سافر «الخواجة غانم» وقد ظن أن الآنسة «مي» سوف تبرح هذا المستشفى بعد أيام ريثما يستأجر لها بيت خاص، كما وعدوه بذلك، لكن لأمر ما لم ينفذ هذا الوعد، وبقيت في مستشفى الجراحة عشرة أشهر أخرى.
احتجت الآنسة «مي»، وأضربت عن الطعام والكلام، أضربت عن الطعام لأنها لا تريد أن تذوق طعام هذه الحياة المرة الملوثة بالآلام، وأضربت عن الكلام لأنها أسفت لعقوق الإنسان. وذات يوم زارها بالمستشفى الأستاذ فلكس فارس، فكان أول شخص رأته من أصدقائها بعد عامين لم تر فيهما صديقا، ولم تمسك فيهما قلما، ولم تقرأ كتابا، ثم زارها الأستاذ أمين الريحاني، وكان قد جاء من أمريكا.
فعجب لحالها، وذاع وقتئذ بين جمهور الأدباء في لبنان أن «مي» مسجونة، فانبرت الأقلام تدافع عن قضية «مي»، وتتساءل: لماذا تسجن هذا السجن العجيب؟ وذهبت طائفة من الأدباء وأبلغوا النيابة، فانتقل النائب العمومي إلى المستشفى وقابلها، وبعد 48 ساعة من مقابلتها جاء إليها مدير البوليس ومعه ستة من الضباط المسلحين، واثنان من المساعدين، وأخرجها من المستشفى في موكب انتظم فيه عدد كبير من سيارات الأصدقاء والمعجبين.
ووصلت الآنسة «مي» إلى المنزل الذي أعد لها، وقدم لها الغذاء، فتناولته بيدها لأول مرة، وأمسكت بالشوكة والسكين بعد عامين كاملين لم تتناول بيدها طعاما ولم تمسك بها شوكة وسكينا.
وعادت إليها حريتها، واطمأنت في مسكنها برأس بيروت، وسافرت إلى الفريكة فقضت بها بضعة أسابيع. وألقت في ذلك الحين خمس محاضرات، ورسمت بريشتها خمسين صورة.
ومرت هذه السنوات الثلاث الحافلة بآلامها وأشجانها، المملوءة بتجاربها الشاقة، وكأنما الأقدار قد ادخرت هذه الأحداث لهذه النفس الأبية لتطلعها على جانب غريب من جوانب الحياة، وتكشف لها عن عجائب الإنسان ما لا يعرفه عن نفسه الإنسان.
وكنت قد عرفتها سنة 1929، وأنا وقتئذ كاتب ناشئ، فأخذت أتردد على بيتها، وأفسحت لي في مجلسها منذ ذلك الحين إلى وفاتها، وكنت جالسا يوما معها فقلت لها: أود أن أعرف ما هي أمنيتك الكبرى في الحياة؟
فقالت: وهل يمكن أن تحوي الحياة أمنية واحدة؟ إن الأماني تتغير مع الوقت، وكل أمنية هي العظيمة، بل هي الواحدة العظمى عندما تقطن جوارحنا وتستولي على كياننا، وهل تصدق أن الإنسان يبوح للناس بأعظم أمانيه؟
قد يبوح ببعضها في هذه أو تلك، ولكن الأمنية الكبرى تظل سرا مكتوما بينه وبين نفسه، ولو فقد كل شيء آخر لبقيت تلك الأمنية رأس ماله الخاص الملاصق لأخفى ما يخفى في قدس أسراره، وإذا أبيت إلا أن أبوح بأمنية ما، فهي أن تظل الأماني متجددة في نفسي ما زلت حية، وأن أموت يوم أصبح غير قادرة على التمني! •••
وذات مساء من أمسية الآحاد جلست إليها، فجاء حديث شقاء الحياة وسعادتها، فقلت لها: وما هي السعادة في رأي الآنسة؟
Página desconocida