من غبوق وصبوح
ولا يفتأ المرء يسائل نفسه ما هذا الناي الذي يبقى بعد فناء كل شيء وأنينه «سر الخلود ». أهو أداة الفن، ريشة كانت أم قلما، أم وترا؟ أهو الجاذبية سر تعارف الأكوان؟ أهو نظام الاستمرار الدائم مع ما يتخلله من تحول وانشعاب؟ أم هو الحياة كل الحياة؟
لست أعلم ما إذا كان ذلك واضحا في ضمير الشاعر، وهل هو يعني بالناي شيئا معينا؟ ولكن إن غمض علينا هذا المعنى، فإن كل معنى في صوره الأخاذة جلي، وإن كلا منها حكاية خاطرة، وقصيدة رمزية رسمت بريشة أستاذ ماهر جمع بين الحدس الشرقي والإتقان الغربي.»
ثم تقول في النهاية ناقدة: «ولكني أعتقد أن ذاتية الكاتب لم تدرك بعد استعدادها الأقصى، ولم تقف بعد على ذروة اقتدارها، سواء في التصوير أو الكتابة. إن جبران أفندي خليل جبران ما زال متسلقا كنف الجبل الذي قيدته الأقدار بالصعود إليه، وسيتابع الصعود متمردا ما دام كلفا بهذا النعت وراء ستار الهجوم والتهكم بالرموز والأمثال، ولكنه سيصل يوما إلى القمة، فنسمع منه عندئذ أجمل أنغامه، ونلمح أسمى هيئة من نفسه الفنية السنية التي تسطع في أرجائها الأضواء.»
من النقد إلى الصداقة الأدبية
نقلت ذلك مما كتبته عن كتاب «المواكب» لجبران؛ ليتابع القارئ «قصة هذا الحب» الذي بدأ أدبيا، ثم تحول فأصبح قلبيا عاطفيا، ولقد كان كفتاة رفيعة الشعور متحرجة مشفقة في نقد جبران كفتى أديب فنان، تضمر له الإعجاب والحب الدفين، ولقد أشفقت أن تنقد كتابه «المجنون» الذي صدر في نفس السنة التي صدر فيها كتاب «المواكب»، فأرسلت برأيها إليه في خطاب لم تنشره في الصحف، فأجابها جبران بخطاب خاص يقول فيه: «المجنون ليس أنا بكليتي، واللذة التي أردت بيانها بلسان شخصية ابتدعتها ليست كل ما لدي من الأفكار والمنازع، واللهجة التي وجدتها مناسبة لميول ذلك المجنون ليست باللهجة التي أتخذها عندما أجلس لمحادثة صديق أحبه وأحترمه!
وإذا كان لا بد من الوصول إلى حقيقتي بواسطة ما كتبته، فما عسى يمنعك عن اتخاذ فتى الغاب ونغمة نايه منها إلى المجنون وصراخه، وسوف يتحقق لديك أن المجنون لم يكن سوى حلقة من سلسلة طويلة مصنوعة من معادن!
لا أنكر أن المجنون كان حلقة خشنة مصنوعة من حديد، ولكن هذا لا يدل على أن السلسلة كلها خشنة ومن الحديد!
لكل روح فصول يا مي، وشتاء الروح ليس كربيعها، ولا صيفها كخريفها.»
ثم انتقل في هذا الخطاب إلى الحديث عن كتابه «دمعة وابتسامة» الذي صدر قبل سنة 1914. وكانت «مي» قد انتقدت في خطابها إليه لهجته المضطربة وضعف مقالاته، وسألته عما حداه إلى نشره، فأجابها: «أجل لنتحدث قليلا عن كتاب «دمعة وابتسامة»، فأنا لست بخائف، ظهر هذا الكتاب قبل نشوب الحرب العالمية بمدة قصيرة، وقد بعثت إليك بنسخة منه يوم صدوره، ولكن لم أسمع منك كلمة واحدة عن وصوله. أما مقالاته، فهي أول شيء كتبته، نشرت متتابعة في جريدة المهاجر منذ 16 سنة، ولقد شاء نسيب عريضة فجمعها وأضاف إليها مقالين كتبتهما في باريس - سامحه الله - ولقد كتبت ونظمت قبل «دمعة وابتسامة» بين الطفولة والشباب ما يملأ المجلدات الضخمة، ولكني لم أقترف جريمة نشرها، ولن أفعل.»
Página desconocida