إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد
Editorial
مؤسسة الرسالة
Número de edición
الطبعة الثالثة
Año de publicación
١٤٢٣هـ ٢٠٠٢م
Géneros
ـ[إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد]ـ
المؤلف: صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان
الناشر: مؤسسة الرسالة
الطبعة: الطبعة الثالثة، ١٤٢٣هـ ٢٠٠٢م
عدد الأجزاء: ٢
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
_________
الكتاب مرتبط بنسخة مصورة لطبعة أخرى لنفس الناشر (مؤسسة الرسالة)، وننبه أن طبعة نسخة الشاملة أحدث من طبعة النسخة المصورة
Página desconocida
المجلد الأول
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق الخلق ليعبدوه، وأسبغ عليهم نعمه ليشكروه.
والصلاة والسلام على نبينا محمد، دعا إلى توحيد الله وصبر على الأذى في سبيل ذلك حتى استقرت عقيدة التّوحيد، واندحر الشرك وأهله.
وعلى آله وأصحابه الذين اقتفوا أثره وساروا على نهجه، وجاهدوا في الله حق جهاد.
أما بعد:
فإن التّوحيد هو الأصل في بني آدم، والشرك طارئ ودخيل، كما قال ابن عباس ﵄: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على التّوحيد".
وأول ما حدث الشرك في الأرض في قوم نوح لما غلوا في الصالحين، وصوروا صورهم، فآل بهم الأمر إلى أن عبدوهم من دون الله، فبعث الله نبيه نوحًا ﵊ ينهى عن الشرك ويأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، وجاء الرسل من بعده كلهم على هذا النمط، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُو نِ﴾ (٢٥) .
وأما الشرك في قوم موسى فحدث عندما اتخذوا العجل، وكان موقف كليم الله موسى وأخيه هارون ﵉ معهم ما قصه الله في كتابه.
وأما الشرك في النصارى فحدث بعد رفع المسيح ﵇ إلى السماء، على يد اليهودي (بولس)، الذي أظهر الإيمان بالمسيح مكرًا وخداعًا، فأدخل في دين النصارى التثليث وعبادة الصليب، وكثيرًا من الوثنيات.
وأما الشرك في بني إسماعيل ﵇ وهم العرب فحدث على يد عمرو بن لحي
1 / 5
الخزاعي، الذي غير دين إبراهيم ﵇ وجلب الأصنام إلى أرض الحجاز، وأمر بعبادتها.
وأما الشرك في بعض المسلمين فحدث على يد الشيعة الفاطميين بعد المائة الرابعة، حينما بنوا المشاهد على القبور، وأحدثوا بدعة الموالد في الإسلام، والغلو في الصالحين.
وكذلك عندما حدث التصوف المنحرف المتمثل بالغلو في المشايخ وأصحاب الطرق.
ولكن الله سبحانه قد تكفل بحفظ هذا الدين بعد رسول الله ﷺ على يد العلماء المصلحين والدعاة المجددين، الذين يبعثهم الله على رأس كل مائة سنة، كما في الحديث، فبقي للحق أنصاره وللدين حماته، كما قال النبي ﷺ: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله ﵎ وهم على ذلك".
ولهذا يقول الإمام أحمد بن حنبل ﵀ في مقدمة كتابه: الرد على الجهمية: "الحمد لله الذي جعل في وقت كل فترة من الرسل بقايا من أهل العلم؛ ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ويدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، فكم من ضال قد هدوه، وكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم".
ومن هؤلاء الذين وصفهم الإمام أحمد بهذه الأوصاف العظيمة؟ شيخ الإسلام الإمام المجدد الشيخ: محمد بن عبد الوهاب ﵀، فقد وقف موقفًا عظيمًا، من مواقف هؤلاء الأئمة في مواجهة التغيرات التي حدثت في مجتمعه؛ من انحراف في العقيدة، وانقسام في الحكم، واستشراء للعادات الجاهلية في الحاضرة والبادية، شرك في العبادة، ومخالفات للشرع في الحكم بين الناس، ورواج لسوق الشعوذة والسحر، وتعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ رغم كثرة وجود العلماء فيهم؛ المتبحرين في مسائل الفقه الفرعية، لكن العبرة ليست بوجود العلماء ووفرتهم دون أن يكون لهم أثر فعال في الإصلاح،
فبنوا إسرائيل هلكوا وفيهم العلماء، فما لم يقم علماؤهم بما أوجب الله عليهم من النصح والإصلاح تسلط عليهم الشيطان. قال- تعالى-: ﴿وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبئْسَ مَا
1 / 6
كَانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ (٦٣) .
إنه لما وقف هذا الإمام من مجتمعه المنحرف موقف الصدق والنصيحة؛ خلص هذا المجتمع مما وقع فيه من أسباب هلاكه، مع أنه رجل واحد، ولكن كما قيل:
والناس ألف منهموا كواحد ... وواحد كالألف إن أمر عنى
وهكذا سنة الله لا تتغير، فالأمة لا تنهض من كبوتها ولا تستيقظ من رقدتها إلاّ بتوفيق الله ثم بجهود علمائها المخلصين ودعاتها الناصحين، ورحم الله الإمام مالكًا حيث يقول: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلاَّ ما أصلح أولها".
وما امتازت هذه الأمة على غيرها من الأمم إلا بقيامها بالإصلاح والدعوة إلى الله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (١٠٤) .
