ولم يعد هناك متسع من الوقت أقضيه في ضروب التسلية الصغيرة، فقد امتلأت حياتي بالواجبات، من محاضرات تلقى، ومسرحيات تمثل لعمال المناجم، ورسائل «حزبية» تدرس وتناقش، ولم يكن يغيب عنا في وقت من الأوقات أن من بيننا سيخرج زعماء الغد ليحلوا محل لينين وبوخارين؛ ولذلك أخذنا نكمل أنفسنا ونعدها لأن تتولى الزعامة، لقد كنا نحن الحواريين في هذا الدين المادي الجديد.
ولما تبين للرؤساء أني أعرف الكتابة والخطابة بلسان طلق فصيح اختاروني على الفور لأن أكون أحد ناشري الدعوة الشيوعية، وانتخبت عضوا في كثير من اللجان المختلفة، ونشرت الدعوة بين من لم يكونوا يؤمنون بالمبادئ الشيوعية، وكان لي شأن أيما شأن في الحفلات المتعددة، وكانت هذه الحفلات تقام في مناسبات لا حصر لها، فضلا عن أيام العطلة الثورية الدورية، فإذا ركبت آلة جديدة في مصنع من المصانع، أو حفر منجم جديد، أو تم إنتاج طائفة معينة من السلع، نظمت لذلك مظاهرات تصدح فيها الموسيقى وتلقى الخطب، لقد كان الفحم في غير بلادنا فحما لا أكثر، أما عندنا فكان «وقودا» لتسيير قاطرات الثورة.
وبفضل وساطة الرفيق لزريف نقلت إلى العمل في المناجم، فلم أعد أحسد سينيا على هذه الميزة، وكونا نحن الاثنين مع طائفة من الشبان الذين يعملون في المناجم جماعة تعاونية تضطلع ببعض الأعمال وتتقاضى نظير اضطلاعها بها أجرا بوصفها وحدة، وكان الزعماء وقتئذ يشجعون هذا النظام التعاوني، رغبة منهم في زيادة الإنتاج، وكان أعضاء الجمعيات الصالحة يكسبون في الغالب أكثر مما يكسبه عمال المناجم العاديين، لكن هذا الكسب كان أقل ما نعنى به، فقد كان همنا الأكبر أن نقوم بأصعب الأعمال وأكثرها خطورة، وذلك لحرصنا على أن نثبت غيرتنا وحماستنا بالأعمال لا بالأقوال، بل إننا اتخذنا لأنفسنا شعارا أبلغناه إلى ولاة الأمور، وهذا الشعار هو: «إذا كان الشيء لازما، فإن عمله مستطاع.»
وكان أعضاء جمعيتنا التعاونية يسكنون معا في بيت نظيف مريح مزود بالكتب النافعة، وكنا نتناوب تنظيف الأرض وغير ذلك من الأعمال المنزلية، ولم يكن يخالجني شك في أن زعماء السوفيت والكتاب الروس الأقدمين المنتشرة صورهم على جدران بيتنا يعجبون بهذا المثل الرائع من «الثقافة» وسط ذلك الجو من التأخر، وكان من بين هذه الصور صورة سرجو أورزنكدز أحد المقربين من لينين، والذي أصبح فيما بعد وزير الصناعات الثقيلة، وكنت من المعجبين بوجهه الكرجي الخشن، وأنفه الكبير الأقنى، وشاربيه الأشعثين المتهدلين، ولعلي كان يوحى إلي إيحاء غامضا بأن هذا الرجل سيصبح يوما ما نصيري - وإن شئت فقل ملهمي - في أكثر السنين نشاطا من حياتي الشيوعية.
