177

Preferí la libertad

آثرت الحرية

Géneros

إنه لا يصدق ما أنتم زاعموه من حكايات خلقتها أوهامكم إلا الأجانب الذين خلصت نواياهم، وإلا الشباب الذين لم يعيشوا في الماضي ليذكروه، إن الوقائع المادية لا تساوي - فيما أرى - الحقائق السياسية والروحية، لكنكم في دعايتكم لا تذكرون إلا ما أديتموه في عالم المادة؛ ولذلك فأنا أقيس أعمالكم بمقياسكم أنتم للأمور.» - «لو كان كل شيء في الماضي جميلا يا أبت، فلماذا رحبت بالسجن وعملت على إثارة الثورة؟» - «لا تتكلم كلاما فارغا من المعنى! إنك تعلم أني لا آسف على شيء، وأني أعيد كل ما عملته لو عادت الأمور من جديد، لقد جاهدنا لنمحو الشرور، وخاطرنا بأرواحنا في سبيل إزالة الطغيان السياسي والظلم الاقتصادي، وليس معنى ذلك أننا مستعدون أن نفخر بالشرور نفسها إذا ما تغيرت أسماؤها، إن تبرير ألوان العسف القائمة اليوم بيننا على أساس ما كان في ماضينا من شرور لمن قبيل التهريج الشعبي الرخيص.» - «لكن كل شيء اليوم ملك للشعب، وليس بيننا الآن رأسماليون ولا مستغلون.»

وكنت أزداد حرجا في صدري كلما أخذنا في الحديث، وعلة ذلك على وجه الدقة هي أنني كنت من صميم قلبي أوافق أبي على كثير مما قال. - «لا تتظاهر بالغفلة يا فيتيا، إن العامل الذي لا يجد ما يكفيه من قوت، على الرغم من أنه يشتغل هو وبعض أفراد أسرته في كثير من الأحيان، لا يعنيه في كثير من ذا يستغل جهده، أهو مالك من الأفراد أم هي الدولة، إنه إذا ما سيق إلى السجن فلن يجد العزاء في كونه يساق إلى السجن باسم الشعب الذي هو فرد منه، فمهما يكن من أمر الرأسماليين، فقد كان في مقدوري إذا ما قصر الرأسمالي في أجري أو في تهيئة ظروف طيبة يسير فيها العمل أن أغير عملي، وكذلك كان في مقدوري عندئذ أن أبث ما شئت من دعاية في زملائي العمال، وأن أدعوهم لاجتماعات كيما نعلن احتجاجنا، وأن أدبر الإضراب وأنضم إلى ما شئت من أحزاب سياسية وأنشر ما أعارض به الحكومة، أما اليوم فافعل شيئا من هذا تجد أن قد انتهى بك الأمر إلى معسكر للاعتقال أو ما هو شر منه، صدقني إن زعمت لك أن مجال الحياة كان أوسع نطاقا حينما كان لدينا مائة ألف من أصحاب رءوس الأموال الذين يستخدمون الأيدي العاملة، منه اليوم حين يقوم على أمورنا مخدوم واحد هو الدولة، لماذا؟ لأن الدولة لها جيش وشرطة سرية وسلطان لا تحده الحدود، لقد لبثت طول عمري أكافح الرأسمالية، وما زلت عدوا لها، لكن ذلك لا يعني أن أهلل مكبرا للاشتراكية التي تقوم على رجال الشرطة.»

لم أنبس بكلمة وما وسعني سوى أن أعبس بوجهي. «كان في مقدورنا على الأقل أن ندير في رءوسنا من الخواطر ما نشتهي، فقد كان هنالك أحزاب سياسية كثيرة وشيع وآراء منوعة، وإني لأرى الحكم المطلق الذي كان فيما مضى قائما على الرغم من كل غلظته؛ أراه أكثر سماحة بالقياس إلى ما أشاهده اليوم، نعم كانت الشرطة القيصرية تضرب المضربين، بل كانت أحيانا ترميهم بالرصاص، وكثيرا ما قتلت أو طوحت إلى النفي بالثائرين، لكن ذلك كله كان يتم على نطاق أضيق مما تتم عليه نظائر هذه الأشياء اليوم، فقد كنا نعد المسجونين السياسيين بالألوف وأما اليوم فنعدهم بالملايين، وكان إذا ما وقع بأحد شيء من الإجحاف قابله الناس بالاحتجاج والمظاهرات والاجتماعات الحافلة، أما اليوم فليس في وسعنا إلا صمت القبور.