* الشيخ محمد بن عبد الوهاب و(كتاب التّوحيد):
هو الإمام العلامة، والمجاهد الصابر، والداعي إلى الله على بصيرة، والمجدد لدين الله في القرن الثاني عشر من هجرة المصطفى ﷺ؛ الشيخ: محمد بن عبد الوهاب بن سليمان المُشَرَّفي التميمي النجدي.
ولد في العيينة سنة ١١١٥هـ، ونشأ في بيت علم ورئاسة وشرف، فأبوه عبد الوهاب كان فقيهًا قاضيًا، وجده سليمان كان مفتي بلاد نجد ورئيس علمائها، وأعمامه وأبناء أعمامه كانوا أهل رفعة وعلم ومكانة، كانت بلدته العيينة وما جاورها من بلاد نجد تعج بالعلماء، الذين كانوا على صِلَة وثيقة بعلماء الحنابلة في الشام وفلسطين وغيرها فكان فيهم فقهاء متبحرون في الفقه. حفظ الشيخ محمد القرآن صغيرًا، وقرأ الفقه والتفسير والحديث على أبيه وعلماء بلده، حتى ألم بما عندهم في وقت يسير، مع التروي والمناقشة والتدقيق، حتى أعجب به والده ومشايخه وزملاؤه.
ثم تطلع إلى المزيد من العلم فأقبل على كتاب الله، وتفسيره قراءة وتدبرًا
1 / 7
واستنباطًا، وعلى سنة الرسول ﷺ وسيرته، واستنتج منهما الاستنتاجات العجيبة، وقد دوَّن هذه الاستنباطات المفيدة في كتبه ورسائله وفتاويه، وعكف على كتب الشيخين: شيخ الإسلام ابن تيمية. والشيخ الإمام ابن القيم، خصوصًا كتب العقيدة.
ثم علت به همته وطموحاته فسافر إلى علماء الحرمين وعلماء الأحساء وعلماء البصرة في العراق، والتقى بهم، وأخذ عنهم علمًا غزيرًا في الفقه والحديث وعلومه، حتى تضلع بالعلم، وأخذه عن كل من تمكن من الالتقاء به من علماء عصره، ومطالعة كتب من تقدمهم من الأئمة المحققين، ودراسة التفسير والحديث دراسة فاحصة مدققة.
وعندما نظر إلى واقع أهل عصره وجد البون شاسعًا بين هذا الواقع وبين ما دل عليه الكتاب والسنة، وما كان عليه أئمة السلف الصالح في الاعتقاد والمنهج.
فالعلماء في وقته في الغالب مشغولون بدراسة الفقه وعقائد علماء الكلام المخالفة لاعتقاد السلف، دون تمييز بين الصحيح والسقيم.
والعامة منهمكون في البدع والخرافات والشركيات ودعاء الأموات، دون أن يهب أحد من العلماء-فيما نعلم- لإصلاح هذا الواقع الأليم، والمرتع الوخيم.
عند ذلك لم يسع الشيخ محمدًا رحمه السكوت عن التغيير والإنكار، والدعوة إلى الإصلاح، والعودة إلى كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وتصفية العقيدة الإسلامية مما علق بها، وغير وجهها وبهجتها، وعكَّر صفوها ونظرتها.
فعزم على القيام بالدعوة إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وباشر الدعوة في بلدة- حريملاء- التي استقر بها والده، ثم طورد منها ثم ذهب إلى العيينة ولم يستقر فيها فذهب إلى الدرعية فوجد فيها القبول والترحيب على يد أميرها: محمد بن سعود ﵀ ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْر ًا﴾ (٣)
فواصل الشيخ ﵀ عمله في الدعوة إلى الله، وراسل علماء البلدان وأمراءها يدعوهم إلى الله، ويبين لهم ما هم واقعون فيه من مخالفات، وألف الكتب، وأجاب عن استشكالات من التبس عليهم الحق بالباطل؛ فاستجاب لدعوة الشيخ من كان رائده الحق، وعاند من كان دافعه التعصب للباطل، فلم ير الشيخ ﵀ بدًا من جهاد هؤلاء بالحجة واللسان من قبله وبالسيف والسنان من قبل ولاة الأمر من آل سعود أثابهم الله.
1 / 8
فكتب الله له النصر، ولدعوته الامتداد والانتشار؛ نتيجة لجهاد الإمامين: محمد بن عبد الوهاب، ومحمد بن سعود- هذا بالحجة واللسان، وهذا بالسيف والسنان، وهكذا إذا اجتمع كتاب الله وسيف الجهاد انتصر الحق واندحر الباطل، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (٢٥) .
ولقد صدق الشاعر حيث يقول:
وما هو إلاَّ الوحي أو حد مرهف ... تزيل ضباه أخدعي كل مائل
فهذا شفاء للقلوب من العمى ... وهذا شفاء العي من كل جاهل
وما هي إلا فترة وجيزة حتى دانت العباد والبلاد لدعوة الحق، واستقامت فيها عقيدة التّوحيد، وامتد خيرها عبر الزمان والمكان إلى البلاد البعيدة والأجيال اللاحقة، فلا يزال صداها يتردد، وخيرها يتجدد.
وكان من أعظم ثمارها: قيام دولة التّوحيد، وتحكيم الشريعة الغراء، التي توالت- ولا تزال- ولله الحمد على هذه البلاد مهما عارضها من معوقات واعترض في طريقها من عقبات: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ﴾ .
