وكان يتجه بحديثه إلى أبيه، ولكني كنت أحس أن ألفاظه موجهة إلي، فيقشعر لها بدني كما كان يقشعر لصوت القس في وقت الصلاة .
وختم أبي حديثه بأن قال وهو يحدق بعينيه في وجهي: «أما أبنائي فإنا نعمل لسعادتهم وسعادة جميع الأطفال في هذه البلاد ونسفك دماءنا لنحقق لهم هذه السعادة.»
وفكر جدي طويلا ثم قال: «ليس فيما تقوله شيء تلام عليه، ولكن فيه كثيرا مما يحيرني، لقد ظللت طول حياتي أخدم القيصر، كما كان يخدمه أبي وجدي من قبلي، ولكنك يا أندراي تختلف عني وعنهم، إنك تنظر إلى الأمور بغير العين التي ننظر نحن بها إليها، وكأنك تنظر إليها من تحتها، فليسامحك الله يا ولدي إن كنت مخطئا، أما وأنت تعتقد مخلصا في عدالة قضيتك فلتعمل بما يمليه عليك إيمانك، وسأبذل أنا كل ما أوتيت من جهد لأعول أبناءك ما دمت حيا.»
وظلت ألفاظ أبي زمنا طويلا تتردد أصداؤها في عقلي قبل أن أستغرق في نومي تلك الليلة.
وخرجنا في صباح اليوم الثاني في مظاهرة وطنية، اصطفت فيها الجماهير وصدحت الموسيقى، وخرج القساوسة في ملابسهم الفضفاضة يباركون الشعب، وأخذ الباعة الجائلون يبيعون المثلجات والشراب المحلى والفطائر المحشوة باللحوم؛ ولكن أبي ما لبث أن أمسك بيدي وقادني إلى دكة في بستان، جلسنا عليها نأكل المثلجات ونتجاذب أطراف الحديث.
وقال لي: «ها نحن أولاء يا ولدي نلتقي مرة أخرى، فهل تذكر يوم جئت أنت وأمك وقنسطنطين إلى السجن، فأشرت إليكم بيدي من برج الموت؟»
وأخذ يحدثني عن الحياة في السجن، وخيل إلي من وصفه إياها أنها حياة عظيمة فيها العذاب، ولكن الألفة والزمالة والتضحية في سبيل المبدأ العظيم تبدله وتخرج به عن طبيعته. «وأريد منك يا بني أن تذكر هذه الأشياء وألا تنساها ما حييت، لا تنس قط حقيقة أمرك، وكن على الدوام مخلصا صادق الدفاع عن الحرية؛ ذلك أن الحياة بلا حرية هي الفناء بعينه، ومهما يكن من أمري فإن عليك أن تواصل الدرس والعمل والكفاح بكل ما تستطيع من وسائل في سبيل المثل الأعلى، فإما أن نكون خنازير نضع أنوفنا في الوحل، وإما أن نكون آدميين نرفع رءوسنا إلى السماء، فإذا كنا آدميين فليس في مقدورنا أن نكون عبيدا أذلاء، وإذا سقطت أنا ورفاقي في ميدان الجهاد فسيحل محلنا فيه أبناؤنا من بعدنا.»
وسافر في تلك الليلة نفسها إلى إيكترنوسلاف بعد أن أهدى إلي بعض الهدايا، ووعدني أن أقضي عيد الميلاد في بيتنا.
وخيل إلي في الأشهر التي أعقبت هذا اللقاء أن الأيام تمضي على مهل، فقد كنت شديد الرغبة في أن أرى أبوي وأخوي، وكتبت إلي والدتي رسائل تفيض بهجة وانشراحا، ومما قالته فيها أنها لم تكن في هذه الأيام تواصل العمل في خياطة الملابس للناس بعد أن عاد أبي إلى العمل، وأنها تقضى وقتها في الكتابة، وأن أحوالنا كلها سارة ممتعة تنسيني أيامنا الماضية، وأن بيتنا قد تبدل حتى لا أكاد أعرفه.
وزادت عواطفنا اهتياجا كلما قرب موعد العطلة والزيارة المرتقبة، وأخذت جدتي تكد في عمل المربيات والفطائر، وذبح الخنزير الكبير الذي كان يسمن لهذا الغرض خاصة، وشغل كل من في الدار أسابيع عدة في سلق اللحم، وتدخين الأفخاذ، وفرم اللحم والخضر وخلطها بالأفاويه وحشوها في الأمعاء، ثم أقبل اليوم العظيم وكدس آل كرافتشنكو ومعهم حقائب ملابسهم وسائر أمتعتهم في عربة أقلتهم إلى محطة السكة الحديدية، وركبت القطار أنا وعمتي شورا، وأخذ من بقي من أفراد الأسرة يلوحون إلينا بأيديهم وهم على الإفريز، وقد غلبتهم عواطفهم فانحدرت الدموع من أعينهم كأننا نغادر البلاد إلى أمريكا.
Página desconocida