وكنا بطبيعة الحال نجيز لأنفسنا في بعض المناسبات أن نقضي ليلة نستمتع فيها بشيء من الأنس والمرح، وكان الأصدقاء والرفاق يميلون إلى الاجتماع في بيتنا، فقد كان بيتا مطبوعا بطابع «المدنية»، وكان ما يدور فيه من الحديث «راقيا» رفيع المستوى، وكان واحد منا يجيد العزف على القيثارة، وكنا نحن نغني ونرقص ونتجادل حتى ينقضي من الليل أكثره، وكان عدد من أجمل بنات الحي يشتركن معنا في هذه الحفلات، وكنا إذا استمتعنا بسهرة من السهرات أكثر مما يجب، شعرنا جميعا بشيء من الندم، وفرضنا على أنفسنا جزاء خطيئتنا هذه عقابا شيوعيا بأن نزيد من عملنا ودرسنا ومناقشاتنا السياسية في الأيام التالية.
وحدث في أواخر الخريف حادث خطير ابتليت فيه جهودنا وصبرنا على العمل، وعرف فيه هل كنا نؤمن حقا بهذا المبدأ الذي كنا نفاخر به، وتفصيل الحادث أن الماء غمر أحد المناجم، وأقيمت كتل خشبية حول جدرانه لتمنعها أن تنهار، ولكن العمل لم يقف بل سار فيه سيره المعتاد، وعرضنا نحن أن نعمل في هذا المنجم لنضرب المثل للعمال العاديين الذين كانوا يعملون فيه، ومعظمهم من التتار والصينيين.
وكنت أنا في داخل المنجم أعمل بكل ما وهبت من قوة، والماء المثلوج يغمرني إلى ركبتي، ثم خيل إلي أن الدنيا كلها ترتجف وتصر وتئن، وسمعت أحد الناس يصرخ من الفزع، أو لعلي كنت أسمع صوتي بأذني؛ ذلك أن جزءا من فتحة المنجم قد انهار، ولما فتحت عيني بعدئذ ألفيت نفسي في حجرة كبيرة مطلية الجدران بطلاء أبيض، على سرير في صف من صفوف أسرة المستشفيات، وكان طبيب في ميثرة بيضاء يجس نبضي، وممرضة حسناء متوسطة العمر تقف إلى جانبه وبيدها لوح وقلم رصاص، وحيتني الممرضة بابتسامة لطيفة حين رأتني أفيق من غشيتي.
وقالت لي: «ستشفى يا رفيق كرافتشنكو، فلا تقلق»، وأومأ الطبيب برأسه ليؤمن على ما قالت.
وقالا لي إني ظللت في الماء داخل المنجم المنهار ساعتين أو ثلاث ساعات، وإن العامل الصيني الذي كان بجواري قتل، وإن الأمل في نجاتي كان في أول الأمر قليلا، فإذا لم تكن جدران المنجم المنهارة قد قضت على حياتي فقد كنت لا محالة هالكا غرقا في الماء المثلوج، ولكن ها أنا ذا أصبت بحمى شديدة وبكدمات في ساقي، غير أني فيما عدا هذين سليم الجسم، ثم تطورت الحمى فيما بعد إلى التهاب رئوي.
ومن عجب أن الشهرين اللذين قضيتهما في مستشفى ألجفرفكا قد بقيت ذكراها ماثلة في ذهني، وأني أعدهما من ألذ الفترات في شبابي، فقد كان الناس إذا تحدثوا عن قصة جمعيتي التعاونية وما بذلته من جهد في المنجم المنهار أحاطوهما بهالة من المجد والبطولة الاشتراكية، وكنت أنا فيهما أحد الأبطال، وزارني في المستشفى عدد من رجال الحزب ونقابات العمال، وكان يتردد علي في أوقات منتظمة فتيان وفتيات من لجنة الشبان التي أتبعها ومعهم في كل زيارة بعض الهدايا الصغيرة، وكنت لا أزال في المستشفى لما حان عيد ميلادي الثامن عشر، فأقبل علي أعضاء الجمعية التعاونية وأصدقاؤها مجتمعين، وأظهروا لي من المودة ما أثلج صدري.
Página desconocida