لقد لقي الشيخ ﵀ كغيره من الدعاة المصلحين معارضات من خصومه واتهامات باطلة.
فقيل عنه: إنه يريد الملك والسيطرة والتسلط.
وهذا قيل في حق الرسل عليهم الصلاة والسلام: إن هو إلاَّ رجل ﴿يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ﴾، ﴿وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ﴾ فكيف بأتباعهم؟
وقيل: إنه جاء بمذهب خامس، ولذلك صاروا يلقبون أتباعه بـ (الوهابية) لأنه دعا إلى ما يخالف ما ألفوه من البدع والشركيات.
وهذه فرية يكذبها واقع دعوته وكتبه وفتاويه، وأنه في الاعتقاد على عقيدة السلف، وفي الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، لم ينفرد عن المذاهب الأربعة بقول واحد، فكيف يكون له مذهب خاص؟ ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ .
ومن أراد معرفة الشبهات التي أثيرت حوله وحول دعوته فليراجع كتبة، وما
1 / 9
أجاب به عن تلك الشبه، والحق واضح ولله الحمد وضوح الشمس لا يغطيه الكذب والتلبيس فلا يعتمد على كلام خصومه فيه وفي دعوته.
ومنهم من أنكر ما قام به الشيخ من تجديد وإصلاح، وقال: إن حالة أهل نجد في وقته كانت على الاستقامة والصلاح، وفيهم علماء ووعي، وما ذُكر عن دعوة الشيخ وعن فساد الأحوال قبل دعوته إنما هو تهويل من المؤرخين، وتعتيم على الواقع.
ورد مثل هذا الهراء والجحود لما هو معلوم ومتواتر، لا يحتاج إلى كثير عناء.
وكتب خصومه من معاصريه وغيرهم تعج بالافتراءات والدعوة إلى الباطل. وما أظن هذه الفكرة إلا من إيحاء المستشرقين.
وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
ومنهم من يقول: إن الشيخ لا يعتبر مجددًا لأنه حنبلي مقلد.
وكأن هذا القائل يرى أن العالم لا يكون مجددًا حتى يخرج على المذاهب الأربعة وعن أقوال الفقهاء، ومثل هذا لا يعرف معنى التجديد، فهو يهرف بما لا يعرف.
إن التجديد معناه: إزالة ومحاربة ما علق بالدين من خرافات وشركيات ومبتدعات ما أنزل الله بها من سلطان، وبيان الدين الحق والمعتقد السليم. كما كان عليه رسول الله ﷺ، وليس من شرط ذلك أن يخرج المجدد على المذاهب الأربعة وأقوال الفقهاء ويأتي بفقه جديد.
وها هم الأئمة من المحدثين الكبار كانوا مذهبيين، فشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم كانا حنبليين، والإمام النووي وابن حجر كانا شافعيين، والإمام الطحاوي كان حنفيًا، والإمام ابن عبد البرّ كان مالكيًا.
ليس التمذهب بأحد المذاهب الأربعة ضلالًا حتى يعاب به صاحبه، ولا نقصًا في العلم. بل إن الذي يخرج عن أقوال الفقهاء المعتبرين وهو غير مؤهل للاجتهاد المطلق هو الذي يعتبر ضالًا وشاذًا.
والشيخ ﵀ لا يأخذ قول المذهب الذي ينتسب إليه قضية مسلمة حتى يعرضه على الدليل، فما وافق الدليل أخذ به، ولو لم يكن في المذهب الذي يقلّده إذا وافق قول أحد الأئمة الآخرين، لأن هدفه موافقة الدليل، وهذا في حد ذاته يعتبر تجديدًا في الفقه- أيضًا- بخلاف التقليد الأعمى والتعصب الممقوت.
1 / 10
وأما (كتاب التّوحيد الذي هو حق الله على العبيد) فهو من أعظم مؤلفات الإمام المجدد الشيخ: محمد بن عبد الوهاب.
ألَّفه في بيان توحيد الألوهية، وهو إفراد الله بالعبادة وترك عبادة ما سواه، والبراءة من ذلك، وبيان ما يناقضه من الشرك الأكبر، أو ينقص كماله الواجب أو المستحب من الشرك الأصغر.
وخص الشيخ هذا النوع من التّوحيد لأنه هو الذي يدخل في الإسلام، ويُنجي من عذاب الله، وهو التّوحيد الذي بعثت به الرسل وأُنزلت به الكتب، وخالف فيه المشركون في كل زمان ومكان.
وأما توحيد الربوبية فقد أقر به المشركون، ولم يدخلهم في الإسلام، ولم يحرم دماءهم وأموالهم. ولا ينجيهم من النار، وإنما هو دليل وبرهان لتوحيد الألوهية.
وإن كان علماء الكلام قد أتعبوا أنفسهم في تحقيق هذا النوع، وبنوا عليه مؤلفاتهم في العقائد، وهو تحصيل حاصل، وسعي بلا طائل، وليس هو التّوحيد الذي جاءت به الرسل، وإنما التّوحيد الذي جاءت به الرسل ودعت إليه هو توحيد الألوهية. كما قال- تعالى-: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ ولذلك جعل الشيخ موضوع هذا الكتاب الذي نحن بصدد شرحه في توحيد الألوهية، وقسمه إلى أبواب، وأورد في كل باب ما يشهد له من الآيات والأحاديث، فهو مبني على الكتاب والسنة: قال الله، قال رسوله، كما قال الشاعر:
العلم قال الله قال رسوله ... قال الصحابة ليس خلف فيه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة ... بين النصوص وبين رأي فقيه
ولم يورد الشيخ ﵀ في هذا الكتاب إلاَّ ما صح من الأحاديث، أو كان حسن الإسناد، أو هو ضعيف الإسناد وله شواهد تقوّيه. أوهو داخل تحت أصل عام يشهد له الكتاب والسنة، مما ترجم له الشيخ في أبواب الكتاب.
