فالهجوم على امرأة أمر مخز على نحو لا يصدق. عندما أطلقوا النار على مرشدها وأردوه قتيلا، حسبوا أنها ستعود أدراجها على صهوة جوادها، وتسلك طريق الهبوط من الجبل وصولا إلى الحانة. لكن جوادها أصابه الذعر من صوت الرصاص، وتعثر بين الصخور، فسقطت عن صهوته، وأصيبت بجرح في ساقها؛ ومن ثم لم يكن ثمة خيار أمامهم سوى حملها معهم إلى القبيلة عبر الحدود الفاصلة بين كرنا جورا (التي تعني «الصخرة السوداء» أو مونتينيجرو) ومنطقة مالتسيا إي ماد.
سألت ظنا منها أن السرقة هي الدافع: «ولكن، لم سرقتم مرشدي ولم تسرقوني؟» فكرت كم بدا الرجل وحصانه يتضوران جوعا، وسرحت بأفكارها في الخرق البيضاء المتطايرة من عصابة رأسه.
قال القس الفرنسيسكاني مذهولا: «أوه، إنهم ليسوا لصوصا! إنهم رجال شرفاء. لقد أطلقوا النار عليه لأن بينهم وبينه ثأرا، بينهم وبين عائلته. هذا هو قانونهم.»
قال لها إن الرجل الذي أصيب بطلق ناري - ويعني مرشدها - قتل رجلا من قبيلة «كولا» هذه. ولقد قتله مرشدك؛ لأن رجلا من هذه القبيلة قتل رجلا من قبيلة مرشدك. هكذا يدورون في حلقة مفرغة، وهكذا كان الوضع لفترة طويلة، كان هناك دوما المزيد من الأبناء الذين يأتون إلى الحياة. إنهم يعتقدون أن لديهم من الأبناء ما يتجاوز أبناء غيرهم في شتى أنحاء العالم، وكثرتهم تفي بهذا الغرض وتسد هذه الحاجة الماسة.
اختتم القس الفرنسيسكاني كلامه قائلا: «حسن، إنها لجريمة بشعة! لكنها ارتكبت صونا لشرفهم، وشرف عائلتهم. إنهم دوما على استعداد للموت من أجل شرفهم.»
قالت لو كان مرشدها قد فر إلى كرنا جورا، فلم يكن ذلك ليوحي بأنه كان على أهبة الاستعداد.
سألها القس الفرنسيسكاني: «لكن ذلك لم يحدث أي فارق، أليس كذلك؟ حتى لو كان قد فر إلى أمريكا، فلم يكن ذلك ليحدث فارقا.» •••
في مدينة تيريستي ركبت سفينة بخارية لتبحر بطول ساحل دالماتيا. كانت برفقة صديقيها السيد كوزينز وزوجته اللذين التقت بهما في إيطاليا، وصديقهما الدكتور لام الذي انضم إليهما من إنجلترا، ورست بهم السفينة في ميناء بار الصغير الذي يسميه الطليان أنتيفاري، وباتوا ليلتهم في الفندق الأوروبي. بعد العشاء، جالوا في الشرفة، كانت السيدة كوزينز تهاب البرد، فعادوا إلى الداخل ولعبوا لعبة الورق. كان الجو ممطرا ليلا؛ استيقظت وأنصتت لصوت قطرات المياه، وشعرت بإحباط شديد أثار عندها إحساسا بالاشمئزاز تجاه هؤلاء الأشخاص الذين ينتمون للعصور الوسطى، وخاصة السيد لام الذي تعتقد أن آل كوزينز دعواه للمجيء من إنجلترا لتلتقي به. لعلهما ظنا أنها ثرية! ربما حسباها وريثة لثروة طائلة تجوب الأطلسي بلكنتها الغريبة التي يستطيعان بالكاد أن يتغاضيا عنها . هؤلاء الناس يأكلون بشراهة، ثم يضطرون إلى تعاطي أقراص طبية. وكان القلق يساورهم من الوجود في أماكن غريبة. لم جاءوا إذن؟ في الصباح، سيتعين عليها العودة بصحبتهم إلى السفينة وإلا أحدثوا جلبة. لم يكونوا ليسلكوا الطريق الجبلي أبدا إلى سيتيني - عاصمة مونتينيجرو - فقد قيل لهم إنه ليس من الحكمة سلوك ذاك الطريق. هي لن ترى أبدا برج الأجراس الذي كانت رءوس الأتراك تتدلى منه، أو شجرة الدلب التي اجتمع الناس حولها ليستمعوا لأمير الشعراء. لم تستطع أن تخلد إلى النوم مجددا، فقررت أن تنزل مع أول ضوء للنهار حتى لو استمرت الأمطار في هطولها، وأن تقطع ولو مسافة بسيطة من الطريق لترى فقط الأطلال التي كانت تعرف أنها موجودة هناك بين أشجار الزيتون، والقلعة النمساوية القابعة على صخرتها، والوجه المظلم لجبل لوفتشين.
شجعها الجو على المضي قدما في خططها، وكذلك موظف الاستقبال بالفندق الذي استدعى لها على الفور مرشدا رث الهيئة ولكن بشوش الوجه، مع حصانه الهزيل. وانطلقا، هي على صهوة الحصان، ومرشدها سائر على قدميه. كان الطريق منحدرا ومليئا بالمنحنيات والصخور، والشمس تزداد حرارة، والظل المتقطع باردا ومظلما. شعرت بالجوع يداهمها، وفكرت في ضرورة أن تعود أدراجها قريبا. كانت ستتناول طعام الإفطار مع رفاقها الذين يستيقظون في وقت متأخر.
لا شك أن البحث جار عنها الآن بعد العثور على جثة المرشد. لا بد أن السلطات لديها علم بالواقعة - أيا كانت هذه السلطات - ولا بد أن السفينة البخارية أبحرت في موعدها المحدد، وأن أصدقاءها رحلوا على متنها. لم تحتفظ إدارة الفندق بجوازات سفرهم، ولم يكن أحد في كندا ليفكر في التحقق من الأمر؛ فهي لم تكن تراسل أحدا بانتظام، انقطعت الاتصالات بينها وبين أخيها إثر وفاة والديها. قال لها أخوها ذات مرة إنها لن تعود إلى أرض الوطن إلا بعد أن تنفق إرثها كله، وتساءل عمن سيتعهدها بالرعاية حينئذ.
Página desconocida