتدي إليها إلا فيها وحدي، وكنت مع طيفها كأني ملقى في حالة من حالات الوحي لا في ساعة من ساعات الكرى.
Página desconocida