ثم إن الشيخ ﵀ يذكر في آخر كل باب ما يستفاد من الآيات والأحاديث التي أوردها فيه من مسائل العقيدة؛ مما يعتبر فقهًا لنصوص الباب، بحيث يخرج القارئ بحصيلة علمية جيدة من كل باب.
إن هذا الكتاب مبني على الكتاب والسنة، ولم يبنَ على قواعد المنطق
1 / 11
ومصطلحات المتكلمين التي خطؤها أكثر من صوابها؛ إن كان فيها صواب. فالقرآن الكريم كله في التّوحيد، لأنه إما أمر بعبادة الله وترك عبادة ما سواه. وإما بيان لجزاء الموحدين، وعقاب المشركين في الآخرة. وإما بيان لنصر الله للموحدين وعقوبته للمشركين في الدنيا. وإما أمر بالطاعة ونهي عن المعصية وذلك من حقوق التّوحيد ومكملاته. وإما أمر بموالاة الموحدين والبراءة من المشركين. وذلك من لوازم التّوحيد. وإما خبر عن الله وأسمائه وصفاته. وذلك مما يوجب محبته والخوف منه ورجاء ما عنده-فالقرآن الكريم- كما يقول العلامة ابن القيم كله توحيد.
* شروح الكتاب:
لقد نفع الله بهذا الكتاب، وصار الطلاب يحفظونه، والعلماء يشرحونه ويوضحونه.
وأول من شرحه حفيد المؤلف، الشيخ: سليمان بن عبد الله، بشرح واف، لكنه توفي ﵀، قبل أن يتمه. واسم شرحه: تيسير العزيز الحميد.
فجاء حفيد الشيخ الآخر، الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، فهذب هذا الشرح، وأتمه. واسم شرحه: فتح المجيد.
ثم اختصر هذا الشرح بعدة مختصرات:
منها: مختصر الشيخ: حمد بن عتيق واسم مختصره: إبطال التنديد.
ومختصر الشيخ: عبد الرحمن بن قاسم في حاشيته
ومختصر الشيخ: سليمان بن حمدان. وله شروح أخرى قديمة وحديثة.
وهناك كتابات حوله لباحثين جامعيين.
نسأل الله أن يكتب الاستمرار لنفع هذا الكتاب في الأجيال اللاحقة، كما انتفعت به الأجيال السابقة.
* قصتي مع هذا الكتاب:
درّست هذا الكتاب في الرياض وفي الطائف أثناء الإجازة الصيفية، وكان بعض الطلاب يسجلون تلك الدروس، وتشاركهم إحدى دور التسجيل، وعندما أنهيت الكتاب- والحمد لله-، وانتشرت تسجيلاته كثرت عليَّ الطلبات في تفريغها من الأشرطة وطباعتها على شكل شرح للكتاب، وكنت أرفض هذه الطلبات وأعتذر
1 / 12
بأن الكتاب- ولله الحمد- قد شرح بشروح كثيرة وكافية، وما جئت بجديد، إلاَّ أنها لما كثرت عليَّ الطلبات في ذلك، قلت: لعل في تحقيق رغبة أصحابها خيرًا: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾، فأذنت بتفريغ الأشرطة، وكتابة ما فيها، وأشرفت على ذلك، وهذبته ونقحته حسب استطاعتي، وها هو بين يديك أيها القارئ، فما وجدت فيه من خير فهو من الله، وما وجدت فيه من نقص أو خطأ فهو بسبب تقصيري وقصوري، وأنت تفعل خيرًا إذا نبهتني وأعنتني على إصلاحه.
وأسأل الله لي ولمن كان سببًا في إخراج هذا الكتاب التوفيق للعلم النافع والعمل الصالح.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
المؤلف
1 / 13
مقدمة الشارح
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فإن عقيدة التّوحيد هي أساس الدين، وكل الأوامر والنواهي والعبادات والطاعات كلها مؤسسة على عقيدة التّوحيد، التي هي معنى شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمدًا رسول الله، الشهادتان اللتان هما الركن الأول من أركان الإسلام؛ فلا يصح عملٌ، ولا تقبل عبادةٌ ولا ينجو أحد من النار ويدخل الجنة؛ إلاَّ إذا أتى بهذا التّوحيد، وصحّح العقيدة.
ولهذا كان اهتمام العلماء- ﵏ في هذا الجانب اهتمامًا عظيمًا؛ لأنه هو الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، كما يأتي شرحه- إن شاء الله، ثم بعد ما تصح العقيدة فإنه حينئذٍ يُطلب من الإنسان أن يأتي ببقية الأعمال.
ولهذا سيأتي في الحديث: أن النبي ﷺ لما بعث معاذًا إلى اليمن، قال له: "إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة" أإلى آخر الحديث.
الشاهد منه: "فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلاَّ الله".
