فقالت: لا لا ... يا أبتي، وإنما أطلب إليك ... الإمهال بالأمر ريثما تختبر من غشتك ظواهره.
فقال: عبثا تتكلمين، فغدا ميقات الاقتران قبلت أم لم تقبلي. ثم تركها وخرج لا يلوي على شيء، وأخذ يهتم بمعدات الفرح، وبقيت تلك المسكينة تتقلب على نار الأسى، وتندب سوء بختها، فتراءى لها أن تستنجد والدتها، فلما ذهبت إليها وأطلعتها على الأمر أجابتها: خير لك الانصياع إلى أمر والدك من مخالفته؛ لأنه يسعى إلى خيرك، فما معنى مخالفتك له؟ ألعلك خبرت الدهر أكثر منه؟ أو لعله يريد بك سوءا؟ فعادت فدوى إلى غرفتها تضرس أنامل الأسى وتشكو المعاكسات التي ألمت بها، ولم ترث منصفة لضعفها، وبقيت بياض النهار وسواد الليل تتقلب على جمر الغضى، فلما كان الصباح أعد الباشا معدات الفرح من مأكول ومشروب، وأعدت تلك السيئة البخت جرعة سامة أخفتها حتى تكون في مأمن من انكشاف أمرها للسوى، حتى إذا تحققت وقوع المقدور تتجرعها وتتخلص من حياة تسخر قلبها فيها لسوى الحبيب.
أما عزيز فأخذته هزة الطرب لما نال من الفوز، فدعا من استطاع من أصدقائه إلى الاحتفال، ولبس أفخر ما لديه من اللباس متناسيا حالة البلاد التي كانت في خطر عظيم؛ فالجنود المصريون كانوا في التل الكبير يتوقعون هجوم الإنكليز عليهم وهم في تأخر مبين، والجنود الإنكليزية صاروا على مقربة منهم، وأما عزيز فنزع ثوبه الجهادي، ولبس ما اختار من اللباس؛ ليظهر به جميلا ذلك اليوم، ولو ساعدته الأحوال لجاء بالمغنين والمغنيات، واحتفل احتفالا عظيما.
فما كانت عصارى النهار إلا امتلأت القاعات بالمدعوين، فلما تأكدت فدوى الأمر وقعت في اليأس، وانفردت في غرفتها تندب شفيقا والحياة، وعولت على الإيقاع بذلك الخائن ثم بنفسها تخلصا من العار، فأرسلت تستدعي بخيتا. ولما حضر ألقت إليه الأمر، وأطلعته على عزمها من تجرع كأس الموت، فقال لها ودموعه تتناثر: لا تفعلي يا سيدتي، ولا تبيعي حياتك رخيصة. إن هذا الخائن والله غير بالغ ما يريد وأنا حي أرزق، فلا بد من أن أخطف روحه قبل أن يدركك ببصره، وبعد ذلك سواء عندي عشت أو مت؛ لأني أكون قد أقمت بما يجب علي، وخلصت نفسا طاهرة من العذاب والموت. وكان بخيت قد أعد فردا ناريا (ريفولفر)، حتى إذا تأكد عقد الزواج يطلقه على عزيز فيميته، ثم على نفسه فيموت الاثنان فداء لفدوى.
الفصل السادس والثلاثون
على الباغي تدور الدوائر
وفي الأصيل، بينما كان بيت الباشا غاصا بالجماهير وقد أحضر ما لزم لعقد الزفاف، جاءه خادم يقول: إن في الباب جاويشا وفي يده كتابا لسعادتكم. فخرج الباشا وتناول الكتاب، فإذا هو مكتوب بإيعاز عرابي باشا في قصر النيل؛ يقول فيه ما معناه:
إن امتلاك جنود العدو حصون التل الكبير يقضي على جميع أمراء العسكرية والملكية وأعيان البلاد بالحضور حالا إلى سراي قصر النيل؛ للمفاوضة في الاحتياطات اللازمة لمنع العدو من دخول مدينة القاهرة؛ فيجب حضوركم حالا حالا إلى السراي المشار إليها.
من قصر النيل
يوم الأربعاء في 13 سبتمبر سنة 1882
Página desconocida