قد لا يكون هذا المواطن موسيقيا بارعا مثل تشيكوفسكي، ولكنه إذا كان يؤلف مقطوعات موسيقية جميلة، فإنه هو أيضا يعمل على إقامة صرح الاشتراكية، لقد جئت توا من مناجم الفحم، وأنا أدرك شدة حاجتنا إليه، ولكني أؤكد لكم أن حاجتنا إلى الموسيقى لا تقل عن حاجتنا إلى الفحم نفسه؛ ذلك أن من واجبنا أن نحتفظ بحرارة أرواحنا كما نحتفظ بحرارة أجسامنا.»
وتبين لي أن عبارتي كان لها أكبر الأثر في نفوسهم، ولم أكن في حاجة إلى أن أخبرهم أني أحد الصفوة المختارة، فقد كان صوتي ينم على أني من ذوي السلطان، ثم تطرق الحديث إلى موضوعات شتى قبل أن يصل بنا القطار إلى دنيبروبتروفسك، وهو الاسم الذي سميت به إيكترنوسلاف وقتئذ، وكنت أنا في جميع الأحوال المحكم في الخلاف وصاحب الرأي الأخير، ولعل الذين كانوا يخالفونني في الرأي آثروا الحكمة على الشجاعة، ولم يحاجون رجلا من شباب الحزب الشيوعي؟
ووصلت المزرعة قرب المساء، والتقى بي كلبي ركر في الطريق، فلما رآني بلغت الحماسة منه غايتها، ونظرت إلى نافذة كوخنا فشاهدت أمي تقرأ في ضوء مصباح كيروسين وقد تقدمت بها السن قليلا، وهزل جسمها قليلا، وشاب شعرها قليلا، وفتحت الباب بخفة، وناديت وأنا أحاول تغيير صوتي: «هل تقيم المواطنة كرافتشنكو في هذه الدار؟»
فصاحت ودموع الفرح تنحدر من عينيها: «فيتيا، حبيبي، عزيزي!»
وعرفت خلال السهرة ما وقع حولهم من أحداث، عرفت أن المزرعة التعاونية قد قضي عليها، وأن الأسر التي لا تزال تعمل فيها لا تزيد على ثلاث أو أربع، وأن بعض الأسر الأخرى لا تزال تقيم بها ولكنها كلها تشتغل بالصناعة في المدن القريبة، وأن أبي وإخوتي قد عادوا إلى دنيبروبتروفسك، وأنهم يتقاضون فيها أجورا طيبة، وأنهم يرجون أن يجدوا قبل الربيع شقة من حجرتين أو ثلاث حجر تلم شمل الأسرة من جديد.
أما مباني المزرعة التعاونية فقد أهملت وخيمت عليها الكآبة، فقد تصدعت سقفها في كل مكان، وانفصلت أبوابها، وانتزعت العروق الخشبية من الجدران والسقف واتخذت وقودا، وقال الفلاحون في الأماكن المجاورة: ها أنت ذا ترى أن الشيوعيين لا يستطيعون أن يفلحوا الأرض، وأن كل ما يستطيعون فعله أن يقبضوا على الناس ويجبوا الضرائب، وجاء بعضهم لزيارتي حين علموا بمقدمي، وكانوا يعاملونني بالاحترام الواجب للرجل الذي خبر العالم الخارجي، وأمطروني وابلا من الأسئلة عن مقاصد «السلطة الجديدة» نحو الزراعة ونحو أرضهم.
وكذلك أحاط بي العمال في مصنع كربينو وأخذوا هم أيضا يوجهون إلي الأسئلة، وارتجلت أنا الأجوبة التي خيل إلي أن الواجب يقضي على عضو في لجان الشبان أن يجيب بها عن أسئلتهم ، وألقيت بعد بضعة أيام خطبة في نادي المصنع عن حياة عمال مناجم الدنتز، وما من شك في أني في حديثي هذا قد جعلت الحياة في هذه المناجم تبدو لهم جميلة جذابة إلى حد ما، وإن لم أقف على ما فيها من صعاب وعيوب، وعلى أثر ذلك أعلن أربعة من عمال كربينو الشبان أنهم يعتزمون الذهاب إلى المناجم ليعملوا فيها، فأعطيتهم أسماء موظفي نقابة العمال الذين يتقدمون إليهم وعناوينهم.
وقطعنا كتلة كبيرة من الخشب وأصلحنا باب الدوار - وكانت لا تزال لنا فيه بقرة واحدة - ثم غادرت المزرعة إلى المدينة، وكان أبي وأخي الأصغر أوجين يعملان في مصنع بتروفسكي-لينين في استخلاص المعادن وسبكها، ولم ألبث إلا قليلا حتى انضممت إليهم لأعمل في المعمل الميكانيكي، أما أخي قنسطنطين فكان يعمل في مصنع آخر في دنيبروبتروفسك (وكان الاسم الذي أطلقه السوفيت على إيكترنوسلاف لا يزال غريبا غير مستساغ)، وبقيت في هذا العمل نحو ثلاث سنوات حتى بلغت سن الحادية والعشرين، فدعيت إلى الانضمام إلى الجيش الأحمر عملا بقوانين الخدمة العسكرية.
وكانت المصانع التي نعمل فيها - وهي مصانع استخلاص المعادن وسبكها - تتكون من عدة أبنية، وتشغل عدة فدادين على أطراف دنيبروبتروفسك، وكان يعمل فيها نحو 24000 رجل وامرأة، وتعد من أكبر المشروعات الصناعية في روسيا الجنوبية، واشتهر هؤلاء العمال قبل الثورة في الإضرابات والمشاغبات، فجعلوا بذلك لهذه المصانع شيئا من الأهمية التاريخية، وفيها كان يعمل الرفيق بتروفسكي رئيس جمهورية أوكرانيا السوفيتية في أيام شبابه كما كان يعمل فيها غيره من كبار الزعماء الشيوعيين في بداية أمرهم.
وكانت هيئة الحزب الشيوعي فيها ومنها لجان الشباب تضم حوالي ألفي عضو، وكانت أعمال الدعاوة على الدوام قائمة على قدم وساق، وكثيرا ما قدم إلينا كبار الزعماء أمثال بتروفسكي وركوفسكي وكجانوفتش ليخطبوا في اجتماعات المصنع، وأخذ نشاطي في أعمال لجنة الشباب يزداد زيادة مطردة، وأخذت أدرس عدة برامج فنية شغلت معظم وقتي بعد فراغي من العمل، واضطلعت بدور هام في المناقشات الأدبية والسياسية التي كانت تقوم في نوادي المصنع المختلفة.
Página desconocida