وقال ﷺ: " أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلاَّ الله؛ فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله ﷿".
فدلّ هذا على أن عقيدة التّوحيد هي الأساس الذي يجب العناية به أولًا وقبل
1 / 15
كل شيء، ثم بعدما يتحقق فإنه يتوجه إلى بقية أمور الدين، وأمور العبادات.
ولهذا- كما ذكرنا- كان اهتمام العلماء- ﵏ بهذا الجانب اهتمامًا عظيمًا، ألَّفوا فيه كتبًا كثيرة، مختصرة ومطوّلة، سموها: (كتب التّوحيد)، أو (كتب العقيدة) أو (كتب السنة) .
ومن هذه الكتب هذا الكتاب الذي بين أيدينا، وهو:
(كتاب التّوحيد الذي هو حق الله على العبيد)
تأليف شيخ الإسلام المجدد في القرن الثاني عشر من الهجرة النبوية. الشيخ: محمد بن عبد الوهاب ﵀.
وهذا الكتاب من أنفس الكتب المؤلَّفة في باب التّوحيد؛ لأنه مبني على الكتاب والسنة، بحيث إنه ﵀، يورد في كل باب من أبوابه آيات من القرآن وأحاديث من السنة الصحيحة السند أو المعنى، وكلام أهل العلم الأئمة؛ الذين بَيَّنوا معاني هذه الآيات وهذه الأحاديث، فعل هذا في كل باب من أبواب الكتاب.
فلم يكن هذا الكتاب قولًا لفلان أو فلان، أو أنه كلام من عند المؤلف، وإنما هو كلام الله وكلام رسول الله، وكلام أئمة هذه الأمة من الصحابة والتابعين وغيرهم من الأئمة المقتدى بهم.
فتأتي أهمية هذا الكتاب من هذه الناحية؛ انه مبني على الكتاب والسنة من الآيات والأحاديث، فلا يقال: إن هذا كلام فلان، أو كلام ابن عبد الوهاب، بل يقال: هذا كلام الله وكلام رسول الله، وكلام أئمة الإسلام.
وهكذا ينبغي أن يكون التأليف.
1 / 16
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ﵀:
بسم الله الرحمن الرحيم
[الباب الأول:] * كتاب التّوحيد
ــ
قال ﵀: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ بدأ كتابه بـ " ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ "؛ اقتداء بالنبي ﷺ، حيث كان يكتب " ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ " في أول رسائله إلى الناس، وكان يبدأ- ﵊ أحاديثه مع أصحابه بـ " ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ".
وقال ﷺ: "كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم؛ فهو أبتر" أي: ناقص البركة. وفي رواية: "بالحمد لله".
وكما كتبها سليمان ﵇ فيما ذكر الله عنه لمّا كتب إلى بلقيس ملكة سبأ، وقرأت الكتاب على قومها: ﴿قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ .
فالبداءة بـ " ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ " في الأمور المهمّة في المؤلَّفات، والخطب، والمحاضرات، والأكل والشرب، وجميع الأمور التي هي من الأمور المهمة؟ تُبدأ بـ" ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ " تبركًا بهذه الكلمة العظيمة، وافتتاحًا للأمور بها.
ومن هنا نعلم أن هؤلاء الذين لا يكتبون " ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ " في أول مؤلفاتهم في هذا العصر؛ أنهم قد خالفوا السنة، واقتدوا بالغربيين، وإلاَّ فإن المشروع في حق المسلم أن يبدأ بهذه الكلمة في أموره؛ في مؤلفاته، في خطبه، في محاضراته، في رسائله، إلاَّ أن هذه الكلمة لا تُكتب أمام الشعر الذي فيه هجاء أو فيه ذَم، ولا تُكتب أمام الكلام الذي فيه سِباب أو شتم أو كلام قبيح، تُنزّه هذه الكلمة، لا تُكتب أمام الشعر، وأعني: الشعر غير المحترم، أما الشعر النزيه الطيب فلا بأس، كذلك لا تُكتب أمام الهجاء، وأمام السب والشتم، وإنما تكتب أمام الكلام النزيه، ولهذا جاءت هذه الكلمة العظيمة في مبدأ كل سورة من سور القرآن
1 / 17
العظيم، سوى براءة والأنفال فإنها لم تأتِ بينهما؛ وقد أجاب أهل العلم عن ذلك، والله أعلم أنهما سورة واحدة، لأنهما في موضوع القتال، فهما في موضوع واحد وكأنهما سورة واحدة، أما في بقية السور فإنها تأتي في أول ومطلع كل سورة.
ومعناها- كما قرر أهل العلم-: " ﴿بِسْمِ اللهِ﴾ " الجار والمجرور متعلق بمحذوف يجب أن يكون مؤخَّرًا، تقديره: أستعين، بـ " ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ "، أو أبتدئ بـ " ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ " كتابي ومؤلَّفي، أو ابتدئ كلامي بـ " ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ "، فالجار والمجرور متعلق بمحذوف مؤخر.
و" ﴿اللهِ﴾ الله" عَلَمٌ على الذات المقدّسة، وهو لا يُسمّى به غير الرّب ﷾، لا أحد تسمّى بهذا الاسم أبدًا، حتى الجبابرة، حتى الطواغيت والكفرة، ما أحد منهم سمّى نفسه " ﴿اللهِ﴾ " أبدًا، فرعون قال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ ما قال: أنا الله، مع كفره لم يجرؤ أن يسمّي نفسه هذا الاسم" ﴿اللهِ﴾ "، وإنما هذا خاص بالله ﷾.
