قال لي إذ نحن سائران معا: «ما أجمل أن ترى الأطفال في طريقهم إلى العافية! ما أجمل أن ترى طفولتهم تعود إليهم من جديد! إننا نعلم جميعا ما أنت مجازف بنفسك فيه من خطر، ولئن أردت صراحة، فاعلم أن القرية كلها يساورها القلق لهذه الدعوة التي جاءتك من ضابط الشرطة السياسية.»
فابتسمت قائلا: «لا يساورنكم قلق فالآلهة ترعاني، أو هي قد رعتني حتى الآن في أقل تقدير، لكني مغتبط أن أرى الفلاحين على دراية بالموقف، وها قد آن لهم أن يردوا لي صنيعي جميلا بجميل، فيحسنوا إلى أنفسهم إذ يحسنون إلي؛ ذلك أن الحصاد قد دنا موعده، وأريد منكم أن تذيعوا في الناس أنني لا أريد منهم شكورا، إنما أريد العمل، أريد العمل النشيط، أريد العمل موصولا في الليل والنهار، إذ قد يكون من الناس من يركن إلى التراخي.
بلغ الناس هذا: يا أعضاء المزرعة الجماعية هل تريدون أن تبقوا للرفيق كرافتشنكو على حياته؟ إذن فاجمعوا الغلة وادرسوها وقدموها وفقا للخطة المرسومة، إنني لا أحسن الشفاعة أرجوها لنفسي، ولكنكم أنتم تحسنون.» - «كن على يقين أني فاعل لك ما تريد، فلك في هذا البلد أعوان، صدقني فيما أنبئك به، إن من يتراخى في أداء واجبه خير له أن يصلى نار الجحيم، فلن نخلي بين أحد منا وبين التراخي.»
ولما ذهبت إلى مكتب السوفيت في اليوم التالي، كان «سومانوف» قد وصل، فقد سمعت جلجلة صوته من بعيد، وكان موظفو الإقليم جميعا وبينهم مدير المخزن حاضرين.
قال رئيس القسم السياسي وكأنما يضع للسامعين قاعدة هي القانون: «إن الرفيق كرافتشنكو ها هنا هو صاحب الأمر، والقانون هو ما يصدره لكم من أوامر، إن الزمن ليمضي سراعا، وليس لدينا مدخر من الجهد ننفقه في الإنصات إلى لغوكم، فهيا إلى العمل وعاونوه، اذهبوا إلى الحقول بأنفسكم، فإن في ذلك خيرا لأبدانكم، وها هو ذا الممثل الرسمي قد أتانا بشخصه!»
حياني تحية المشتاق كأنما قد غبت عنه السنين، وقد أراد بهذه المظاهرة الودية أن يؤثر في أعدائي، وغادرنا معا مكان الاجتماع، وذهبنا إلى مقر إدارة المزرعة الجماعية.
قال: «فكتور أندريفتش، إني سليل أسرة مزارعة، وما يعانيه أهلي يحز فؤادي، ليس هناك إلا الدموع والدماء والموت والنفي، ولماذا؟ إن الأرض خصبة والقوم جادون، فلماذا نراهم يتضورون جوعا ويموتون ويردون موارد الهلاك ثم نغضي؟ إنني كلما ازددت في الأمر تفكيرا ازددت حيرة، سأرسل لك بعد يوم أو يومين مزيدا من الدقيق ومزيدا من أجزاء الآلات الدارسة.
لكن ليس ذلك ما أردت في حقيقة الأمر أن أنبئك به، إنما أردت أن أعبر لك عن عظيم تقديري لما صنعت، وخاصة ما صنعته للأطفال.» قال ذلك ثم وقف في الطريق بغتة وعاد يقول: «فيكتور أندريفتش، كلانا شيوعي، لكننا كذلك إنسانان من البشر، سأدفع عنك الأذى كما أدفع الأذى عن شخصي.»
ومضى بعد ذلك يومان فكان كل شيء على أتم إعداد، وما أن لمعت تباشير الصبح حتى جست بالعربة خلال الحقول، فوجدت أعضاء المزرعة رجالا ونساء، قد سبقوني إليها، يجمعون أعواد الغلال ويحزمونها، وبعد قليل جاءنا موظفو الإقليم يعرضون ما في وسعهم من معونة، فقد فعلت الخطبة - فيما يظهر - فعلها في نفوسهم، ساد الجميع شعور الجد والنشاط، وكما يعرف سائق السيارة أن سيارته ستحسن السير حين يسمع لآلاتها دمدمة يعرفها، فكذلك أنا في ذلك الصباح، استطعت أن أحكم بالبداية التي رأيتها أن كل شيء على ما يرام.
كانت المئونة من زاد وماء قد أرسلت على عربات إلى الحقول في الليلة السابقة، وأقيمت للأطفال الخيام، فهؤلاء الفلاحون يؤثرون لأنفسهم أن يقيموا في الخلاء بعيدا عن دورهم حتى يتم الحصاد، وها هم أولاء يعملون الآن ما اعتادوا في الأيام السوالف أن يفعلوه، وأذنت لهم أن يذبحوا ثورا وعددا من الخنازير، وعلى الرغم من أن بين هؤلاء المئات من الرجال والنساء الذين لم يجدوا في هذا الطعام ما يشبع بطونهم، وعلى الرغم من أنه لم يكن بين هؤلاء المئات إلا عدد قليل لم يدب في أجسادهم الضعف أو لم يهدهم المرض بالفعل، فقد أخذ الجميع في غناء ومزاح وعمل منذ شروق الشمس حتى غروبها.
Página desconocida