وقطعت الخبز بأسنانها، وألقت بعملها إلى جانبها، وأجلستني في حجرها.
وقالت لي: «إنك ولد طيب ماهر، ولا شك عندي في أنك ستفهم ما أقول، إن لم يكن الآن ففي المستقبل حين تكبر، فاستمع إلي! ليس من السهل أن تطعم كل هذه الأفواه مهما طال عملي بالليل، هذا إلى أن أباك ترسل إليه أشياء من حين إلى حين.
وسيكون الأمر أسهل قليلا يا فيتيا حين تذهب للإقامة مع جدك فيودور بنتليفتش في مدينة ألكسندروفسك، فهو وجدتك الأخرى وعمتك شورا يحبونك حبا جما، وستذهب من عندهم إلى المدرسة، ونذهب نحن كثيرا لزيارتك، وستأتي إلينا غدا عمتك شورا لتأخذك معها، والآن اذهب إلى فراشك.»
وأبعدتني عن حجرها بغلظة، ولكني عرفت وقتئذ أنها تبكي.
وكانت ألكسندروفسك - التي سموها زبرزهي بعد الثورة - بلدة نظيفة هادئة من بلاد الريف، تجري الحياة فيها مطمئنة، وكأنها ستجري مطمئنة أبد الدهر، بين نهر الدنيبر المتسع الصافي الماء والغابات الكثيفة القريبة منها، وكانت حياة هذه البلدة لا تزال وثيقة الصلة بالتربة الأوكرانية وإن أقيمت فيها بضعة مصانع من الآجر والقرميد، وبضعة مصاهر للمعادن، وقليل من الأعمال الصناعية الأخرى في بدايتها، وكان في معظم بيوتها حدائق تنتج الخضر للأسواق، وبساتين كثيرة منزرعة، وكانت كل ذراع منها، كالمكان الذي أصبح الآن مركز حياتي الجديدة، تعج بالدجاج والبط والإوز والخنازير.
وبدا هذا المكان في عيني غلام نشط في السادسة من عمره، قضى حياته السابقة في مدينة إيكترنوسلاف الكبيرة، بدا هذا المكان مثيرا لعواطفه طوال إقامته فيه، وكان عطر التوابل يفوح شذاه من حوانيت البذور، وكان أي عطر منها كفيلا بأن ينسيني حنيني إلى مسقط رأسي، وكنت أقضي بعض الوقت أرقب الشرر يتطاير من حوانيت الحدادين، أو أشاهد الرجال والنساء يكدحون حول قمائن الآجر التي ينبعث منها الدخان.
وكان الشارع الرئيسي في البلدة يموج في أيام الأسواق بعربات النقل التي يمتلكها الزراع، وبالرجال يرتدون ملابس ملونة أو جلود الضأن، وبالنساء في أثواب فضفاضة كالتي تلبسها الدمى في بلدنا، وأبناء القرويين الحفاة ينظرون إلينا نحن أبناء الحضر على استحياء، وكانت تقوم على أطراف ألكسندروفسك ضياع الخضر الواسعة التي يمتلكها البلغاريون، ومن وراء هذه الضياع تمتد الأدغال التي ينشر فيها الغجر عربات نقلهم الزاهية المزخرفة، وينصبون فيها خيامهم، ويوقدون فيها نيران معسكراتهم في الليالي الطوال.
ولم يكن أهل ألكسندروفسك من ذوي الثراء الواسع أو الفقر المدقع، وإن يكن فيها أسر قليلة تعيش بالتسول وأسر قليلة أخرى موسرة كأسرة شتشيكتهين التي كانت تقيم في قصر كسي بالقرميد الأحمر، وكان في المدينة داران للخيالة تفخر بهما على كثير من المدن، وكان شيوخ الزراع إذا رأوا الأشباح تقفز على الشاشة لأول مرة يرسمون الصليب على صدورهم ليتقوا أذى هذه الشياطين، وأقبلت على البلدة من كيف أو أودسا في الخمس السنين التي أقمتها فيها فرقة من الممثلين لتقضي فيها أسبوعا تمثل فيه بعض المسرحيات، ولكن أكثر من كنت أشاهدهم فيها هم المشعوذون واللاعبون على الحبال وغيرهم من ذوي الملامح الأجنبية، ومعهم الدببة اللاعبة، وكثيرا ما كان هؤلاء يجتذبون الجماهير إلى البستان.
وكان آل كرافتشنكو يعيشون عيشة بسيطة ولكنها خالية من الضنك من معاش وسط يكمله أجر بيتين من بيوتهم الثلاثة الصغيرة، وكانت هذه الأسرة تتألف من جدي فيودور بنتليفتش وجدتي نتاليا مكسمفنا، ومن شورا التي أنجباها في شيخوختهما، وكانت الأسرة تحصل فوق هذا على قليل من المال في كل شهر نظير ما تمد به الجيران من الماء؛ ذلك أن أولئك الجيران كانوا يلقون من آن إلى آن قطعة من النقود الصغيرة في ثقب صندوق حديدي نظير أخذهم الماء من الفناء الخلفي لمنزلنا.
وكان جدي يحتفظ بمفتاح الصندوق، ولكن عمتي شورا حذقت بطول المران طريقة إخراج النقود الصغيرة منه لتؤدي بها ما لم يحسب حسابه من النفقات، دون أن يعلم بذلك والدها رغم شدته وحرصه، وسرعان ما شاركها في هذا السر ابن أخيها القادم من إيكترنوسلاف، وأحس بما تقترفه عمته من إثم، ولكن إحساسه هذا لم يكن من القوة بحيث يحول بينه وبين قسطه من الغنيمة، وكنت أتقاضى منها ثلاث كوبكات
Página desconocida