كان في مقدوري أن أقدم طلبا بالتعيين إلى «أورزنكدز» مباشرة، بوصفه الرجل الذي لا يعلوه إنسان في عالم الصناعة السوفيتية، لكني آثرت ألا أستغل صداقته، فأسلموني إلى «رياسة صناعة التعدين» وهي المكلفة بصناعة أنابيب الصلب وغيرها من مصنوعات الصلب للبلاد بأسرها، وكان رئيسي بها «يعقوب إيفانتشنكو» الذي كان حينا مديرا لمصنع «بتروفسكي- لينين» فعرفني معرفة جيدة، وتقرر في اجتماع انعقد في مكتبه في «خاركوف» أن أعين في مصنع معدني جديد ينشأ في «نيقوبول» فرض له أن يبدأ العمل في أبريل.
ولم أكن قد نسيت ما كنت شهدته في «نيقوبول» - حين ذهبت إليها مفتشا من قبل الحزب - من قذارة واضطراب ومرارة، وكانت الذكرى وحدها كفيلة أن تشيع الهم في نفسي، ولم أكد أصدق أن المصنع سيبدأ إنتاجه بعد قليل، رغم كل ما هنالك من إسراف وما يلاقيه الناس من عذاب، فقد كانت «نيقوبول» في رأيي مثالا لحركة التحول الصناعي في البلاد كلها، فهي مسرفة فيما تهلكه من حياة ومن مواد، وحشية في طرائقها التي خلت من كل حذق ومهارة، ومع ذلك فهي تتقدم لسبب لا أدريه.
وقفت أمي و«إلينا» تودعاني وتلوحان لي من رصيف الميناء حتى اختفت عنهما السفينة التي أقلتني إلى «نيقوبول» إذ دارت حول الحنية التي في نهر دنيبر، وأحسست حينئذ إحساسا عميقا أن صفحة جديدة من حياتي قد بدأت، فقد بلغت من العمر إذ ذاك تسعة وعشرين عاما، وهي سن متقدمة بالنسبة إلى مستقبل رجل سيشتغل بأعمال الهندسة، لكن كان يعوض ذلك أني بدأت الشوط من نقطة قريبة من النهاية؛ ذلك أني بدأت رئيسا من الرؤساء المشرفين على مشروع هندسي عظيم، وهكذا أصبحت بين عشية وضحاها رجلا من «الصفوة» الممتازة في المجتمع السوفيتي، إذ أصبحت فردا من عدد يقرب من المليون من الموظفين ومديري الصناعة ورؤساء الشرطة الذين كانوا يكونون بمجموعتهم الطبقة الأرستقراطية الجديدة في الروسيا. «نيقوبول» مدينة قديمة على نهر دنيبر، تفوح في هوائها رائحة النهر وتحيط بها غابات يانعة وحقول فسيحة من القمح، وهي في إقليم يعرف عنه العالم كله أنه من أخصب مصادر المانجنيز الذي هو معدن لا غنى عنه في صناعة الصلب، وعلى مقربة منها بعض مناجم الحديد الهامة مما جعلها مركزا طبيعيا لصناعة التعدين، وكانت الشوارع والمنازل في «نيقوبول» تحرك في قلبي حنينا نحو أعوام الطفولة التي قضيتها مع جدي «فيودور بانتليفتش» في مدينة «إسكندروفسك» التي باتت الآن تعرف باسم «زبرزهي».
لكن المصنع نفسه كان - لسوء الحظ - بعيدا عن المدينة، إذ كان قائما في مكان قفر موحش، وكانت الكثرة الغالبة من عماله الخمسة الآلاف لا تزال متزاحمة في ثكنات حقيرة، نعم كانت ثكنات العمال إذ ذاك خيرا مما رأيته فصعقت له إبان زيارتي الأولى، لكنها مع ذلك كانت لا تزال أصلح لسكنى الحيوان منها لإقامة الآدميين، وكان غمار العمال يتناولون وجباتهم في مقصف ضخم نتن الرائحة لم تراع فيه أصول الصحة، ثم كان لرؤساء العمال والمهندسين مطعم أنظف من ذلك المقصف وأملأ منه بألوان الطعام، ثم مطعم ثالث حديث الطراز أعد لنفر قليل من كبار الموظفين الذين كانوا يتزودون - فضلا عما ينعمون به في المطعم - بوفرة من الطعام في منازلهم يستمدونها من محصول ما ينبت في أرض المصنع، فهكذا جرى التقليد في الروسيا أن يكون بين الطبقات هذه الفوارق البعيدة، بحيث لم يدرك غرابة وجودها في بلد «تحكمه طبقات الشعب» إلا الأجانب.
