فقال الباشا: هذا الذي أنقذنا من الموت في الإسكندرية أنا وعزيز، قالت: أتعرف أن اسمه شفيق، قال (وقد بهت إذ تذكر ذلك الاسم): ولعله الذي خبرت عنه من عزيز! قالت: نعم، هذا هو الملاك الحارس الذي أنقذك من الموت مرة، وأنقذني منه مرتين، وأنقذ ذلك الخائن مرارا. فخجل شفيق وقد أذهله لطف حديث فدوى، حتى أوشك أن يغيب بسكرة الحب، فهم أن يتجمل بالاعتذار لمبالغتها بالوصف، فأدركت ذلك منه وقالت (وهي ترمقه بألحاظ ناطقة بأن لا أخشى في حبك لوم اللائمين): إذا ذكرت بسالتك فلا أكسبك رفعة؛ لأن أعمالك المتجددة مع الأيام ناطقة بذلك، فلا تحسب شكري لك على ما أوليتني من الفضل ثناء عليك. ولكي لا تدع له مجالا للكلام، وجهت الخطاب إلى والدها بعد أن أفهمته بألحاظها المراد، وقالت: أتلومني بعد هذا يا والدي إذا كنت ... وكأنها أحست بعدم لياقة ذكر الحب لوالدها، فكادت تتلعثم، فأتم والدها قولها إذا كنت تحبينه؛ أليس كذلك؟ فخجلت، ولكنها استأنفت الكلام قائلة: لا أجهل يا أبت أن وجودي بالقرب منه ولو ملثمة محظور في عوائدنا، غير أني لا أستحيي أن أقول إنه يجب معاملة من كان كهذا الشهم وقد أنقذني من الموت مرتين معاملة أقرب الناس مني، فأعد مقابلتي له على هذه الحالة مقابلتي لأقرب أقربائي.
فنهض الباشا حينئذ إلى شفيق وقبله ومدحه، فكرر شفيق ما حضره من عبارات الشكر والامتنان ؛ لما أظهراه له، ثم أخذوا بأطراف الحديث عن عزيز وأعماله، حتى انكشفت للكل سعايته، ورداءة جوهره، فأسف الباشا على ثقته به قدر أسفه على فقد ثروته بهذا الحادث، ثم سأل الباشا شفيقا: من أبوه؟
فقال: إن والدي اسمه إبراهيم، وهو أحد مستخدمي قنصلاتو إنكلترا في القاهرة، وقد قضى حتى الآن في خدمتها زهاء 18 سنة. فدهش الباشا لذلك وخاف ألا يكون مسلما، فقاطعه قائلا: ومن أي الطوائف؟ قال: من الطائفة الإسلامية. فازداد دهشة وقال: أمن الطائفة الإسلامية وقد قضى في خدمة الحكومة الإنكليزية جل عمره؟ فقد سمعت أنه ليس منها، فقال شفيق: كلا، بل هو منها، وأما تقربه من هذا القنصلاتو فيلوح لي أن له به سرا يود إخفاءه.
فقال الباشا: وأظن هذه البلاد ليست بلادكم؟
فقال شفيق: أعترف لك بجهلي الحقيقة كما هي، وإنما يترجح لدي أن والدي من أنحاء بر الشام. فاستأنف الباشا الحديث لئلا يضايق شفيقا، وعاد إلى التكلم في أمر عزيز، ولكنه أضمر في سره أن يبحث عن حقيقة حسب شفيق ونسبه قبل إتمام أمر الاقتران.
الفصل الثامن والثلاثون
شهامة شفيق
فقال الباشا: إن خيانة هذا الرجل تستوجب القتل.
أجابت فدوى: لا شك في ذلك، وإني أعجب كيف سعى شفيق إلى معالجته.
فقال شفيق: ألم يكن هذا الشاب من أصدقائي، بل رفيقي في المدرسة، فلا يليق بي أن أقابل جهله بالشر.
Página desconocida