تعرف بالآنسة مي بعد هجرته إلى مصر، وكان صديقا لعائلتها، وكان وقتئذ في سن الخامسة والعشرين، وكانت هي دون ذلك بقليل، وقد بدأت تحرر فصولا في جريدة والدها «المحروسة» بعنوان «يوميات فتاة». وكان أنطون الجميل يتابع هذه الفصول، ويطرب لها، ولكاتبتها الفتاة الناشئة الجميلة، وذات يوم صدرت لها «اليوميات» بمقال عنوانه «غرفة في مكتبة»، وكانت وقتئذ تتردد على الجامعة المصرية القديمة للدراسة، فخطر لها أن تكتب يوما عن غرفة مكتبتها؛ فوصفتها أبدع وصف، أعجب به أنطون الجميل، الذي كانت نفسه تمتلئ بالإعجاب بهذه الفتاة، فأرسل إليها هذا الخطاب بتاريخ 15 أبريل سنة 1915، وهو ينم عما كان ل «مي» في نفسه من حب عميق كما أن فيه فلسفة وأدبا:
يا مي! «قرأت اليوم ما كتبته في «يوميات فتاة» عما جال في صدرك من العواطف أثناء تلك الدقائق الوجيزة التي قضيتها بين صور مشاهير الكتاب في إحدى غرف الجامعة المصرية، وتلوت على مهل كمن يتلو صلاة أو يترنم بأنشودة ما أوحي إليك من الإلهام؛ منظر أمراء الفكر مصورين على الجدران من ديكارت، وكورنيل، وراسين، وموليير، إلى فولتير وهوجو.
ما أجمل هؤلاء الرجال! بل أنصاف الآلهة، تذيع مفاخرهم بعد أجيال فتاة شاعرة، وتمجد أرواحهم بلغة لم يعرفوا منها إلا الاسم، وليدة جبل الزيتون، وربيبة جبل الأرز، تنشر مآثر عظماء أبناء السين بلغة سكان المضارب.
تلك يا مي، ما أجمل خلود الفكر! أليس هو أدعى إلى الغبطة من خلود النفس؟!
أنت لست بالغريبة عن هذه الأرواح الخالدة، كما أنها ليست بالغريبة عنك، فمحبو الجمال كمحبي الحقيقة، أولاد طين واحد، بل أبناء أسرة واحدة.
أنا لم تقع عيني على هذه الصور التي وصفتها، ولكني أشك في أن المصور الذي رسم بألوانه هيكلها الفاني قد أجاد إجادتك حين صورت بألفاظك وعباراتك روحها الخالدة، وفكرها الباقي.
أنا لا أكتب إليك مقرظا؛ فلقد طالما عرفك المعجبون بأدبك الزاهر، وعلمك الوافر، كاتبة تستولد فؤادها الرقيق أسمى العواطف، فتلبسها مما تحكيه مخيلتها الفنية حلة قشيبة، وتجملها بجواهر عقلها السليم، فلا بدع إذا وصفت فأبدعت.
لا، أنا لا أكتب لأقرظ تلك التي تقرظها أعمالها وحياتها الفكرية، بل لأدون خواطر جالت في الصدر لدى تلاوة تلك الصفحة من اليوميات، فحملت القلب على التأمل والتفكير، دونت هذه الأفكار كما دونت تأملاتك اللطيفة في تلك الغرفة.
صدقت، إن للغرف أرواحا لو تكلمت الجدران لكانت أفصح من هوجو وفولتير، وصدق الشاعر العربي:
واستعجمت دار هند ما تكلمنا
Página desconocida