فأظهر عزيز استحسانه لتلك الإفادة، وشكر شفيقا على ثقته فيه، ثم دخلا على الباشا في الغرفة واعتذرا إليه على انفرادهما، ثم دفع شفيق الأوراق إليهما، ونسي كتاب فدوى بينها، وقال لهما: إذا أردتما الذهاب فهاكما شعار الأمان المصطلح عليه هنا؛ وهو إذا التقى بكما أحد فقولا له: «السلام.» فهذا هو الشعار الأخير، فخرج الاثنان ينفضان غبار الموت عن منكبيهما، حتى أتيا مختبأ الباشا، وعزيز كل الطريق مشتت البصر لهذا الاتفاق العجيب، وهو يقول: من أين أتى ...؟ لا حول ولا ...! ألا يزال في قيد الحياة؟ فوالله إذا التحم الحرب بيننا وبين جيوش الإنكليز لأسعين إلى قتله ولو كلفني ذلك الحياة!
الفصل الثاني والثلاثون
خطبة فدوى لعزيز
فلما دخلا المنزل أثنى الباشا على عزيز؛ لأنه نجا بواسطته من الموت، فأبدى عزيز أمارات التعزز وشمخ بأنفه وقال للباشا: إن ما صنعه معنا هذا الرجل إنما هو مكافأة لما لي عليه من الصنع الجميع، لكنني سررت لاتفاق وجودك معي.
ثم نظر إلى الباشا كمن لديه خبر ذو بال، فلحظ الباشا ذلك منه، فحول إليه نظر الإصغاء وقال: ما وراءك؟ فقال عزيز: لدي أمر أرغب في إيراده على سعادة الباشا راجيا منه ألا يثقل على مسامعه، وهو - ولا أزيدكم علما بغيرتي على شرفكم وشرف الخاتون كريمتكم، وقد أتيت من مصر لهذه الغاية ...
فقال الباشا: ماذا ...؟ بربك عجل في إيراد الحديث، قال: أتذكر ليلة كنا في الملعب ولمحت لك بشيء من وجوب التيقظ على ذهاب السيدة فدوى وإيابها؟ قال الباشا: نعم، قال عزيز: إن كلامي لم يكن عبثا؛ لأني عرفت أن أحد شبان العاصمة سعى إلى إغوائها، وهي لصفاء جوهرها، وسلامة نيتها، وقعت في شركه؛ حتى إنها علقت بحبه. ولما ظهرت الثورة العرابية سافر ذلك الشاب إلى بلاد الإنكليز وشرع يكاتبها من هناك حتى كاتبته. وفي هذه المدة المتأخرة عثرت على كتاب منها إلى والدته، فاستحصلت عليه وجئت به إليك؛ لتعلم صدق خدمتي لشرف سعادتك، ثم استحضر الأوراق، واستخرج الكتاب المعهود، وأعطاه إياه، ففضه وقرأه، وما انتهى إلى آخره حتى صار الباشا ينتفض من الغضب ويلعن ابنته، فقاطعه عزيز وقال: إن طيبة قلبها وحسن طويتها هما اللذان غشيا على بصرها، ثم قال: إن سعيي وراء شرف الخاتون كريمتك لم يكن إلا لما رأيت فيها من الخصال الحميدة، فتعلق قلبي بها، والآن أعترف لك أني أحببتها، وأمدح صفاء جوهرها، وطيب عنصرها، فهل تريد أن تجعلني في مكان ذلك الغر الخائن، فأكون لها بعلا، ولك صهرا، وعند ذلك تكون لي بمثابة والد، وتضع يدك على جميع أموالي، فاستبشر الباشا من كلام عزيز ببلوغ مناه، فقال له على الفور: إنك لتفضلها كثيرا، وهي لا تستحق أن تكون لك زوجة، وقبولك بالاقتران بها أعده لي شرفا، فقال عزيز: العفو يا سيدي، إنها مهما كان من أمرها، فلم تخرج عن كونها من الأصل الكريم، والعنصر الشريف، وإني أحسب نفسي سعيدا إذا عاهدتني على الاقتران بها، فقال: قد وهبتها لك زوجة، فبورك لك فيها.
فابتهج عزيز لنجاح مسعاه، وشرع يؤمل اكتسابها قهرا عنها، ونسي بغضها له ونفورها منه، وحبها شفيقا، وائتلاف قلبيهما على حب صادق، ثم أتى الخادم يدعوهما للطعام، فذهبا وجلسا إلى المائدة، فقال الباشا: ما أخبار جنودكم؟ قال: هم بخير يتأهبون للدفاع في كفر الدوار، فقال الباشا: إنكم لم تحسنوا التصرف في الأمر كما كان يجب، ولقد بالغتم في الاستبداد فكانت أعمالكم بادئ بدء حسنة المظاهر كريمة الغاية. أما الآن فلا ينجلي من وراء هذا الاستبداد سوى أغراض نفسية ليست بشيء من فائدة الوطن، بل هي مضرة به.
فقال عزيز: إننا لم نطلب يا سعادة الباشا إلا المطاليب العادلة التي تعود على الوطن بالنفع العميم.
قال الباشا: هب أن جميع مطاليبكم عادلة؛ أترومون تنفيذها دفعة واحدة في يوم واحد، فإن لله في عباده سنة لا محيد عنها، والإصلاح مهما كان بينا لا يمكن إدخاله إلا تدريجا، وفضلا عن ذلك فقد بالغتم في عقوق إحسان ولي النعم الذي لم يظهر لكم من أعماله منذ اعتلى أريكة الخديوية إلا كل حسن نافع، فإنه رجل مخلص لرعيته، محب لمصلحتهم، ساهر على خيرهم. أفتقولون إنه ساع إلى بيع الوطن؟
فقال عزيز: لم نقل ذلك إلا بعد أن رأيناه يقبل نجدة الدول الأجنبية علينا.
Página desconocida