أما ما كان من أمر والدي شفيق، فإنهما لما جاءهما كتابه بالسفر في حملة هيكس باشا، اضطرب بالهما، وجعل والده يحسب لهذا السفر ألف حساب، وبعد أن كان ساعيا في سرعة المجيء إلى القاهرة، أوقف السعي؛ إذ لم يعد له فيها وطر. وما زال كذلك حتى دخل صيف سنة 83، فوردت الأخبار بظهور الكوليرا في القطر المصري، فازداد إبطاء في المسير إليها.
أما أخبار هيكس فكانت تصلهم في حينها، فعلموا بوصوله الخرطوم ثم استعداده للمسير إلى فتح الأبيض، وكانت الأخبار إلى ذلك الحين تبشر بفلاحهم. أما بعد مسيرهم في الطريق من الخرطوم إلى الأبيض، فصار الناس في وجل عليهم، وآخر رسالة برقية وردت من هيكس باشا كانت في 17 أكتوبر سنة 1883 يقول فيها:
نحن الآن على مسافة عشرين ميلا من نورابي، وإني آسف لأننا لم نحفظ خط الرجوع، وقد علمت من علاء الدين باشا؛ حكمدار السودان، أن العرب سيقطعون عنا الذخيرة والزاد، ويحدقون بنا من كل ناحية بعد أن يوغل جيشنا في البلاد، وزد على ذلك أن برك الماء ستجف، فلا يمكننا الاستقاء إلا بحفر الآبار. صحة العساكر جيدة، والحر شديد.
وانقطعت الأخبار عن هيكس وحملته من ذلك الحين، فخاف الناس خوفا عظيما، وكان أكثرهم وجلا والدي شفيق في لندرا، وفدوى في مصر، وأخذ الناس يقولون في مصير تلك الحملة أقوالا متضاربة، نقلا عن ألسنة العرب القادمين من تلك الأنحاء، حتى ثبت أخيرا أن تلك الحملة ذهبت بما فيها من الرجال والزاد والذخائر عطشا وقتلا بين العربة والأبيض، ولم يرجع منهم مخبر، فأصبح الكدر مستوليا على جميع الناس، ولا سيما على قلب والدي شفيق وهما لا يزالان في لندرا. ولما مضى عام 1883 ولم يرد لهم خبر عن شفيق، شقوا عليه الجيوب، ولبسوا أثواب الحداد، ولا تسل عن تلك الوالدة التي قضت شرخ الحياة في تربية الولد، فذهب إلى حرب ولم تعد تعلم عنه شيئا.
وأما ذلك الوالد الذي لم ير يوم سرور، وقد قضى معظم عمره في الانقباض والكدر، فلم يعد يخرج من البيت ولا يخاطب أحدا، واستولت عليه السويداء حتى لم يعد أحد يستطيع مخاطبته، حتى ولا امرأته، التي تضاعفت أحزانها بمعاشرة زوجها، وهو فيما تقدم من الانقباض والسويداء يكاد لا يخاطبها إلا فيما هو ضروري جدا، فأهملت أمر الصندوق والشعر.
أما فدوى فإنها بعد أن علمت بنكبة هيكس وحملته، أصبح النور في عينيها ظلاما، ولم تعد تستطيع طعاما، وأخذ جسمها في النحول، وجمالها في الذبول، وتكدر لذلك والدها ووالدتها، لكنهما كانا يعزيانها من وقت إلى آخر بأن الأخبار الصحيحة لم ترد على أحد؛ أي إنهم لم يسمعوا قائلا يقول إنه متحقق أن شفيقا في جملة من قتل، ولكنها لم تكن تصغي إلى قول أحد، بل كان يتمثل لها رسم شفيق، فكانت تقضي النهار واضعة هذا الرسم أمامها، والعبرات تتساقط من عينيها حتى أصبحت جلدا على عظم، فلازمت الفراش مدة طويلة حتى وصف لها الأطباء الخروج من القطر المصري؛ ترويحا للنفس. أما هي فلم تشأ الخروج من حجرتها لئلا يمنعها ذلك من البكاء والنحيب، ولكنهم ما زالوا بها حتى أجبروها على الخروج من القاهرة، وذهبوا بها إلى الأرياف، غير أن هذه الوسائل لم تجدها نفعا، فمكثت تزداد نحولا كلما ازدادت وسائط الانشراح والتنقل من بلد إلى آخر، فوصف لها الأطباء المسير إلى بر الشام وترويح النفس في ربى لبنان، لكنها لم تكن تجد سلوى ولا تعزية البتة، حتى أصبح والداها في يأس من حياتها. وكانا يحاولان جهدهما أن يبغضا شفيقا إليها؛ لعلمهما أنه لم يعد في عالم الحياة، وأنها كلما زادت به افتكارا زادت رقة ونحولا.
أما عزيز فقد تقدم أنه ازداد حقدا على شفيق بدلا من أن يخجل من وقاحته، فصار يود أذيته بأية الوسائل. ولما علم ما حل بحملة هيكس سر وابتهج، وكان يود أن يبلغ فدوى ذلك شفاها تشفيا منها، لكنه لم يكن يستطيع ذلك؛ لعلمه أن والدها وكل من في البيت عالمون بقصته، لكنه أقام عليها الأرصاد والعيون لاستطلاع حقيقة أفكارها؛ ظنا منه أنها حالما تيقن بضياع شفيق يتغير قلبها وتسلوه مع الزمن، فإن رأى أنها لم تزل على حبه جعل يدس في أفكار والدها على يد بعض الناس أن أحسن وسيلة لحفظ حياة ابنته إنما هي اشتغالها عنه بغيره.
فلما علم بقرب سفر فدوى من القاهرة جاء إلى والدها يسأله عن صحتها مظهرا الأسف الشديد على ذلك. وكان والدها لا يستنكف من مقابلته مراعاة لخاطر شفيق، وأملا بإعادة العلاقة بعد تحققه موت شفيق، فصار يتردد المرة بعد المرة للسؤال عن فدوى، ولكنه لم يتجاسر على أكثر من ذلك.
وكان والدها عالما أن اشتغالها بغير شفيق (إذا استطاعت) أحسن طريقة لتخفيف ضعفها، وقد لبث مدة في انتظار ورود كتاب والد شفيق، كما وعده شفيق، فلم يأته كتاب ولا خطاب، فخامره شك في حالة تلك العائلة. وكان ذلك من جملة ما حمله على تبغيض شفيق إلى فدوى، فوقع في حيرة وكثر بلباله. وكان كل ذلك مما يسر عزيزا؛ لأنه أمل بنيل مراده، ولكنه كان لا يزال يفكر في وسيلة للشماتة بفدوى المسكينة، فكتب إليها يوما رقعة بغير اسمه يذكر فيها قوله: «ذلك نتيجة الكبرياء واحتقار الناس، فأين شفيق الآن يا فدوى؟ وأين عظامه؟ هل رأيت في حبك له خيرا مما كنت تلاقين من غيره؟ أليست أسقامك هذه منه؟ وأما الذين نبذتهم فلسان حالهم يقول الآن:
من عاش بعد عدوه
Página desconocida