خذ ما يسمى نقابات العمال، ما هذه النقابات إن لم تكن أداة جديدة تفرض بها الحكومة أوامرها فرضا، وتستنزف منا ما وسعها أن تستنزفه من مجهود في العمل؟ لقد شهدنا يوما كانت فيه منظمات العمال هيئات تعبر حقيقة عن آراء العمال، فكانت بذلك مدرسة سياسية تعلمنا في رحابها كيف نطالب بحقوقنا ونجاهد في سبيلها، أما اليوم فمن ذا الذي يستطيع أن يرفع صوته باحتجاج كائنا ما كان؟ إن الصحافة التي تتخذ أسلوب المتحدث بلسان الرأي العام، هي اليوم ملك للحزب وملك للدولة، فليست تعكس على صحائفها إلا آراءهم هم.

وشيء آخر يا بني، إنك تعلم أني ما آمنت قط بالدين، لكنني كنت دائما أقدر ما للناس من حق في عبادة الله إن شاءوا، فكم بقي من هذا الحق الآن؟ إذا شاءت لك المصادفة أن تكون ممن يختلفون إلى الكنيسة، فماذا تستبقي لنفسك من احتمال بقائك في منصبك ومضيك في سيرتك العملية؟ إن ذلك يصبح ضربا من المستحيل!

لقد كان للناس حق الرحلة خارج البلاد حتى في أسود عهود أسرة «رومانوف»، أما اليوم فقد أغلقت دوننا الأبواب، وكل من يحاول عبور الحدود يرمى بالرصاص كأنه كلب من الكلاب، لا، بل لا يقتصر العقاب على من يحاولون ذلك، إنما يعدوهم إلى أفراد أسرهم كذلك، أتريد أن تغادر البلاد؟ هيهات! إنكم ها هنا تربطون العمال إلى آلاتهم والفلاحين إلى أراضيهم كأنما هم عبيد.» - «لماذا تحدثني بضمير المخاطب كأن هذه الأشياء كلها مما صنعت يداي؟!» - «عفوا يا فيتيا، لكنك لا تستطيع أن تتنصل من قسطك في التبعة باعتبارك شيوعيا.» - «هل تراني عضوا في القسم السياسي أم تراني رجلا من رجال الهيئة العليا الحاكمة؟

إنك يا أبي واقعي في كل شيء إلا هذا الأمر؛ لأنك فيما يبدو لي لا تستطيع إدراك الحقيقة الواقعة، وهي أن الشيوعيين المسئولين أنفسهم - ودع عنك سوادهم - هم من ضعف الحيلة بما يصيب سائر أفراد الشعب، بل قد يكونون أضعف من هؤلاء سلطانا.» - «لست أريد الإجحاف بأحد يا فيتيا فأنا أعلم جيدا كيف يعجز أي فرد كائنا من كان عن تنفيذ شيء إلا في حدود ضئيلة، أنا لا أريدك أن تصيح: «الغوث! أمسكوا القاتل!» لكني على الأقل أحب أن أشعر أن تنشئتي لك لم تكن فشلا ذريعا، وأنك على الأقل عالم بحقائق الأمور.» - «نعم إني عالم بها، بل أكثر علما بها مما تظن، فكن مطمئنا من هذه الناحية، لكنني لا أزال أتلمس للأمل بصيصا، إني أوثر ألا أنظر إلى الأشياء نظرة سوداء، فمثلا أحب ألا أنظر نظرة سوداء إلى الدستور الجديد، فقد نظفر بمزيد من الحرية على كل حال ...» - «وددت لو استطعت مشاطرتك هذا الإيمان، ولكن ما قيمة كلمات على ورق ما دامت الشرطة السرية قائمة تدير الأمور على هواها، وما دامت البلاد لا ترى إلا حزبا واحدا بصحافته وبربه الأعلى - ستالين - وبمحاكمه، وما دام كل رأى مخالف يعد إجراما؟ إني من الكهولة بحيث لم تعد تخدعني الأوهام في حياتي، لو كنت أرى أقل علامة تدل على زوال شيء من الإرهاب القائم، تدل على انبثاق فجر الحرية الصحيحة، لكنت أول من يكبر لها مهللا في فرح صادق، ولكني لم أر بعد علامة تدل على شيء من هذا، إنني يا فيتيا كلما قرأت عبارات زهوكم أو قرأت دستوركم الجديد، لم يسعني سوى أن أذكر هذين البيتين من شعر فولتير:

إنك لن تجد أجمل يدا من هذه ولا أرحم،

هذه اليد التي تسبغ على الناس فقاقيع الصابون.

لا تحسبني مستسهلا هذا الحديث الذي أفضيت به إليك، إنه ليشقيني أن أرى ولدي بين طائفة المستغلين الجديدة، حتى وإن لم يكن هو بمقترف الخطأ، وربما جاء يوم نزداد فيه تفاهما.»

Página desconocida