وكانت هذه المحاكمة أولى المحاكمات الصورية الاستعراضية التي صارت فيما بعد عادة مألوفة في البلاد، والتي يقر فيها الناس في سكون وهدوء بجرائم اقترفوها ضد الدولة، أما في محاكمة شختى فقد ظل بعض المتهمين ينكرون ما وجه إليهم من التهم، ويكافحون للنجاة من القتل، وكان لا بد من منع هذا الشذوذ فيما يجد من محاكمات في المستقبل.
وحدثت بعد سنين من ذلك التاريخ محاكمة أخرى أخطر من هذه شأنا وأقرب منها إلى المسرحيات، وكان المتهمون فيها أيضا من المهندسين، وكانت هذه المحاكمة مظاهرة كبرى اتهم فيها جماعة من المهندسين بأنهم تزعموا حزبا صناعيا موهوما، يهدف إلى قلب النظام السوفيتي، وإعادة الرأسمالية والاستيلاء على أزمة الحكم، وصدقت أنا هذه المزاعم رغم ما فيها من سخافات ومتناقضات، كما صدقها الكثرة الغالبة من أهل البلاد؛ ذلك أن أنصار الحزب الشيوعي من رجال الجيل الجديد كانوا يقبلون من غير مناقشة المزاعم القائلة بأن كثيرين من المهندسين والعمال الفنيين الذين نشئوا قبل الثورة يناصرون بطبيعة الحال العهد القديم ويقاومون بقلوبهم - إن لم يكن بأعمالهم - ما يبذل من الجهود لتحويل الروسيا إلى بلاد صناعية.
ولم يكن أحد يشك في أن من الواجب أن يستبدل بأولئك المهندسين الذين ورثتهم البلاد من العهود الماضية جيل جديد خلت عقولهم من ذكريات الماضي، يدينون بالولاء للمبادئ السوفيتية ولخطط الحزب الشيوعي، وكان أكبر مورد تستمد منه هذه الطائفة هو الشبان من الصناع والموظفين، ومن الصناع المنضمين إلى الحزب، أو الذين يفكرون تفكير رجاله على الأقل، ومن أجل هذا اتخذت الدوائر العليا قرارا يقضي بإنشاء «آلاف» من شباب الحزب ونقابات الصناع؛ ليدرسوا في الجامعات والمعاهد الفنية الحديثة والقديمة، وكانت هذه خطة وضعت أسسها الهيئة السياسية العليا ذات السلطان الأعظم في البلاد.
وجاءت في عام 1930م هيئة ممثلة للجنة الإشراف المركزية التابعة للحزب لتبحث في شئون مستخدمي مصنعنا وجهوده، واستدعيت أنا إلى مكتب المدير، فلما دخلت الحجرة رأيت على كرسي مدير المصنع، خلف مكتبه الفخم وعدده التلفونية التي يخطئها الحصر، رجلا غريبا عرفت من الصور التي كنت أراها من قبل أنه أركادي روزنجولتز من أكبر الزعماء أصحاب السلطان العظيم في موسكو، ومن أبرز أعضاء اللجنة المركزية.
وتبسم الرجل لي وقال وهو يسلم علي بيده: «كيف حالك يا رفيق كرافتشنكو؟ لقد استدعيتك لأني وصلتني الأنباء عن أعمالك، فأنت شديد الاهتمام بتعقيل
1
الإنتاج، وهذا عمل جميل، وأنت جريء فيما تكتب في صحافتنا، وهذا أيضا حسن، فهل لك من حاجة عندي؟» - «لا، وأشكرك يا رفيق روزنجولتز.» - «حسن، هل لك أن تحدثني عن نفسك؟»
وألقيت على مسامعه ملخص تاريخ حياتي، فحدثته عن نشأتي في أسرة ثورية، وعن عملي في المزرعة التعاونية، وعن الفترة التي قضيتها في مناجم الفحم، وكيف انضممت إلى لجان الشباب، وعن خدمتي في الجيش الأحمر، وعن عملي في هذا المصنع، وعن كيفية انضمامي إلى الحزب، وما أكثر ما قصصت هذه القصة! ذلك أن الكشف عن حياة الإنسان الخاصة في المجتمع السوفيتي يكاد يشبه الطقوس الدينية في غير تلك البلاد، يؤديه الإنسان بلسانه وبقلمه ردا على أسئلة مكتوبة، تقدم له ليجيب عنها إذا ما ثارت حوله أقل شبهة.
واستمع إلي روزنجولتز وهو يدرسني دراسة دقيقة، ثم قال وكأنه وصل من هذه الدراسة إلى نتيجة: «إنك لا تزال شابا لم تبلغ بعد الخامسة والعشرين من عمرك، والحزب في حاجة إلى مهندسين صناعيين، فهل ترغب في الدرس؟ إن كنت ترغب فيه فإنا سنرسلك إلى معهد فني تقيم فيه بضع سنين، وستفيد الحزب بأن تهبه خير ما لديك من جهود؛ ذلك أن الحزب في حاجة إلى فنيين من رجاله المفكرين ليقوموا هم بتنظيم البلاد الصناعي مخلصين لمبادئه وسياسته.» - «شكرا لك، وإني ليسعدني أن أضع كل جهودي في خدمة بلادي.»
وجاء سرجو أورزنكدز نفسه إلى المصنع في اليوم الثاني، ودخل قسمنا على حين غفلة ومن ورائه عدد كبير من موظفي المصنع والإقليم الذي يقوم فيه، واضطربت حين رأيته كأني أرى ستالين نفسه؛ ذلك أن أورزنكدز كان من أقرب المقربين إلى ستالين، وهو الوزير المشرف على شئون الصناع والفلاحين، ورئيس لجنة الإشراف المركزية التابعة للحزب، وكان أول خاطر مر بخلدي حين شاهدته أنه شبيه كل الشبه بالصورة الشمسية المعلقة على جدار جمعيتنا التعاونية في حوض الدنتز!
Página desconocida