فقال همام وهو لم يفق بعد من إهانات إدريس: حياتنا موفورة المتاعب فلا تزدها.
فصاح قدري: فلتسحقكم المتاعب التي تخلقونها بأنفسكم، أما أنا فأفعل ما أشاء.
وكانا قد بلغا الموضع الذي يسرحان عنده الأغنام فالتفت همام نحو أخيه وتساءل: أتظن أنك ناج من عواقب أفعالك؟!
فقبض قدري على منكبه بقبضته وصاح: ما أنت إلا حسود!
فدهش همام. دهمه قول أخيه الذي لم يتوقعه. ولكنه كان متعودا من ناحية أخرى على مفاجآته ومفرقعاته. ورفع يده عن منكبه وهو يقول: اللهم احفظنا !
فشبك قدري يديه على صدره وهو يهز رأسه ساخرا فقال همام: خير ما أفعل أن أتركك لنفسك حتى تندم، لن تقر بخطأ، ولن تقر به إلا بعد فوات الفرصة.
وأولاه ظهره متجها نحو جانب الصخرة الظليل. ووقف قدري مكفهر الوجه تحت الأشعة الحامية.
16
جلست أسرة أدهم أمام الكوخ تتناول عشاءها في ضوء النجوم الخافت. وإذا بحدث يقع لم يشهد له الخلاء مثيلا منذ طرد أدهم. فتح باب البيت الكبير وخرج منه شبح حاملا مصباحا. وتطلعت الأعين إلى المصباح في دهشة انعقدت لها الألسنة، وتابعته وهو يتحرك في الظلام ككوكب أرضي، وعندما توسط المسافة بين البيت والكوخ تركزت الأبصار على الشبح لتتبينه على ضوء المصباح المنعكس حتى همس أدهم: «هذا عم كريم بواب البيت.» وتضاعفت الدهشة عندما أيقنوا من أنه يقصدهم؛ فوقفوا جميعا، بعضهم اللقمة في يده والبعض اللقمة في فيه بلا حراك، وبلغ الرجل موقفهم فوقف رافعا يده وهو يقول: مساء الخير يا سيدي أدهم.
ارتجف أدهم لدى سماعه الصوت الذي انقطع عنه منذ عشرين عاما، فدعا من أعماق ذاكرته نبرات الأب العميقة وشذا الياسمين والحناء وحنينا وأشجانا، فمادت به الأرض. وقال وهو يقاوم دموعه: مساء الخير يا عم كريم.
Página desconocida