فانجذبت الرءوس نحو مصدره، حيث وقف لهيطة فتوة الحارة غير بعيد من بيته. وساد الصمت، وقد تعلقت بما سيقول القلوب جميعا. وقال الرجل بازدراء: اقبلوا الحل يا غجر، لولا غباوتكم ما كان منقذكم راعي غنم.
وسرت في القوم همهمة ارتياح، وتعالت زغاريد؛ فاشتد خفقان قلب قاسم، ولحظ دار قمر وهو موقن بأن عينيها السوداوين تراقبانه من وراء أحد الشباكين المطلين على الحارة، فداخله زهو سعيد، وشعر بلذة فوز كبير لا عهد له به. وبدا الجميع وهم يترقبون الظلام، فينظرون إلى السماء تارة وينظرون صوب الخلاء تارة أخرى، وتابعوا هبوطه درجة فدرجة؛ ومضت المعالم تتوارى والوجوه تختفي والناس ينقلبون أشباحا. أما الممران حول البيت الكبير المفضيان إلى الخلاء فقد أغلقتهما الظلمة. ودبت الحركة بين الأشباح فمشوا نحو البيت الكبير ثم قطعوا الحارة مهرولين حتى الجمالية، ثم تفرقوا كل إلى حيه. عند ذاك صاح لهيطة بصوته الآمر: نوروا!
وكان أول ما لاح من نور في دار قمر بحي الجرابيع، ثم أضيئت مصابيح عربات اليد، ثم كلوبات المقاهي، فعادت الحارة إلى الوجود. وراح قوم يتفحصون الأرض على ضوء كلوب، حتى تعالى صوت قائلا: ها هي ذي المحفظة!
وجري فنجري من فوره نحو الضوء فتناول المحفظة، وعد نقوده، ثم هرول لا يلوي على شيء نحو الجمالية مخلفا وراءه ضجة عالية من الضحكات والزغاريد. ووجد قاسم نفسه محط الأنظار، ومركز استقبال للتهاني والمزاح، ومحور تعليقات شتى تساقطت عليه كالورد. وعندما ذهب قاسم وحسن وصادق إلى قهوة الجرابيع ذلك المساء استقبله سوارس بابتسامة ترحيب وقال: جوزة على الحساب لقاسم.
68
مورد الوجه، متألق النظرات، صافي القسمات، مبتهج القلب، دخل حوش قمر ليأخذ النعجة وهو يقول: «يا ساتر.» وراح يفك رباط النعجة في بئر السلم، وإذا بصرير باب الحريم يسمع، وهو يفتح وصوت الست تقول: صباح الخير.
فقال بفؤاده ولسانه: صبحك المولى بالسعادة يا ستي. - صنعت أمس خيرا كبيرا لحارتنا.
فقال وروحه ترقص طربا: الله هو الهادي.
فقالت في نغم وشى بإعجابها: علمتنا أن الحكمة أجل من الفتونة.
وعطفك أجل من الحكمة، هكذا قال لنفسه، ثم قال لها: ربنا يكرمك.
Página desconocida