أنت الحاكم وأنت الحكم، فأذن لعبدتك أن تمثل لديك لتسمع دفاعها عن نفسها، وثم لك أن تحاكمها كما تشاء وتحكم عليها بما تشاء.
جوزفين
فتأمل الأمير نعيم هذه الرسالة، واستوقفته هذه العبارة: «لتسمع دفاعها عن نفسها.» وقال في نفسه: إن التي قدرت أن تخدعني بضع سنين لا تعجز عن إتقان الدفاع وتمويه الحقيقة علي، ثم طوى الرسالة ووضعها في ظرف عنونه باسم جوزفين ورماه في صندوق البريد.
وكان في اليوم التالي أشد تغيظا من كل الأيام؛ لأن الغيرة «كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله.» فكانت غيرته تتقاوى وتتعاظم حتى صارت لهيبا جهنميا، فقضى ذلك النهار طائفا بين الحانات، ولما عاد عند المساء إلى الفندق كان يتوقع خبرا من جوزفين، فصدق ظنه إذ وجد رسالة منها عرفها من خط عنوانها، فلم يفضها، بل شطب عنوانه الذي عليها وعنونها باسم جوزفين ورماها في صندوق البريد، وهو يحسب أن هذه الطريقة تغيظ جوزفين وتنكيها وتروي غله.
وكانت هذه الرسالة تشتمل على تفصيل حكاية جوزفين وما جرى لها، منذ قبلت دعوة مدام ببيني إلى أن وصلت إلى باريس، فلما عادت الرسالة إليها غير مفضوضة اقتنعت أن الأمير نعيما يرفض أقل صلة بها رفضا باتا، ويئست من الوصول إليه لكي تبسط ظلامتها له، وانزوت في غرفتها تنحب وتطلب الفرج من الله وحده.
أما الأمير نعيم فقضى اليوم التالي كاليوم الغابر بين الحانات، وهو قلق القلب والجسم والضمير، وكان ينتظر أنه متى عاد إلى الفندق في المساء يرى جوزفين عند الباب فتتواقع على قدميه، وجعل يفكر في كيف يتصرف معها متى رآها على هذه الحال، وصمم على أن يخطف قدمه من بين يديها ويمضي تافلا عليها ويختلي في غرفته ولا يفتح لها الباب مهما قرعت، وكان يتطوح في مثل هذه التصورات فينشرح صدره لها.
ولما كان المساء جاء إلى الفندق وشغل نفسه بالكلام الفارغ مع البواب آملا أن تشعر جوزفين بقدومه فتخرج إليه من القاعة التي إلى جنب الباب، فلم يخرج أحد كما انتظر، فسأل البواب: أما أتت سيدة سألت عني اليوم؟ - أتت سيدات كثيرات، فلا أدري إن كانت إحداهن قد سألت عنكم.
فدخل الأمير نعيم إلى الفندق واجتاز في مماشيه إلى أن وصل إلى القاعة الكبرى، وأطل إليها بدعوى أنه يبحث عن صديق، فلم يجد جوزفين بين الجلوس، فتقدم إلى غرفته وفحص بريده رسالة رسالة فلم يجد فيه واحدة من جوزفين، فاشتعل قلبه غيرة فعاد من غرفته وقصد إلى الخدم يسألهم واحدا واحدا: «أما سألت عني سيدة اليوم؟» فكان جواب الكل: «لا».
قضى الأمير نعيم ذلك المساء حائرا متلهبا بنار الغيرة والوجد، وفكر طويلا في الطرق الموافقة لاجتماعه بجوزفين وإحراق قلبها بنار احتقاره، فافتكر أن يقصد إليها في فندق إيطاليا، ولكن عاد ورأى أن هذه الفكرة من أسخف الفكر؛ لأنه إذا كان قد رفض مقابلتها في فندقه، أفيسعى إلى مقابلتها في فندقها؟ فآثر أخيرا أن يطوف الحانات والملاهي في ذلك الليل لعله يعثر عليها اتفاقا، ولكن فأله هذا خاب أيضا؛ لأن جوزفين أبت أن تبرح غرفتها حزينة يائسة، وفي آخر هزيع من الليل عاد إلى غرفته كئيبا حزينا، وما نام ساعتين أو ثلاثا حتى شق الفجر حجاب الظلام، وأيقظته ضوضاء حركة العمران، فنهض من سريره وطلب فطورا وأكل، وبقي ينتظر تارة قدوم جوزفين إليه وأخرى البريد، إلى أن وافى بريد الصباح فلم يجد فيه حرفا منها، فهاج خلقه، ولكنه بقي آملا أن تقدم إليه قبل الظهر، فجعل يلاهي نفسه حتى الساعة الحادية عشرة فخاب فأله.
وكان يفكر في قدومها إليه أول مرة، وفي جوابه لها، فشعر أن الكلام الذي أرسله إليها سم زعاف، ولكنه غالط نفسه في ما قال ولم يعد يذكر صيغة ذلك الكلام، فاستدعى الخادم الذي لقنه إياه واستعاده إياه، فأعاده عليه كما ذكر، فأكل أصابعه ندما على رميها بتلك النبال الصوائب، ثم أسف كل الأسف على رد رسالتها الأخيرة قبل أن يقرأها؛ لشعوره بأنه ظلمها بعدم قراءتها؛ إذ لربما تشتمل على معذرة صادقة لها، أو على ما يحرجه إلى إرسال جواب لها يروي غليله من تقريعها وازدرائها. وأخيرا اشتد وجده واضطرمت غيرته، فصمم على أن يقصد إليها في فندق إيطاليا، فلبس ملابسه وركب مركبة وأمر الحوذي أن يعجل إلى فندق إيطاليا، وبينما المركبة تدرج إذ خطر له أن ينثني عن عزمه، فأمر الحوذي أن ينثني ففعل، ثم عاد فغير فكره فأمر الحوذي أن يعود إلى فندق إيطاليا، فأدار مركبه إلى الطريق المؤدي إليها، وكان وجه الأمير نعيم يتلهب حينذاك وقلبه يخفق، وما كادت المركبة تصل إلى الفندق حتى رأى بعض السيدات والرجال يخرجون ويدخلون من البوابة، فظن أن جوزفين بينهم فأمر الحوذي أن يعود في الحال، فعاد إلى إحدى الحانات، وهناك عدل عدولا تاما عن أن يقصد إلى جوزفين في فندقها، وصمم على أن يتجلد في جفائها ويصبر على هجرها، إلى أن تبيح له التقادير أن يلتقي بها وينال أمنيته من احتقارها وخزيها.
Página desconocida