ومما جاء في هذه الخطبة قوله: «لقد خرجت الصناعة عن حكم العقل من زمن بعيد، ولم تعد مشروعاتنا الصناعية تعنى بالعد والحساب وتحضير حسابها الختامي الدال على إيرادها ونفقاتها، وما من أحد يبدو مسئولا عن شيء ما، والزعماء بكم فهم لا ينطقون، ولم هذا؟ إن الشواهد كلها تدل على أنهم يرهبون الحقيقة.»
وسرني بعض هذا التبدل في التفكير الرسمي، وخيل إلي أنه يكاد يكون نصرا مؤزرا لي أنا نفسي؛ لأني طالما كتبت وحاججت في هذا التعقيل نفسه، ولكن بعضه أقلق بالي، وخيل إلى أبي ومن على شاكلته أن هذه الآراء تؤيد أسوأ ما تنبئوا به من العواقب.
لقد كانت المساواة في الدخل من المثل السوفيتية العليا، وها هي ذي قد أصبحت جريمة ما بين يوم وليلة، وقيل عنها: إنها غير خليقة بالمجتمع الاشتراكي، ونبذت قاعدة «الحد الأعلى لإيراد أعضاء الحزب»، وهي التي كانت تقضي بألا يزيد دخل هؤلاء الأعضاء على الدخل المتوسط إلا قليلا، وبذلك أطلق العنان لسيل من النهم والجري وراء المصالح الشخصية في الأوساط الرسمية، وأدخل نظام الأجر بالقطعة في الاقتصاد السوفيتي بأجمعه حتى في الأعمال التي لا يخفى فيها سخف هذا النظام من الأجور إن لم نقل استحالته. وبفضل هذه العبقرية السوفيتية العجيبة التي تستطيع التحول من النقيض إلى النقيض استبدل بالفساد الناشئ من كثرة الرؤساء فساد مثله ناشئ من تحكم رئيس واحد مستبد، قضى قضاء مبرما على آخر ما بقي من آثار دعوى السيطرة من أسفل أي «سيطرة العمال» على شئون الدولة.
ولا حاجة إلى القول بأن الأمر بإجراء الإصلاحات شيء وتنفيذها شيء آخر، لقد كان ستالين محقا في اتهامه الزعماء بأنهم يخشون الحقيقة، فهم يخشونها لأنها من وسائل الترف العظيمة الخطر التي لا تتفق مع مطالب الثورة، وكان الذي يخطئ خطأ بريئا في حكمه أو يقوم بتجربة فنية غير محكمة يتهم بالتخريب وتعطيل الآلات المتعمد، ويجازى على ذلك بالنفي أو السجن، كما أن الموظف الصغير الذي يرتكب خطأ في عمله كان يحل به أقسى عقاب؛ لأن ولاة الأمور ذوي العقول البوليسية كانوا في كثير من الأحيان يتهمونه بالخيانة المتعمدة، وكان التهرب من المسئولية يضع العراقيل في سبيل الجهود الاقتصادية الضخمة، ويعقدها تعقيدا لا سبيل إلى التخلص منه، وقد وصف لي جليوبنكو هذه الحال وقتئذ بقوله: «إنهم يطلبون إلينا تعقيل الصناعة والتجديد فيها وتخفيض نفقاتها، وكل هذا شيء جميل جدا يا رفيق كرافتشنكو، ولكننا لا نكاد نفعل شيئا جريئا أو خارجا عن المألوف حتى نعرض حياتنا للخطر، أليس كذلك؟ إن السلامة في رأيي ألا نفعل شيئا قط.»
واستدعيت في أواخر الخريف من ذلك العام إلى مقر لجنة الحزب الإقليمية في صحبة تسبليا كوف مدير معهدنا وزميل من الطلاب يدعى برتز كوي، ولما دخلت أغلق أمين السر الباب وأعلن أنه يريدنا أن نقوم ببحث في نيقوبول، وهي بلدة تبعد عنا بضع عشرات من الأميال.
وقال لنا: «إن العمل في تلك المدينة يسير سيرا رديئا على الرغم من مبادئ ستالين الستة، فالاجتماعات قائمة على قدم وساق، والصخب عظيم، ولكن العمل أقل مما نتطلب، هذا إلى ضعف النظام وانتشار روح التذمر بين العمال. وحال نيقوبول من الحالات التي تتطلب البحث والعناية، فأنتم تعلمون أننا ننشئ مصانع لعدة صناعات في تلك البلدة تكلفنا مئات الملايين من الروبلات، ولكن عملية الإنشاء لا تتقدم على الإطلاق لسبب لا نعلمه، والإنتاج ضئيل إلى حد لا يصدقه العقل.
ونحن نريد أن تذهبوا أنتم الثلاثة إلى هذا البلد، وأن تقيموا فيه من الوقت ما يكفي لقضاء مهمتكم، أسبوعا أو أسبوعين إذا لزم الأمر، ثم ترفعوا إلينا تقريرا عما ترونه من عيوب وعن وسائل إصلاحها، وسندرس تقريركم هنا ونعرضه على الرفيق أورزنكدز إذا وجدنا أنه جدير بالعرض عليه .»
ولما جئنا نيقوبول وجدنا أن البناء قد بدئ به من نحو ثلاث سنين في سهل خال على بعد ستة أميال من البلدة وبضعة أميال من السكة الحديدية، وزاد ذلك البعد من متاعب العمال، ولم يكن أحد يعرف السبب في اختيار هذا الموقع غير الملائم لهذا الغرض، ولو أن البناء قد اختير له مكان أقرب من هذا إلى المدينة ليسر ذلك مشكلة مساكن العمال بعض التيسير.
وكان بطرس برتشكو مدير المصنع رجلا حديث العهد بمنصبه؛ ولهذا لم يجد ما يمنعه أن يكشف عن مئات الأغلاط والسخافات التي كان العمل يتورط فيها.
وقال لي وهو يتحسر: «لقد رأيت المكان غاية في الفوضى والقذارة، حتى إن عملية الحفر وحدها كانت تعد من المشروعات الكبرى، يضاف إلى هذا عدم الانسجام بين أجزاء العمل المختلفة، فأنتم أيها الرفاق تعلمون حق العلم أن كل مصنع يشتغل باستخراج المعادن وصهرها يعتمد في عمله على غيره من المصانع، فإذا أقيم بعضها دون مراعاة البعض الآخر كان هذا هو السخف بعينه، وقد يبدو هذا العمل لا غبار عليه من وجهة الإحصاءات العمومية، ولكنه لا يبدو كذلك إذا ما بدأت عملية الإنتاج بالفعل.»
Página desconocida