و"الله" معناه: ذو الألوهية، والألوهية معناها: العبادة، يقال: أَلَهَ يألَهُ: بمعنى: عبَد يعبُد، فالألوهية معناها: العبادة، فـ" ﴿اللهِ﴾ معناه: ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، كما جاء في الأثر عن ابن عباس ﵁.
و" ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ " اسمان لله ﷿ يتضمنان الرحمة، والرحمة صِفة لله ﷿، وكل اسم لله فإنه يتضمن صِفة من صفاته ﷾.
و" ﴿الرَّحْمَنِ﴾ ": رحمة عامة لجميع المخلوقات.
و" ﴿الرَّحِيمِ﴾ ": رحمة خاصة بالمؤمنين، كما قال- تعالى-: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ .
فـ " ﴿الرَّحْمَنِ﴾ ": رحمة عامة لجميع المخلوقات، حتى الكفار والبهائم والدواب إنما تعيش برحمة الله، وسخّر الله بعضها لبعض من رحمته ﷾، فهي رحمة عامة لجميع الخلق، بها يتراحمون، حتى إن البهيمة ترفع رجلها عن ولدها رحمة به.
وأما " ﴿الرَّحِيمِ﴾ " فإنه رحمة خاصة بالمؤمنين ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ .
والرحمة: صِفة من صفات الله ﷿ تليق بجلاله- سبحانه- ليست كرحمة
1 / 18
المخلوق، وإنما هي كسائر صفاته ﷾، نصِفه بها كما وصف بها نفسَه، ولكن لا نشبّه رحمته -سبحانه- برحمة خلقه.
ثم قال بعد ذلك: "كتاب التّوحيد".
قد يسأل سائل فيقول: لماذا لم يبدأ كتابه بالحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي ﷺ؟
الجواب: أنه اكتفى ﵀ بـ" ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ "؛ فإنها كافية في الثناء على الله ﷾، وكافية بالابتداء.
هذا جواب.
والجواب الثاني كما ذكر الشارح العلامة الشيخ: عبد الرحمن بن حسن ﵀ يقول: "عندي نسخة بخط المؤلِّف فيها أنه بدأ هذا الكتاب بقوله: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد) .
فإذًا؛ يكون في هذه النسخة جمع بين الفضيلتين؛ البداءة بـ" ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ "، والبداءة بـ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، وهذا أكمل بلا شك، ثم قال: "كتاب التّوحيد".
"كتاب": مصدر كَتَبَ، والكَتْب في اللغة معناه: الجمعُ، سُمّيَ الكتاب كتابًا لأنه جمع الكلمات والنصوص، ففيه معنى الجمع، ولذلك سُمّي كتابًا، ومنه "الكتيبة" من الجيش، لأنها تجمع أفرادًا من الجنود، ومنه سُمَي الخرّاز كاتبًا؛ لأنه يجمع بين الرقاع.
و"التّوحيد" فصدر وَحَّدَ توحيدًا، ومعناه: إفراد الله ﷾ بالعبادة؛ فمن أفرد الله بالعبادة فقد وَحَّده، يعني: أفرده عن غيره، يقال: وَحَّد وَثَنَّى وَثَلّث، وَحَّد معناه: جعل الشيء واحدًا، وثَنّى يعني: جعل الشيء اثنين، وثَلّث: جعل الشيء ثلاثة، إلى آخره.
فـ"التّوحيد" معناه لغةً: إفراد الشي عن غيره.
أما معناه شرعًا: فهو إفراد الله- تعالى- بالعبادة. هذا هو التّوحيد شرعًا.
و"التّوحيد" ثلاثة أنواع- على سبيل التفصيل-:
1 / 19
النوع الأول: توحيد الربوبية، وهو: إفراد الله- تعالى- بالخلق، والرزق، والتدبير، والإحياء، والإماتة، وتدبير الخلائق. هذا توحيد الربوبية، أنه لا خالق، ولا رازق، ولا محيي، ولا ضار، ولا نافع؛ إلا الله ﷾. هذا يُسمّى: توحيد الربوبية، وهو: توحيده بأفعاله ﷾، فلا أحد يخلق مع الله، ولا أحد يرزق مع الله، ولا أحد يحي ويميت مع الله ﷾.
وهذا النوع من أقرّ به وحده لا يكون مسلمًا؛ لأنه قد أقرّ به الكفار، كما ذكر الله - جل وعلا- في القرآن في آيات كثيرة: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ﴾ " ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُون َ﴾ (٣١) " ﴿أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ﴾، إلى غير ذلك من الآيات التي أخبر الله أن المشركين يقرّون بأن الله هو الخالق، والرازق، والمحيي، والمميت، ومع هذا لا يكونون مسلمين، لماذا؟ لأنهم لم يأتوا بالنوع الثاني، الذي هو مدار المطلوب.
النوع الثاني: توحيد الألوهية، ومعناه: إفراد الله- تعالى- بالعبادة، هذا غير إفراده بالخلق والرزق والتدبير، بل إفراد الله بالعبادة؛ بأن لا يُعبَد إلا الله ﷾ لا يُصَلّى، ولا يُدعى، ولا يُذبَح، ولا يُنذَر، ولا يُحَج، ولا يُعتَمر، ولا يُتصَدق، ولا ... إلى آخره؛ إلا لله ﷾، يبتغى بذلك وجه الله ﷾.
