القسم الأول
مي الأديبة الإنسانة
(1) ذكريات عن مي
عرفت نابغة الأدب العربي «الآنسة مي» قبل وفاتها ببضع سنوات، وكنت وقتئذ كاتبا ناشئا، وقد وصلني بها عملي في الصحافة والأدب، وكانت وقتئذ تحرر بحوثا في «الهلال» و«المقتطف» و«الرسالة»، وكنت أعجب بنبوغها وسعة اطلاعها وما تفردت به بين لداتها من جمال النفس، وجمال الخلق، وجمال الأسلوب.
وقد حرصت في ذلك الحين على زيارتها كثيرا؛ لأتزود من أدبها زادا وفيرا، وكانت جلساتها عامرة بأسمى الأفكار وأحسن الآراء وأطرف الذكريات.
وكنت في هذه الجلسات أشهد من حلاوة الحديث، وصفاء النفس، ولطافة الحس، ورقة العاطفة، ورهافة الوجدان ما يذكرني بأميرة الأندلس «ولادة بنت المستكفي بالله» في القرن الخامس الهجري. فقد تغنت أسفار الأدب، وترنحت أعطاف الشعر الأندلسي بمجالسها الأدبية. وكانت نادرة نساء عصرها، ووحيدة لداتها في الذكاء والأدب والألمعية، وكانت ك«مي» تجالس العلماء والأدباء، وتناقشهم، وتباحثهم، وتعارضهم عن عقل ناضج وملكة أبية ورفعة في المحتد وشرف في النفس، ولم تنزع يوما إلى ريبة، ولم تنزلق إلى مأثمة، وعاشت حياتها لم تتزوج!
ولعل الآنسة «مي» كانت في عصرنا الحديث أقرب إليها في مزاياها الأدبية، وإن خالفتها في ميولها العاطفية، بل لقد فاقت «مي» «ولادة» بما كان لها من سعة في الأفق الفكري، ووفرة في الاطلاع، ومعرفة لعدد من اللغات الأجنبية. غير أن «ولادة» كانت صاحبة مدرسة في الأدب النسائي، سارت فيه على نهجها طائفة من نساء الأندلس، كمهجة القرطبية، وحمدونة بنت زياد، وغيرهما ممن نهجن نهجها في الأدب العاطفي والحب الروحي.
أما الآنسة «مي»، فقد كانت مدرسة وحدها، كانت أديبة نابغة، ومفكرة ثاقبة، وعربية محافظة، جمعت بين أدب العاطفة، وأدب النفس، وحب المحافظة على التقاليد، وكانت تؤيد حرية الفكر، وتعف عن الصغائر، لا تذكر إنسانا بسوء. وكان الزائر لمنزلها يرى في صدره إطارا جميلا يحوي شعارها في الحياة مكتوبا بخط ذهبي، وهو هذه الأبيات الأربعة للإمام الشافعي:
إذا شئت أن تحيا سليما من الأذى
وعيشك موفور، وعرضك صين
Página desconocida