ورمى أدهم بنفسه بين إدريس وقدري، وصاح بأخيه: أفق، إنك تقاتل بلا سبب، بنتك طاهرة لم تمس، لكنك أرعبتها ففرت، أدركها قبل أن تختفي.
وجذب قدري إليه، ورجع به مسرعا وهو يقول: أسرع .. تركت أمك في حالة إغماء.
أما إدريس فانطلق في الظلام وهو يصرخ بأعلى صوته: «هند .. هند!»
17
تبع همام عم كريم فاجتازا الممشى تحت عريشة الياسمين متجهين نحو السلاملك. بدا الليل في الحديقة شيئا جديدا، لطيفا رطبا مترعا بنشوات الأزهار والرياحين فانسكب بروعته في أعماق روحه. وامتلأ الشاب بشعور جلال وافتتان، وحنين مودة عميقة للمكان، وبأنه مقبل على أجل لحظات عمره. وتراءت لعينيه أنوار وراء شيش بعض النوافذ، ونور قوي ينبعث من باب البهو فارشا على أرض الحديقة تحته شكلا هندسيا، فخفق قلبه وهو يتخيل الحياة خلف النوافذ وفي الأبهاء، كيف تكون؟ ومن يحياها؟ وزاد قلبه خفقانا حينما تمثلت لخاطره هذه الحقيقة العجيبة وهي أنه مخلوق من سلالة هذا البيت ونطفة من هذه الحياة، وأنه جاء ليلقاها وجها لوجه في جلباب أزرق بسيط وطاقية باهتة، منتعلا أديم الأرض. ورقيا في سلم السلاملك، فمالا إلى جناح الشرفة الأيمن نحو باب صغير، فتح على سلم فصعداه في صمت لا ينم عن حياة، حتى بلغا ردهة طويلة مضاءة بمصباح يتدلى من سقف مزركش، واتجها نحو باب كبير مغلق يتوسط الردهة. وقال همام لنفسه في تأثر بالغ: «في موضع من هذه الردهة، لعله هذا الموضع عند رأس السلم، وقفت أمي منذ عشرين عاما لتراقب الطريق، أي ذكرى تعيسة؟!» ونقر عم كريم على الباب الكبير مستأذنا للقادم، ثم دفعه برقة وتنحى لهمام جانبا وهو يشير له بالدخول.
ودخل الشاب في أناة وأدب ورهبة، فلم يسمع صوت الباب وهو يغلق وراءه، ولم يشعر إلا شعورا غامضا بالنور المضيء في السقف والأركان، أما وعيه كله فقد انجذب نحو الصدارة حيث تربع الرجل على ديوان. لم يكن رأى جده من قبل، ولكنه لم يشك في هوية الجالس أمامه، فمن يكون هذا الهائل إن لم يكن جده الذي سمع عنه الأعاجيب؟ واقترب من مجلسه وهو يتلقى من عينيه الكبيرتين نظرة استلت من ذاكرته جميع ما فيها، ولكنها بثت في قلبه في الوقت نفسه طمأنينة وسلاما. وانحنى حتى كادت جبهته تمس طرف الديوان، ومد يده، فأعطاه الآخر يده، فلثمها من الأعماق، وقال بشجاعة غير متوقعة: مساء الخير يا جدي.
فجاءه الجواب من صوت جهوري لم يخل من أنغام رحمة: أهلا بك يا بني، اجلس!
واتجه الشاب نحو مقعد إلى يمين الديوان وجلس على حافته، فقال الجبلاوي: خذ راحتك في مجلسك.
فتزحزح همام إلى الداخل وقلبه يرتوي من المسرة، وتحركت شفتاه بشكر مهموس ثم ساد الصمت. ولبث ينظر في نقوش السجادة تحت قدميه، وهو يشعر بموقع النظرة المسددة نحوه كما نشعر بموقع الشمس منا دون أن نراها. وإذا بذهنه يتجه فجأة نحو الخلوة القائمة إلى يمينه، فلحظ بابها بخوف وكآبة، وإذا بالرجل يسأله: ماذا تعرف عن هذا الباب؟
فارتجفت أوصاله، وعجب كيف يرى كل شيء، وقال بخشوع: أعرف أنه فاتحة مأساتنا. - وماذا ظننت بجدك لدى سماعك الحكاية؟
Página desconocida