وهذا هو الذي وقعت الخصومة فيه بين الرسل والأمم.
أما الأول فما وقعت فيه خصومة، لأن الأمم مقِرّة بأن الله هو الخالق الرازق، المحيي المميت، المدبر، ولم يُنكِر توحيد الربوبية إلاَّ شُذّاذ من الخلق، أنكروه في الظاهر، ولكنهم مستيقنون به في الباطن، من ذلك: فرعون، وإن كان جحد وجود الرّب ﷾، وقال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ فهذا في الظاهر، وإلاَّ فهو يقر في قرارة نفسه أنه ليس برب، وأنه لا يخلق، ولا يرزق، وإنما في قرارة نفسه يعترف بأن الله هو الخالق الرازق، كذلك الشيوعية في عصرنا الحاضر جحودها للرّب، هذا في الظاهر، وإلا كل عاقل يعلم أن هذا الكون ما وُجِدَ من دون خالق، ومن دون مدبِّر، ومن دون موجد، أبدًا، كل عاقل يعترف بتوحيد الربوبية.
1 / 20
أما توحيد الألوهية والعبادة، فهذا قَلّ من الخلق من أقرّ به، ما أقرّ به إلاَّ المؤمنون أتباع الرسل- عليهم الصلاة والسلام، هم الذين أقرّوا به، أما عموم الكفار فإنهم ينكرون توحيد الألوهية، بمعنى: أنهم لا يفردون الله بالعبادة، حتى وإن أقرّوا بالنوع الأول وهو: توحيد الربوبية وإن عبدوا الله ببعض أنواع العبادة.
ولهذا لما قال لهم النبي ﷺ: "قولوا: لا إله إلاَّ الله تفلحوا" قالوا: ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (٦) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩)﴾، فهم أبوا أن يقولوا ﴿لا إله إلاَّ الله﴾ مع أنهم يعترفون بتوحيد الربوبية، لكن أبوا أن يعترفوا بتوحيد الألوهية، الذي هو إفراد الله بالعبادة، هم يقولون: نحن نعبد الله ونعبد معه غيره من الشفعاء والوسطاء، الذين يقربونهم -بزعمهم- إلى الله زُلفى، اتخذوهم وسائط- بزعمهم، وأبوا أن يفردوا الله- جل وعلا- بالعبادة ﴿وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ﴾ هذا في قوم نوح، والوتيرة واحدة من أول الكفار إلى آخرهم ﴿وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ .
وكذلك عُبَّاد القبور اليوم، يقولون: لا تذرُن الحسن والحسين، والبدوي وغيرهم هؤلاء لهم فضل، ولهم مكانة؛ اذبحوا لهم، وانذروا لهم، وطوفوا بقبورهم، وتبرَّكوا بهم، لا تذروهم، لا تطيعوا هؤلاء الجفاة الذين يدعون إلى ترك عبادة القبور، ولا يعرفون حق الأولياء. الوتيرة واحدة مثل قوم نوح: ﴿لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ .
الحاصل: أن النوع الثاني هو توحيد الألوهية، وهو: إفراد الله- تعالى- بالعبادة، وترك عبادة من سواه، وهذا هو الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به لكتب، كما تقرأون في هذه الآيات التي سمعتم وكما في قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ ما قال: إلاَّ ليقروا بأني أنا الرّب، لأن هذا موجود ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ ما قال: أن أقروا، بأن الله هو الخالق الرازق؛ لأن هذا موجود، وهو وحده لا يكفي.
1 / 21
وهذا النوع- توحيد الألوهية- جحده المشركون، وهم أكثر أهل الأرض في قديم الزمان وحديثه، أبوا أن يتركوا آلهتهم، وأن يفردوا العبادة لله ﷿، ويخلصوا الدين لله ﷿؛ زاعمين أن هذه الوسائط وهؤلاء الشفعاء يشفعون لهم عند الله، وأنهم يقرِّبونهم إلى الله، وأنهم ... وأنهم.. إلى آخره ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾ .
النوع الثالث: توحيد الأسماء والصفات، بمعنى: أننا نثبت لله ﷾ ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسول الله ﷺ من الأسماء والصفات، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، على حد قوله- تعالى-: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ .
فنثبت لله الأسماء كما قال- تعالى-: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ .
وكذلك الصفات، نصِف الله ﷿ بما وصف به نفسه؛ أنه عليم، وأنه رحيم، وأنه سميع بصير، يسمع ويُبصر ﷾، ويعلم، ويرحم، ويغضب، ويُعطي ويمنع، ويخفض ويرفع. وهذه صفات الأفعال.
