وخرج سنتورلي وهو يقول في نفسه: ما أجنه! يظن نفسه أنه يطلي علي بهذه البراهين والتعاليل التي يجتهد أن يبرر عمله الشرير بها! حاول أن يقنعني بأن الأمير نعيما لا يساكن جوزفين لأنه يحبها، بل لأنه يأبى أن ينكث عهده معها وأنه يحب بهجت هانم، مع أني أعرف مثله أن الأمير نعيما يعبد جوزفين ولا يطيق بهجت، وإنما يكرمها إكرام الأخ للأخت. وما لي وله؟! أخدمه بأجرتي وقد جمعت ثروة طائلة من جراء خدمي لهذا الشرير، وما دام في يدي سلاح ضده لا أخاف شره، فإن لم يجزني على خدمه بما أريد أعلنت له وصية الأمير صدقي الحقيقية التي تفسد وصيته المزورة.
الفصل التاسع
الحية وحواء والأبالسة
بعد أشهر لهذه الأحاديث التي ذكرت، كانت «دلالة» إيطالية تغتنم فرصة غياب الأمير نعيم عن قصره وتتردد إلى جوزفين لتعرض عليها بعض السلع والحلي وتبيعها منها، وقد استأنست بها جوزفين جدا ومالت إليها، وعرفتها باسم مدام ببيني، وكانت توصيها أن تشتري لها بعض حاجاتها من الأقمشة والحلي ونحوها.
ولهؤلاء الدلالات - البياعات والسمسارات - شأن كبير في مصر بين نساء الأسرات العليا، فإنهن يتاجرن «بالجواهر والأعراض» في وقت واحد، وبدعوى بيع السلع يساومن على الطهارة، فهن لغة التفاهم بين المتعاشقين، وصلة التقارب بين «المتخاونين»، ويندر أن يدخلن بيتا لا يزرعن فيه زرع الدنس.
على أن جوزفين كانت تجهل ذوات هذه الحرفة جهلا تاما، وقد طلت عليها مدام ببيني غايتها، وسبكت لها حيلتها، حتى أوقعتها في الشرك الذي نصبه لها سنتورلي والأمير عاصم على يدها.
ذلك أن جوزفين انخدعت بتودد مدام ببيني وتحببها وبما كان يتراءى لها من إخلاصها وسلامة نيتها، فمالت إليها ميل الصديقة إلى الصديقة، ووثقت بها وثوقها بنفسها ؛ لأن معاملة مدام ببيني لها كانت ترمي إلى هذه الغاية؛ أي إلى فوزها بثقة جوزفين، ولا يتعذر على مدام ببيني التي حنكها الزمان أن تظفر بهذه الأمنية من مخدوعتها، ولا سيما لأن سليم القلب كجوزفين يجوز عليه تمويه الداهية؛ ولذلك لم تكن جوزفين تتكبر وتتشامخ على مدام ببيني شأن مخدرات القصور الحصينات، بل كانت تعاملها معاملة الند للند، ولا تستنكف أن تقف معها وقفة المثل مع المثل، ولا سيما لأن مدام ببيني خلبتها برقة عشرتها، وسطت عليها بعزة مظهرها.
ولما ظفرت مدام ببيني بهذه الثقة العمياء من جوزفين، انتهزت فرصة غياب الأمير نعيم من قصره إلى الإسكندرية كعادتها، وذهبت في الصباح إلى جوزفين ودعتها إلى تناول الشاي عندها في العصر، فرضيت جوزفين شاكرة مسرورة، فقالت مدام ببيني: إذن أرسل حوذيا يعرف منزلي، ولا لزوم اليوم أن تركبي مركبتك. - لا بأس، في أية ساعة؟ - الساعة الخامسة يكون الحوذي أمام باب القصر، ولي الأمل أن يكون يوسف الجميل معك، يا روحي، ما أحبه إلى قلبي!
فابتسمت جوزفين، وقالت: يكون كما ترغبين.
ثم افترقا على هذا الاتفاق.
Página desconocida