فماذا أقول إن لم تكن هناك مؤامرة؟ لم يكن هناك مؤامرة إلا في خيالهم الجامح، إنهم بمثابة من يرى أشباحا، لطالما تمنيت أن يكون هناك ما أعترف به، ولقد تذكرت أخطاء ليست بذات خطر، فاعترفت بها على أنها ضروب من أفعال التخريب، وحبكت لهم حوادث تخريب لم تقع، لكنهم لم يزدادوا إلا ضربا؛ لأن ما نسجت لهم بخيالي من أباطيل كان من السذاجة بحيث لم يستقم أمام عقولهم، وفيم استرسالي معك في هذا الحديث؟ لقد كنت سمعت عن الشرطة السرية وأساليبها لكن أسوأ ما كان يصوره لي الخيال لم يكن إلى جانب الواقع شيئا مذكورا، ليس هؤلاء بشرا، إنما هم نفر من الشياطين، أواه يا ابنتي يولوشكا، إن ما صنعه هؤلاء الناس ...» - «ستبرأ يا أبت مما ألم بك، وسأخرجك من هذا الجحيم، إني أعدك ...» - «لا يا ابنتي فلا أمل هناك ، لقد صارحني الأطباء بحقيقة أمري، فقد تندمل الجراح التي أثخنها التعذيب في جسدي، لكن رقادي في مكان بارد قد أنزل العلة برئتي، والبرء في ظروف كهذه وفي سن مثل سني ليس قريب الاحتمال، ولن تمضي أيام قلائل حتى يدركني الموت، فانسي هذا ما استطعت إلى النسيان سبيلا، وامضي في عملك كأن لم يحدث من ذلك كله شيء، وكوني كريمة في معاملة أمك وزوجك سرجي.» - «مواطنتي، لقد انتهت الخمس الدقائق ولا بد لك من الخروج.»
ومات أبي بعد أيام، وذهبت إلى زوجي في خاركوف.»
استوقفت «إلينا» في قصتها. - «لا عليك يا حبيبتي، لست أريد أن أعرف منك أكثر مما عرفت، فأسفي شديد عليك وخجلي عظيم من نفسي، فسامحيني على ما بدر مني من سلوك أحمق.»
قالت: «لا، لا، فما دمت قد بدأت فلا بد لك أن تسمعني حتى النهاية المرة، أريد لك أن تعلم وأن تقدر الظروف، فما ذاك إلا بداية الأهوال.» ثم استرسلت في قصتها المروعة: «انقضى عام 1931م وانقضى كذلك الشطر الأعظم من 1932م، وكان زوجي حينئذ قد تخرج وعمل في مصنع كبير، وكان في فزع لا ينقضي خشية القبض عليه، شأنه في ذلك شأن غيره من الإخصائيين الفنيين في ذلك الحين، فعلى الرغم من أنه لم يقترف إثما يزجره ضميره عليه، كان يفزعه ذلك الخوف الذي لا ينتهي والذي لا يرتكز على أساس يبرره؛ لأنه رأى بعينيه سائر رفقائه يتخطفهم هذا القضاء واحدا في إثر واحد.
ومع ذلك فلم أكد أصدق النبأ حين أنبئت أن القبض قد ألقي عليه فعلا، لقد كنت أعرف أصدقاءه جميعا، وآراءه جميعا وأفعاله جميعا، فما عرفت فيه إلا براءة لا تشوبها شائبة من عداوة، بل إن فكرة العداوة نفسها لم تدر في رأسه، فعاودت الوقوف في الصفوف الكئيبة من جديد، صفوف الألوف من النساء، عاودت الوقوف في تلك الصفوف لأبعث برسائل الطعام إلى السجين.
وتذرعوا بذريعة سخيفة لطردي من وظيفتي؛ لأن رؤسائي بالطبع لم يريدوا إلى جانبهم زوجة مهندس سجين، فأخذت أبيع كل ما ملكت يدي شيئا فشيئا لأشتري الطعام لنفسي ولزوجي السجين، وأعطيت في الموسيقى دروسا، وعاونني بعض الأصدقاء بشيء من المال على وعد قطعته لهم على نفسي كلما أحسنوا إلي بشيء ألا أبوح لأحد أني رأيتهم أو أنهم عاملوني في شيء من الرحمة؛ ذلك لأني ما دمت زوجة «عدو الدولة» فقد أصبحت على هذا الاعتبار طريدة المجتمع منبوذة من الناس.
ولما قضى «سرجي» بضعة أشهر في سجنه، رفضت رسالة الطعام التي أخذتها له عند بوابة السجن، فخيل إلي أني أرى شريطا سينمائيا مليئا بالفظائع مرة ثانية بعد أن رأيته بعينه فيما مضى، ذهبت إلى نافذة أخرى وطلبت مقابلة الرئيس، فوقفت أنتظر ساعتين أخذت بعدهما إلى مكتب الرفيق «ت» الذي كان فيما سبق عونا من أعوان رئيس الشرطة السياسية في «خاركوف»، وهو رجل طويل وسيم أشقر، يدل جسمه على أنه ينعم بغذاء جيد، وكان السحر يشع منه.
قال إذ صافحني وقدم لي مقعدا في شهامة الرجال: «آه، لقد كنت أتوقع منك زيارة، وما أحب إلى نفسي أن تزورني جميل الغانيات، هذا فضلا عن تقرير واف جاءني عنك من مكتبنا الرئيسي في «كيف»، ويؤسفني أن نتلاقى في مثل هذه ال... ماذا أقول؟ أأقول هذه الظروف الرسمية؟ ومع ذلك فأنا مغتبط لهذه الفرصة السعيدة.»
فأجبته: «هل تعني أنك دبرت الفرصة تدبيرا برفضك قبول رسالة الطعام التي أتيت بها إلى زوجي؟» - «أرفضوا حقا أن يأخذوا منك رسالة الطعام؟ يا لهم من حمقى آثمين! سأنظر في الأمر من فوري.»
وضغط على زر فدخل ضابط أنيق، وأمره أن تؤخذ رسائل الطعام التي آتي بها لزوجي، ثم خرج الضابط. - «صدقيني يا «إلينا بتروفنا» إذا ما قلت: إني آسف لهذا الشتاء الذي تتعاورك أسبابه، ولكني مع ذلك أرى الأمر مرهونا باختيارك، ولعلك تعلمين أن ما عرض عليك في «كيف» منذ عامين لا زال قائما، فنحن رجال الشرطة نفي بوعودنا.»
Página desconocida