وصفات الذات كذلك؛ أن له وجهًا- سبحانه، وأن له يدين، وأن له ﷾ الصفات الكاملة، نثبت لله ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله من صفات الذات ومن صفات الأفعال، ولا نتدخل بعقولنا وآرائنا وأفكارنا، ونقول: هذه الصفات أو هذه الأسماء موجودة في البشر، فإذا أثبتناها شبهنا- كما يقوله المعطِّلة، بل نقول: إن لله ﷾ أسماءً وصفات تليق بجلاله ﷾، وللمخلوقين أسماء وصفات تليق بهم، والاشتراك في الاسم، أو الاشتراك في المعنى؛ لا يقتضي الاشتراك في الحقيقة. خذ- مثلًا-: الجنة، فيها أعناب وفيها نخيل- كما ذكر الله، وفيها رمان، وفيها أسماء موجودة عندنا في الدنيا، لكن ليس ما في الجنة مثل ما في الدنيا، أبدًا، ليس النخيل التي في الجنة مثل النخيل التي في الدنيا، الرمان ليس مثل الرمان الذي في الدنيا، وإن اشترك في الاسم والمعنى، كذلك أسماء الله وصفاته وإن اشتركت مع أسماء المخلوقين وصفاتهم باللفظ والمعنى، فالحقيقة والكيفية مختلفة، لا يعلمها
1 / 22
إلا الله ﷾، فلا تشابه إذًا في الخارج والواقع أبدًا، لأن الخالق - سبحانه- لا يشبهه شيء ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ ولا يلزم من إثبات الأسماء والصفات التشبيه- كما يقول المعطِّلة والمؤوِّلة، وإنما هذا من قصور أفهامهم، أو ضلالهم، ورغبتهم عن الحق، وإلاَّ كلٍّ يعلم الفرق بين المخلوق والخالق- ﷾، كما أن المخلوقات نفسها فيها فوارق، فليس- مثلًا- الفيل مثل الهرة والبعوضة أبدًا، وان اشتركت في بعض الصفات، البعوضة لها سمع- مثلًا، والفرس له سمع، البعوضة لها بصر، والفيل والفرس لهما بصر، هل يقتضي هذا أن تكون البعوضة مثل الفيل أو مثل الفرس؟ لا، وإن اشتركت في الأسماء فلا تشترك في الحقائق والمعاني.
إذا كان هذا الفارق بين المخلوقات، فكيف بين الخالق ﷾ والمخلوقين؟
نحن نُقِرُ لله ﷾ بما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، الله- تعالى- قال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ نفى المثلية وأثبت السمع والبصر؛ فدل على أن إثبات السمع والبصر وغيرهما من الصفات لا يقتضي المثلية ﴿فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤)﴾ .
الله ﷾ لا يشبهه أحد من خلقه.
هذه أنواع التّوحيد الثلاثة:
توحيد الربوبية: وهذا في الغالب لم ينكره أحد من الخلق.
توحيد الألوهية: وهذا أنكره أكثر الخلق، ولم يثبته إلاَّ أتباع الرسل- عليهم الصلاة والسلام- كما قال- تعالى-: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦)﴾ وقال تعالى: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦)﴾ .
ما أثبت توحيد الألوهية إلاَّ أتباع الرسل- عليهم الصلاة والسلام- وهم المؤمنون من كل أمة، هم الذين أثبتوا توحيد الألوهية، وأبى عن الإقرار به المشركون في كل زمان ومكان.
1 / 23
وقول الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ الآية.
ــ
والثالث: أثبته أهل السنة والجماعة، فأثبتوا لله الأسماء والصفات، وحرّفها وأوَّلها الجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة، ومشتقاتهم من سائر الطوائف التي سارت في ركابهم؛ فهؤلاء منهم من نفاها كلها، منهم من نفى بعضها وأثبت بعضها، المهم أن نعرف مذهب أهل السنة والجماعة في هذا.
وتقسيم التّوحيد إلى هذه الأنواع الثلاثة مأخوذ من الكتاب والسنة وليس تقسيمًا مبتدعًا كما يقوله الجهال والضلال اليوم ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (٨)﴾ وليس مصدر هذا التقسيم علم الكلام وقواعد المتكلمين التي هي مصدر عقائد هؤلاء المخذولين الذين يتكلمون بما لا يعرفون، بل هذا التقسيم مأخوذ بالاستقراء من الكتاب والسنة. فالآيات التي تتحدث عن أفعال الله وأسمائه وصفاته فهي في توحيد الربوبية. والآيات التي تتحدث عن عبادة الله، وترك ما سواه؛ فهي في توحيد الألوهية.
قوله: "وقول الله" بالكسر معطوف على "التّوحيد"، وهو مجرور بالإضافة، (وقول الله- تعالى-) معطوف على المجرور، ويجوز الرفع (وقولُ الله- تعالى-) يكون على الابتداء.
" ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ " لاحظوا دِقّة الشيخ ﵀، قال: "كتاب التّوحيد. وقول الله- تعالى- ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ " ليُبَيّن لكم ما هو معنى التّوحيد؟، بأن التّوحيد معناه: إفراد الله بالعبادة، وليس معناه: الإقرار بالربوبية، بل معناه: إفراد الله بالعبادة، بدليل هذه الآية وغيرها.
يقول الله- جل وعلا-: " ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ " يُبَيِّن الله ﷾ الحِكمة من خلقه للجن وخلقه للإنس.
أما ﴿الْجِنَّ﴾ فهم عالم من عالم الغيب، نؤمن بهم، ولكننا لا نراهم، ولذلك سُمُّوا بـ ﴿الْجِنَّ﴾ من الاجتنان وهو الاستتار، ويقال: جَنَّه الليل إذا سَتَرَه، ويقال: الجنين في البطن، لماذا سُمِّي جنينًا؟، لأنه مستتر، فـ ﴿الْجِنَّ﴾، سُمُّوا جنًا لأنهم مستترون عن أبصارنا لا نراهم ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ﴾ فهم من عالم
1 / 24