أما عن نفسي فقد أسكنوني في منزل فسيح ذي غرف خمس يبعد عن المصنع نحو ميل، وكان أحد ثمانية منازل على طراز واحد أعدت للطبقة العليا من الموظفين، وكان منزلي ذاك محوطا بأشجار عالية وله حديقة أزهار ممتعة أحسنت العناية بها كما كانت له حديقة خلفية للفاكهة، وكان في المنزل حوض للاستحمام ومذياع، بل كان به كذلك ثلاجة كبيرة، وكان لي سيارة في حظيرتها، وجوادان من طراز ممتاز، كل هذه بالطبع ملك للمصنع، لكنها تكون تحت تصرفي وحدي ما دمت في منصبي كما لو كانت ملكي الخاص، وكان لي بالإضافة إلى دار السكنى سائق لسيارتي وسائس لجوادي وفلاحة فيها خشونة الريف تهيئ لي الدار وتطهى الطعام، وكنت أدفع أجر الخادمة، أما السائق والسائس فأجرهما من حساب المصنع.
وكان راتبي يتراوح بين 1500 و1800 روبل في الشهر الواحد، ولو أنه كثيرا ما كان يبلغ الألفين أو يزيد بعد إضافة العلاوات، وتستطيع أن تفهم معنى هذه الأرقام في الظروف القائمة في الروسيا إذا عرفت أن رؤساء العمال ومهرة الصناع الذين كانوا تحت إدارتي لم يكد يزيد راتب أحد منهم على أربعمائة روبل، وأن غير الفنيين من العمال رجالا ونساء لم يزد أجر الواحد منهم على قدر يتراوح بين 120 و175، وهكذا ترى أن صفوف الشعب التي تدار جماعة السوفيت باسمهم، لم ينعموا طبعا بشيء مما كنت أنا أنعم به، وقد ينعم به معي عشرة آخرون من رجال المصنع جميعا.
ضاعفت في العمل جهدي ولم أرخ العنان قط لنفسي، بحيث كنت أعد اليوم الذي ألبث فيه داخل المصنع اثنتي عشرة ساعة يوم عطلة، بل مرت أيام كنت أواصل خلالها عملي في وظيفتي ثمانيا وأربعين بل اثنتين وسبعين ساعة، لا أذوق فيها النوم إلا ساعات قليلة أخطفها خطفا فأستلقي على أريكة في مكتبي، ومع ذلك الجهد كله فقد كنت إذا ما خلوت إلى نفسي في داري الجميلة بما فيها من خادمتي «باشا» القوية البنية الحمراء الوجه، إذ هي تعد لي في المطبخ أكلة طيبة، ومن البستاني الذي أعدته لي الدولة إذ هو يروي حديقتي، ومن ثلاجة مليئة بالخضر الطازجة والشمام والكفيار والقشدة المحمضة، كنت إذا ما خلوت إلى نفسي في داري بما فيها من كل هذه الأشياء؛ أشعر بتأنيب الضمير.
فقد كنت أفكر في العمال الذين يسكنون الثكنات، وأفكر في أبنائهم وفي حياتهم المظلمة، كيف أنحو إليهم بلائمة إذا ما فعلوا ما توهمت أنهم لا بد فاعلوه نحوي من مقاومة بل من مقت، باعتباري سيدا من بين سادتهم الجدد؟ كيف لي أن أفهمهم أن هذا الذي يرونه من فارق بين شقائهم ونعيمي لم يكن من صنع يدي، وأنني كنت بدوري ترسا لا حول له ولا قوة في عجلة ضخمة، وأن رغدي منحة وهبتني إياها الدولة وتستطيع الدولة أن تحرمني إياها متى شاءت لغير سبب وبغير إنذار؟
لقد أردت في إخلاص أن أصل ما بيني وبين العمال بصلات من الود والصراحة، فقد كنت أفهم ما هم عليه، وكانت حاجاتهم وآلامهم قريبة من قلبي، لكن مهندسا في مثل منزلتي لو خالط صفوف العمال، فإنه بذلك إنما يجرح كبرياءهم؛ لأن مثل هذه المخالطة فيها معنى الإشراف، هذا فضلا عن أن الهيئة الرسمية لن ترضى عن مثل هذا الإخاء بيني وبينهم باعتباره عاملا يفسد النظام، فنحن من الوجهة النظرية نمثل «سلطة العمال»، أما من الوجهة العملية فنحن طبقة غير طبقاتهم، فبين دنيا الكلام ودنيا العمل هوة سحيقة.
كان الرفيق «براتشكو» الذي كلف بناء المصنع هو نفسه الذي أسندت إليه الآن إدارته، ولقد رقق مر الأيام من خشونة أخلاقه وجعل منه زميلا أمتع بكثير مما كان، ولم يكن يعلوني في الإدارة الفنية إلا «براتشكو» هذا، وكبير المهندسين «فشنيف»، أما من الناحية السياسية فيما يختص بالإشراف على المصنع، فقد كان من بيدهما الأمر «ألكسي كوزلوف» رئيس اللجنة الحزبية المشرفة على المصانع، والرفيق «ستاروستين» رئيس نقابة العمال.
Página desconocida